غورباتشوف والانهيار السوفيتي بقلم روجر كيران

الأردن العربي – الأربعاء 30/8/2023 م …




هذه نسخة معدلة من محاضرة قدمها روجر كيران لمعهد الدراسات النقدية للمجتمع ICSS في مكتبة نيبيل بروكتور، أمريكا ، 25 سبتمبر 2022.

 …………

أود أن اشكركم على الدعوة ، هذه دعوتي الثانية للتحدث إلى مجموعتكم.

أود أولاً أن اشكر زميلي في التأليف جو جيمسون. يستحق جو الفضل في طرحه فكرة تأليف كتاب عن انهيار الاتحاد السوفيتي. وقد ادى ذلك إلى 20 عاما من التعاون بيننا. لقد تحدثنا في فرنسا واليونان وكوبا. نواصل التعاون على موقع الماركسية اللينينية اليوم . لقد قضينا معا 20 عاما من العمل والصداقة.

سأقسم تعليقاتي عن غورباتشوف والانهيار السوفياتي الى ثلاثة اجزاء.

أولاً ، سأقدم بعض الملاحظات الأولية حول وفاة غورباتشوف.

ثانيًا ، سألخص وجهة نظرنا حول دور غورباتشوف في الانهيار السوفياتي الذي قدمناه في كتاب الاشتراكية المغدورة Socialism Betrayed .

أخيرًا ، سأتناول أحدى الأسئلة المهمة المتداولة حول غورباتشوف: متى ولماذا انقلب على الماركسية اللينينية وتحول الى اشتراكي ديمقراطي؟

موت غورباتشوف  

توفي ميخائيل غورباتشوف في 30 أغسطس عن عمر يناهز 91 عاما . و في 3 سبتمبر ، حسب صحيفة الإندبندنت البريطانية ، دفن بحضور مئات المعزين الروس. في تناقض مثير للاهتمام ، قبل عدد من السنوات في فرنسا، شاهدت فلما عن جنازة انريكو بيرلنغوير زعيم الحزب الشيوعي الايطالى. عندما توفي بيرلنغوير في عام 1984 ، بعد قضاء حياة كاملة في الدفاع عن الطبقة العاملة ، عن الحزب الايطالى و مبدأه الماركسي اللينيني، لم يكن في الجنازة مئات بل اكثر من مليون ايطالي ، أكبر جنازة في إيطاليا على الإطلاق.

بالطبع ، لم يكن غورباتشوف بلا مشيعين و تأبين، لكنهم لم يكونوا العمال الروس ، أو المواطنين السابقين للاتحاد السوفيتي ، أو عمال العالم. لم يكونوا الأفغان الذين تركوا تحت رحمة الجيش الاميركي و الأصوليين الاسلاميين بعد أن تخلى عنهم غورباتشوف. لم يكونوا الكوبيين الذين رموا الى معاناة تلك الفترة المسماة بالفترة الخاصة، بعد ان قطع غورباتشوف عنهم بلايين الدولارات من دعم السكر و النفط، و لم يكونوا جنودًا روس و اوكران يموتون في حرب لم تكن تحدث أبدآ ،لو بقي الإتحاد السوفياتي. الذين ذرفوا الدموع، كانوا اصحاب البنوك ، و صحفيين مدافعين عن الإمبريالية. امتلأت الصحافة الغربية بنعي متزلف. عندما يقرأه الانسان يصاب بالحنق من وقاحتهم و نفاقهم.

قال جيمس بيكر الثالث ، وزير الخارجية في عهد جورج بوش: “سيكون العالم ممتنًا له إلى الأبد” ، رجل “بمزاج متفائل أذهل الجميع” ، و”زعيم شجاع للغاية ،كان مناصرًا ملهمًا لمزيد من الحرية”. وفي سياق مماثل، كتب ديفيد ريمنيك، محرر مجلة نيويوركر: “كان غورباتشوف “يمتلك المثالية والمهارة السياسية لإنشاء شيء مهم في العالم… نادر للغاية: الشعور باللياقة و الوفاء بالوعد”.
كان القاسم المشترك الأكبر لانجازات غورباتشوف المزعومة، على حد تعبير جيمس بيكر ، “الدور المحوري الذي لعبه في النهاية السلمية للحرب الباردة”.

لكي نكون كرماء ، صحيح أن الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة انتهت ، ولكن فقط لأن الاتحاد السوفيتي انتهى. لم يدشن غورباتشوف عالم أكثر سلامًا. في الواقع ، العكس هو الصحيح. إن ما يسمى بنهاية الحرب الباردة لم يفشل فقط في أن يؤدي إلى أي تخفيض في الأسلحة النووية ، ولكنه شجع الإمبرياليين الأمريكيين على الانخراط في حروب ساخنة جديدة في أفغانستان ويوغوسلافيا والعراق وسوريا وليبيا وتوسيع الناتو بالطريقة التي أثارت الصراع الحالي في أوكرانيا. يمكننا أن نضيف أن ذلك شجع الولايات المتحدة على شن حرب باردة جديدة ضد الصين.

هل أصبح العالم أكثر أماناً من الحرب النووية بعد غورباتشوف؟ ليس وفقا لأنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة. وفي حديثه يوم 5 أغسطس، قبل ثلاثة أسابيع من وفاة غورباتشوف، قال غوتيريش: إن سباق التسلح الجديد يتسارع، ويوجد حاليًا ما يقرب من 13000 سلاح نووي في الترسانات حول العالم. “إن الأزمات ذات النغمات النووية الخطيرة تنتشر بسرعة – من الشرق الأوسط إلى شبه الجزيرة الكورية، إلى الغزو الروسي لأوكرانيا… إن الإنسانية تلعب بمسدس محشو”.

في جميع التأملات السائدة عن حياة غورباتشوف ، هناك ثلاث صور مذهلة لن تجدها.

الصورة الأولى لنجيب الله الذي كان الأمين العام لحزب الشعب الديمقراطي الأفغاني. وكان هذا هو الحزب الذي حاول إحداث الثورة في أفغانستان. لقد جلب نموًا اقتصاديًا بنسبة 24 بالمائة سنويًا لبلد غارق في الإقطاع والقبلية. لقد جلب التعليم إلى بلد كان 90 بالمائة منه أميين. وبالفعل، بدأت الحرب الأهلية التي شنها أمراء الحرب ضد حزب الشعب الديمقراطي باغتيال معلمات البنات. (انظر فيليب بونوسكي ، أفغانستان: حرب واشنطن السرية  الذي يروي هذه الإنجازات.)

لقد دعم الاتحاد السوفييتي الحكومة الأفغانية بثبات. ولكن السوفييت قاوموا إرسال قوات حتى عام 1979. ثم بعد ثلاثة طلبات من جانب الحكومة الأفغانية وبعد أن بدأت وكالة المخابرات المركزية في مساعدة الأصوليين الاسلاميين فيما أصبح أكبر عملية لوكالة الاستخبارات المركزية في العالم، أرسل الاتحاد السوفييتي قواته. (قال زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس كارتر: “لقد قمنا عن علم بزيادة احتمال قيامهم [السوفييت] بالتدخل”. ويمكن للمرء أن يقول الشيء نفسه عن أوكرانيا. التوسع الأمريكي لحلف شمال الأطلسي والخطة لضم أوكرانيا زاد عن عمد احتمال التدخل الروسي).

كانت إحدى أولى تحركات السياسة الخارجية لغورباتشوف هي التوقف عن إلقاء اللوم على الإمبريالية في الصراع في أفغانستان والإشارة إلى رغبته في الانسحاب. سرعان ما عكس غورباتشوف سياسات بريجنيف وأندروبوف وتشرنينكو ، الذين كانوا ينظرون إلى المساعدة الأفغانية على أنها تعبير عن التضامن الأممي . تشير سارة مندلسون ، مؤرخة الحرب ، إلى أن قرار غورباتشوف لم يكن بسبب هزائم في ساحة المعركة أو بسبب معارضة الحرب في الداخل. لقد كان ، كما يقول المرء في لعبة شطرنج ، خطأ غير اجباري سببه رغبة غورباتشوف في إرضاء الولايات المتحدة.

في غضون سنوات قليلة ، انسحب السوفييت ، وأطاح المجاهدين *بحكومة نجيب الله. لجأ نجيب الله وآخرون إلى مكاتب الأمم المتحدة في كابول. ليلة 22 سبتمبر / أيلول 1996. قامت طالبان باختطافه من حجز الأمم المتحدة ، و قطعت عضوه الذكري، وعذبوه حتى الموت ، وسحبوا جثته خلف شاحنة في شوارع كابول، ثم علقوا جسده على عمود إنارة خارج القصر الرئاسي.

هذه الصورة من حكم غورباتشوف لم تصل إلى مقالات النعي.

الصورة الثانية التي لن تراها تتعلق بكوبا. لقد دعم الاتحاد السوفييتي كوبا منذ الثورة. وقف خروتشوف إلى جانب كوبا خلال أزمة الصواريخ. وكان الاتحاد السوفييتي قد أعطى كوبا حوالي 5 مليارات دولار سنويًا ،من النفط الرخيص وغيره من الضروريات لمواجهة الحصار الأمريكي. وأنهى غورباتشوف هذه الممارسة الأممية وأغرق كوبا في البؤس الاقتصادي فيما تسميه كوبا “الفترة الخاصة”. بين عامي 1990 و1993 انخفض الناتج القومي الإجمالي في كوبا بنسبة 50%..

وبعد عقدين من الزمن، في عام 2014، قمت أنا وجو بزيارة مانويل ييبي، أحد قادة الثورة الكوبية، وزوجته مارتا، و قد نشرا كتابنا عن الاتحاد السوفييتي في كوبا. قالت مارتا، التي تدرّس في جامعة هافانا، إنه من المدهش كيف تمكنت دائمًا من معرفة أي من طلابها كانوا أطفالًا خلال الفترة الخاصة. بسبب سوء التغذية، نشأ أطفال تلك الفترة مصابين بالتقزم، وهي حقيقة ظلت واضحة عليهم عندما كانوا شبانًا بالغين.

هذه الصورة أيضًا لم تذكر في النعي.

الصورة الثالثة التي ألفت انتباهكم إليها هي لغورباتشوف نفسه.

في عام 1996، بعد ست سنوات من تفكك الاتحاد السوفييتي، كان رأسماليو العصابات والمستثمرين الأجانب ينهبون المصانع والمناجم التي بناها العمال الروس على مدى سبعين عاما. وانهار اقتصاد البلاد بنسبة 50 بالمئة. وانخفضت الدخول. انخفض متوسط العمر المتوقع إلى ما كان عليه في عهد القيصر. لقد خضعت روسيا لما أسماه المؤرخ ستيفن ف. كوهين «عملية غير مسبوقة لنزع الحداثة». في عام 1996، ترشح غورباتشوف لمنصب رئيس روسيا. في كل مكان قام فيه غورباتشوف بحملته الانتخابية، كان الروس يضايقونه ويسبونه. وفي الانتخابات، حصل على 0.5% من الأصوات. وحصل بوريس يلتسين على 36% من الأصوات، والشيوعي غينادي زيوغانوف على 33%.

وفي الوقت نفسه، قام غورباتشوف، الذي سمى نفسه لينينيًا في الماضي، بعمل إعلان تجاري تلفزيوني لبيتزا هت، و الذي قيل إنه حصل على مليون دولار مقابله .

إن صور غورباتشوف وهو يتعرض للمضايقات وصور غورباتشوف وهو يمضغ بيتزا أمريكية لم تذكر في كلمات التأبين..

غورباتشوف والانهيار السوفيتي  

اسمحوا لي بشرح وجهة نظر حول غورباتشوف والانهيار السوفياتي قدمناها في كتاب ” الاشتراكية المغدورة “. سأقوم فقط بتلخيص الحجة الرئيسية دون ذكر كل الحقائق والتفاصيل التي نستخدمها لدعم هذه الحجة. هذه كلها متوفرة في الكتاب.

كانت سياسات غورباتشوف السبب المباشر للتخلي عن الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وكل ما أنجزتها، لكن لم يكن غورباتشوف ولا الانهيار السوفيتي حتميين. لم يكن الاتحاد السوفيتي في أزمة عام 1985.

باستثناء سنوات الحرب الأهلية والحرب العالمية الثانية ، نما الاقتصاد السوفييتي كل عام أسرع من الولايات المتحدة. ظل هذا صحيحًا حتى أواخر الثمانينيات من القرن الماضي ، ولم يظهر الاتحاد السوفيتي أيًا من سمات مجتمع يمر بأزمة. لم يكن هناك عاطلين عن العمل أو تضخم. لم تكن هناك إضرابات أو مظاهرات احتجاج حاشدة أو أعمال شغب. أظهرت الدراسات الاستقصائية في ذلك الوقت أن الشعب السوفيتي كان سعيدًا بنظامه كما كان الأمريكيون سعداء بنظامهم.

لقد كانت الاشتراكية السوفييتية، بكل المقاييس، نجاحًا باهرًا للطبقة العاملة. وقد حققت مكاسب هائلة في رفع الأجور، وتحسين التعليم والرعاية الصحية، والنهوض بحقوق المرأة والأقليات القومية. وكما لاحظت الأمم المتحدة، فإن مواطني الاتحاد السوفييتي قرأوا عددًا أكبر من الكتب والمجلات و الجرائد ، وحضروا من الحفلات الموسيقية والمسرحيات والأفلام والمعارض الفنية أكثر من أي شعب آخر على وجه الأرض. لقد قال مايكل بارينتي ذلك ببساطة: لقد حقق الاتحاد السوفييتي «تحسناً هائلاً في الظروف المعيشية لمئات الملايين من الناس على نطاق لم يسبق له مثيل في التاريخ أو منذ ذلك الحين»..

واجه الاتحاد السوفيتي مشاكل.  

لم يكن الاتحاد السوفييتي يوتوبيا اشتراكية. كان لديه مشاكل. وكانت هناك شكاوى حول كمية ونوعية السلع الاستهلاكية. وكانت هناك سوق سوداء كبيرة وفساد بعض المسؤولين. واستمر النمو الاقتصادي، ولكن معدل النمو تباطأ. كانت هناك أوجه قصور جسيمة ونقص في الانضباط في العمل. كان الاتحاد السوفييتي بطيئًا في استخدام أحدث التطورات في تكنولوجيا الكمبيوتر في الإنتاج. بالإضافة إلى ذلك، كان الاتحاد السوفييتي في خضم حرب باردة جديدة (بدأها الرئيس جيمي كارتر) أجبرت السوفييت على تحويل مليارات الروبلات إلى الجيش. وأخيرا، كان هناك نوع من الركود الإيديولوجي والسياسي، الذي يرمز إليه الزعماء الثلاثة الذين سبقوا غورباتشوف. كانوا جميعًا كبارًا و مرضى ضعفاء وماتوا في مناصبهم.

هذه المشاكل رغم أنها مزمنة لم تكن حرجة. علاوة على ذلك، كان الاتحاد السوفييتي في وضع جيد للتعامل معها ، عندما جاء زعيم جديد، يوري أندروبوف، بعد وفاة بريجنيف. كان أندروبوف شيوعيًا ذكيًا وذو خبرة ومخلصًا. وكان يدرك جيدا المشاكل والسياسات المقدمة لمعالجتها. وقام بمبادرات للحد من التوتر مع الغرب، وتشجيع قادة نشيطين جدد، وزيادة انضباط العمل، وتعزيز نشر الابتكار التكنولوجي. كان كل شيء يسير على ما يرام لأندروبوف القائد ،باستثناء الوقت. بعد ثمانية عشر شهراً من توليه منصبه، توفي بسبب الفشل الكلوي.

أصبح غورباتشوف أميناً عاماً للحزب الشيوعي السوفييتي في مارس/آذار 1985. وقد سار على خطى أندروبوف في البداية، ولكنه سرعان ما غير مساره.

بحلول أواخر عام 1985 ، بدأ غورباتشوف في التخلي عن الأفكار الماركسية اللينينية الأساسية: المادية الديالكتيكية والصراع الطبقي والدور القيادي للحزب الشيوعي. لقد استبدلها بنهج اشتراكي ديمقراطي رأى حل مشاكل الاشتراكية من خلال تقديم تنازلات من جانب واحد للإمبريالية و إدخال الأفكار الرأسمالية ، أي المشاريع الخاصة والسوق ، في الاشتراكية.

كانت سياستا غورباتشوف الرئيسيتان، الغلاسنوست والبيريسترويكا، بمثابة أخذ فكرتين شيوعيتين قديمتين وحقنهما بمحتوى ديمقراطي اجتماعي جديد. الغلاسنوست، التي كانت تعني في الأصل المزيد من الانفتاح من جانب الحزب الشيوعي، تحولت إلى سياسة الهجمات المفتوحة على الحزب الشيوعي. البيريسترويكا التي كانت تعني في الأصل إعادة الهيكلة لتحقيق قدر أكبر من الكفاءة وانضباط العمل، تحولت إلى تفكيك التخطيط المركزي وتعزيز المشاريع الخاصة..

لم يسقط غورباتشوف من السماء. كان نتاج الظروف السياسية التي سبقته.

أولا، كان يمثل استمرارا للفكر الاشتراكي الديمقراطي في الحزب الشيوعي السوفياتي الذي تجلى سابقا في نيكولاي بوخارين ونيكيتا خروتشوف. كان جوهر هذا النهج هو أنه يمكن للمرء أن يتقدم بالاشتراكية عن طريق تقليص دور الحزب الشيوعي وإدخال أفكار راسمالية عن القرار المستقل للمنشآت، وآليات السوق، والملكية الخاصة إلى الاشتراكية..

ثانيًا ، عكست المصلحة الطبقية للبرجوازية الصغيرة المتنامية المتجذرة في القطاع الآخذ في التوسع للاقتصاد الثاني أو الخاص ، وهو قطاع كان موجودًا مع الاقتصاد الأول أو الاشتراكي. في ظل الاشتراكية السوفيتية ، كان يُحظر معظم النشاط الاقتصادي الخاص. سُمح للمزارعين بامتلاك قطع أرض صغيرة وسمح لبعض الحرفيين والمهنيين بالقيام ببعض الأعمال الجانبية.

تغير هذا بعد وفاة ستالين. في عهد خروتشوف ، سمح بمزيد من النشاط الاقتصادي الخاص و تطوير السوق السوداء للنشاط الخاص غير القانوني. في السنوات التي تلت ذلك ، ازداد كلاهما ، ولا سيما السوق السوداء التي وصلت بحلول الثمانينيات إلى كل ركن و زاوية في المجتمع السوفيتي ، وشارك فيها ملايين الأشخاص كمستهلكين وبائعين ، وشكلت نسبة متزايدة من جميع الأنشطة الاقتصادية. خلقت السوق السوداء مشاكل كبيرة. لقد اشتملت على سرقة الوقت والمال من مؤسسات الدولة. ولأنه كان غير قانوني ، فإنه لا يمكن أن يوجد إلا من خلال إفساد المسؤولين. والأهم من ذلك ، أنها أوجدت أساسًا اجتماعيًا متنامياً للقيم والأيديولوجية اليمينية.

باختصار، كان غورباتشوف كظاهرة سياسية نتاجًا للتوجهات اليمينية التاريخية في الحزب والأساس البرجوازي الصغير الجديد لهذه الأفكار في الطبقة الاجتماعية المرتبطة بالاقتصاد الثاني.

لماذا اتجه غورباتشوف نحو سياسات الاشتراكية الديمقراطية في أواخر عام 1985 وعام 1986؟

هناك ثلاثة تفسيرات مفتوحة: 1. تفسير يساري أو يساري متطرف ، 2. تفسير اشتراكي ديمقراطي ، 3. تفسير ماركسي لينيني.

التفسير اليساري أو اليساري المتطرف أن غورباتشوف كان دائمًا (أو على الأقل لفترة طويلة) ديمقراطيًا اشتراكيًا. لقد قام ببساطة بإخفاء وجهات نظره وأهدافه الحقيقية حتى أتيحت له القوة والفرصة لتنفيذها، ثم فعل ذلك بطريقة مخادعة من خلال الزعم بالعودة إلى لينين. هناك تنويعات كثيرة لهذا التفسير مثلا يرى أن غورباتشوف عميل لوكالة المخابرات المركزية.

المشكلة هنا. وكما قال شي جين بينغ، التفسير الماركسي لأي شيء يجب أن يبدأ بالحقائق. والحقائق ببساطة ليست موجودة لدعم هذه النظرية الأولى..

كان أقوى القادة الشيوعيين وأكثرهم احترامًا في ذلك الوقت هما يوري أندروبوف وإيغور ليغاتشيف.

كان أندروبوف يعرف غورباتشوف منذ سنوات، حيث كان كلاهما من ستافربول. كان أندروبوف قد أحضر غورباتشوف إلى موسكو وقام بترقيته إلى اللجنة المركزية. ولم يعرب أندروبوف، الذي كان هو نفسه مسؤولاً عن الأيديولوجيا قبل أن يصبح أميناً عاماً، أدنى شك في أن غورباتشوف كان ديمقراطياً اشتراكياً.

وبالمثل، فإن ليغاتشيف، الذي كان لسنوات عديدة زعيم الحزب في نوفوسيبيرسك، والذي كان سكرتير الحزب أو الرجل الثاني في القيادة بعد غورباتشوف، لم يعتقد أبدًا أنه كان ديمقراطيًا اشتراكيًا في السر. حمل ليغاتشيف غورباتشوف مسؤولية تدمير الاتحاد السوفييتي وأعرب عن أسفه لدعمه له، ومع ذلك لم يقل أبدًا أنه يعتقد أن غورباتشوف كان يتصرف وفقًا لخطة اشتراكية ديمقراطية معدة مسبقًا.

وكان الشيوعي الوحيد الذي اقترب من قبول هذا التفسير هو إريك هونيكر، آخر زعيم لجمهورية ألمانيا الديمقراطية. في مذكراته التي كتبها في السجن بعد أن سجنه القادة الجدد المناهضون للشيوعية في ألمانيا، كتب هونيكر: “المجموعة الجديدة من القادة حول غورباتشوف في مارس 1985، شيفرنادزه، وياكوليف، ويلتسين، الذين وصلوا إلى قمة الدولة و الحزب السوفييتي” كان لديهم هدف، ندركه بوضوح اليوم، وهو “تغيير النظام”. “إن الخطوات الأولى في هذا الاتجاه تم إنجازها باسم لينين، مؤسس السلطة السوفييتية، وإخلاصهم له لا يغير شيئا. يذكر شيفرنادزه في مذكراته أنه التقى بغورباتشوف في خريف عام 1984، وأنه خلال سيرهما على شاطئ البحر الأسود، اتفقا على أنه من الضروري “تغيير النظام برمته”. (إريك هونيكر، دفاتر السجن. نُشرت لأول مرة عام 1995، وباللغة الفرنسية عام 2009).

وهكذا، فحتى هونيكر الذي صدق أن غورباتشوف ومن حوله “كان لديهم هدف” هو “تغيير النظام برمته”، حتى قبل أن يصلوا إلى السلطة، لا يشير إلى ما كان هذا الهدف أو ما كان سيؤول إليه هذا التغيير.

كان التفسير اليميني أو الاشتراكي الديمقراطي لسبب تغير غورباتشوف هو أنه لم يكن لديه خيار آخر، وأنه واجه مقاومة كبيرة من قادة آخرين في الحزب الشيوعي وكذلك من أصحاب المصالح الخاصة في البيروقراطية والمؤسسات، وأنه لم يكن لديه خيار سوى إضعاف الحزب وإضعاف التخطيط المركزي.

ومشكلة هذا التفسير هي أن الحقائق لا تدعمه. لم يواجه غورباتشوف أي معارضة خلال العامين الأولين. تم الترحيب بإصلاحات غورباتشوف الأولية بحماس من قبل الشيوعيين السوفييت والشيوعيين في الخارج. وحتى بوريس يلتسين، الذي أصبح لاحقًا منتقدًا ماكرًا لغورباتشوف من اليمين، وإيغور ليغاتشيف الذي أصبح منتقدًا شرسًا لغورباتشوف من اليسار، أيدا إصلاحات غورباتشوف في البداية. ولم يبدأوا في معارضته إلا بعد أن اتخذ بالفعل خطوات لإضعاف الحزب، وتسليم وسائل الإعلام لمناهضي الشيوعية امثال ياكوليف، وفتح الباب على مصراعيه أمام الانتقادات المناهضة للحزب.

التفسير الثالث لسبب تغير غورباتشوف هو أن غورباتشوف لم يكن زعيما قويا ذو فهم قوي للماركسية اللينينية، وبالتالي لم يكن قادرا على مقاومة الضغوط التي كانت تأتي من جناح اليمين في الحزب مثل ياكوليف ويلتسين، وشيفاردنادزه، وكذلك من تلك العناصر البرجوازية الصغيرة التي تستفيد من الاقتصاد الثاني، وكذلك من العالم الرأسمالي الذي كان يشجع كل تحركاته اليمينية.

لم يدرس أحد الاتحاد السوفيتي عن كثب مثل الحزب الشيوعي الصيني. لخص الأمين العام شي جين بينغ تفكير الحزب في عام 2013 ، والذي يتوافق مع ما كتبناه قبل سنوات:

“لماذا تفكك الاتحاد السوفييتي؟ لماذا انهار الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي؟ أحد الأسباب المهمة هو المنافسة الشرسة في المجال الأيديولوجي! إن التنصل الكامل من التجربة التاريخية للاتحاد السوفييتي، والتنصل من لينين، والتنصل من ستالين كان يعني إحداث فوضى في الأيديولوجية السوفييتية والانخراط في العدمية التاريخية. لقد جعل منظمات الحزب على جميع المستويات بالكاد تؤدي أي وظيفة على الإطلاق. لقد سلب الحزب قيادته للجيش. وفي النهاية، تشتت الحزب الشيوعي السوفييتي، رغم عظمته، مثل قطيع من الحيوانات البرية الخائفة… هذا هو الدرس من الماضي!»

كانت مشكلة غورباتشوف أنه لم يفهم الماركسية اللينينية أو لم يكن ملتزمًا بالأفكار الماركسية اللينينية.

إن إثارة فكرة “القيم الإنسانية الكونية ” بالضد من القيم الطبقية وتقديم تنازلات أحادية الجانب للإمبريالية كما فعل في أفغانستان وكوبا ومع ما يسمى باقتراح ريغان “الخيار الصفري”، كان بمثابة كشف عن نقص أساسي في فهم الديالكتيك و الصراع الطبقي على المستوى العالمي . إن الاستسلام من جانب واحد لم يكن صراعا طبقيا.

كان الهجوم على سلطة الحزب الشيوعي بمثابة خيانة أساسية للدور المركزي والقيادي للحزب الطليعي.

إن مهاجمة ستالين ولينين كانت إما خيانة ساذجة أو انتهازية.

و مهاجمة التخطيط المركزي وملكية الدولة بمثابة تقويض الركيزتين الاقتصاديتين للاشتراكية.

لم يكن غورباتشوف زعيماً ذا خلفية أيديولوجية عميقة أو خبرة غنية. بصرف النظر عن بعض الاقتباسات العرضية للينين، فإن كتاباته وخطبه لم تظهر أبدًا أي معرفة أو دراسة للماركسية. قضى حياته السياسية بأكملها قبل موسكو كزعيم لستافروبول، وهي مقاطعة من المنتجعات الصحية و السياحية . شبه أحد المؤرخين خلفيته بكونه عمدة مدينة لاس فيغاس[مدينة الترفيه و السياحة و القمار في الولايات المتحدة-المترجم]. واقتصر سفره على الدول الغربية، ولم يسافر حتى إلى أجزاء أخرى من الاتحاد السوفييتي.

وبوسع المرء أن يدرك مدى ضحالة السيرة الذاتية لغورباتشوف من خلال مقارنة حياته بحياة أندروبوف. عمل أندروبوف بشكل وثيق مع ثلاثة من القادة الشيوعيين العظماء، أوتو كوسينين، زعيم الحزب الشيوعي الفنلندي، و مولوتوف، و الذي لسنوات عديدة الزعيم الثاني في عهد ستالين، و ميخائيل سوسلوف، المسؤول الأيديولوجي للحزب لسنوات عديدة. لم يكن لدى غورباتشوف مثل هؤلاء الموجهين..

كانت مسيرة أندروبوف مليئة بالمناسبات التي تطلبت قدرًا كبيرًا من الشجاعة والهدوء والحزم. خلال الحرب العالمية الثانية حارب مع الثوار في فنلندا. وكان لسنوات عديدة سفيراً إلى هنغاريا، بما في ذلك أثناء تمرد عام 1956. وأثناء ستينيات القرن العشرين، بصفته رئيساً للكي جي بي، كان مسؤولاً عن قمع وتبرير قمع المثقفين مثل ألكسندر سولجينتسين. كما كان مسؤولاً عن مكافحة الفساد مما أدى، من بين أمور أخرى، إلى استبدال قيادة الحزب بأكملها وحكومة أذربيجان والتحقيق في فساد ابنة بريجنيف وصهره. ولم يكن غورباتشوف قد حصل على خبرة صقلته بشكل مناسب.

فكرتان أخيرتان عن غورباتشوف

بقدر ما كانت خيانة غورباتشوف مزعجة ومحبطة ، من المهم التعلم منها.

شيء واحد يجب أن نتعلمه هو أن خيانة غورباتشوف لم تكن فريدة من نوعها في تاريخ الاشتراكية الثورية. والاستثنائي هو أنه كان رئيساً للدولة، وذهب بعيداً ولم يتم إيقافه .

كانت هناك خيانات أخرى ملحوظة. وكان جورجي بياتاكوف، ونيكولاي بوخارين، وليون تروتسكي، جميعهم لديهم معرفة بالماركسية، وكان لديهم مؤهلات ثورية قوية وشغلوا مناصب قيادية مسؤولة. لقد ساعد الجميع في صنع الثورة البلشفية، ومع ذلك فقد خانوا الثورة. لقد ألحق نيكيتا خروتشوف ضررًا كبيرًا بالثورة بسبب رفضه الشامل لجزء كبير من التاريخ السوفييتي وجهوده غير المدروسة لمحاكاة الرأسمالية، لكنه لم يتخلى أبدًا عن الأممية الاشتراكية، ولم يهاجم الحزب الشيوعي أو يفكر في التغييرات الاقتصادية والسياسية التي تبناها غورباتشوف.

لقد عانى الشيوعيون الأمريكيون أيضا من خيانات. كان جاي لوفستون سكرتيرًا وطنيًا للحزب في عام 1927 عندما بدأ في تطوير أفكار تحريفية، بما في ذلك فكرة الاستثناء الأمريكي، والتي تقول بأن الولايات المتحدة كانت استثناءً للاتجاه العالمي للصراع الطبقي المتزايد. بعد طرده، أصبح مناهضًا صريحًا للشيوعية، وعمل مع ديفيد دوبنسكي لطرد الشيوعيين من الحركة العمالية، وانتهى به الأمر بالعمل مع وكالة المخابرات المركزية كخبير في الشيوعية. تحول إيرل براودر، زعيم الحزب الشيوعي الأمريكي في ذروة الثلاثينيات، إلى اليمين في الأربعينيات وقام بتصفية الحزب مؤقتًا. سام ويب كان زعيم الحزب بعد غَسْ هولْ. انتقل إلى اليمين، وألغى الكثير من أجهزة الحزب، وتخلى عن الأفكار الأساسية، وفي النهاية ترك الحزب وانضم إلى الحزب الديمقراطي..

ومن الواضح أن خطر الخيانة الأكبر والأكثر استمرارا يأتي من اليمين، أي الانتهازية اليمينية و الاشتراكية الديمقراطية. لقد قالها ستالين بوضوح عام 1928: “الانحراف اليميني… هو ميل قسم من الشيوعيين للانحراف عن الخط الثوري للماركسية في اتجاه الاشتراكية الديمقراطية”. وسيظل هذا صحيحا طالما ظلت الرأسمالية تهيمن على جزء كبير من العالم، لأن الرأسماليين لا يتمتعون بقوة اقتصادية وعسكرية هائلة فحسب، بل يتمتعون أيضا بقوة إيديولوجية هائلة. علاوة على ذلك، كما أشار لينين، فإن هذا الاتجاه اليميني سيبقى في ظل الاشتراكية طالما ظل الإنتاج الخاص صغيرا. قال لينين إن قوة الرأسمالية تشبه “قوة الإنتاج الصغير. لأنه لسوء الحظ، لا يزال هناك قدر كبير جدًا جدًا من الإنتاج الصغير في العالم، والإنتاج الصغير يولد الرأسمالية والبرجوازية، بشكل مستمر، يوميًا، كل ساعة، وعلى نطاق واسع.

م. مولوتوف، آخر البلاشفة الذين بقوا على قيد الحياة، رأى ذلك. وفي مذكراته التي نُشرت في نفس العام الذي أصبح فيه غورباتشوف أمينًا عامًا، قال مولوتوف: «لا يزال هناك صراع أمام الحزب. لم يكن خروتشوف من قبيل الصدفة. نحن في المقام الأول بلد فلاحي، والجناح اليميني قوي. أين الضمان لمنعهم من أن تكون لهم اليد العليا؟ من المرجح أن يصل مناهضو الستالينية إلى السلطة في المستقبل القريب، ومن المرجح أن يكونوا من البوخارينيين.”

لقد كان مولوتوف صاحب بصيرة بالفعل. وهو يسلط الضوء على أحد الدروس الرئيسية المستفادة من تجربة غورباتشوف، وهو أهمية تقدير الشيوعيين للإيديولوجية والتنبيه إلى الخطر الحقيقي القائم دائمًا. يقودني بصيرة مولوتوف إلى ملاحظتي الأخيرة بشأن غورباتشوف.

قرأت مؤخرًا كتابًا مكونًا من 750 صفحة من تأليف مجموعة من اليساريين الإيطاليين حول عمل بياتاكوف وتروتسكي لتقويض الاتحاد السوفييتي في ثلاثينيات القرن العشرين. ونقل هؤلاء الكتاب عن ستالين قوله إن الميزة الأساسية لأولئك الذين يرغبون في قيادة الطبقة العاملة هي القدرة على رؤية المستقبل. كان ستالين يتمتع بهذه الصفة إلى درجة غير عادية، كما كان واضحًا من خلال توقعاته بأن الحرب مع ألمانيا كانت قادمة وأن السوفييت يجب أن يستعدوا من خلال التجميع السريع للزراعة وتصنيع البلاد. وبدرجة مذهلة، كان غورباتشوف يفتقر إلى هذه القدرة على رؤية المستقبل. ومن غير المرجح أن يكون غورباتشوف أراد أو توقع الكارثة التي قد تنتج عن سياساته. ومن غير المرجح أن يكون غورباتشف أراد أو توقع أن تؤدي هذه الإجراءات إلى أن يصبح اشتراكيًا بلا اشتراكية، وشيوعيًا بلا حزب، ورئيسًا بلا دولة. ومن غير المرجح أن يكون غورباتشوف قد أراد أو توقع أن ينتهي به الأمر إلى الرفض والشتائم من قبل معظم مواطنيه.

ربما كان قصر نظر غورباتشوف مأساة شخصية بالنسبة له، لكنه كان كارثة على الشيوعيين والعمال ومضطهدي العالم، ومازلنا ندفع ثمنه حتى اليوم.

……………
* في الاصل قال المؤلف “أطاحت طالبان بحكومة نجيب الله “، و لكن هذا خطأ، عصابات المجاهدين هي من أسقطت حكومة الدكتور نجيب الله، و قد أُسقطت سلطة العصابات الجهادية بواسطة حركة طالبان و الاستخبارات الباكستانيه – المترجم

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.