العربي التبسي.. شهيد الثورة الجزائرية الذي لا نعرف قبره / د. سليمان صالح
د. سليمان صالح – الأربعاء 30/8/2023 م …
66 عاما مرت على اختفاء هذا الشيخ، وما زال يعتبر في الجزائر شهيدا بلا قبر. قصته الملهمة كانت واحدة من قصص الإصرار والجرأة في الحق في وقت كان فيه للجرأة ثمن، ولهذا السبب تحديدا منحته الروايات الشعبية السائدة ميتة درامية لا ينالها إلا الأبطال.
الشيخ هو العربي التبسي والزمان هو 1957 في قلب سنوات الثورة الجزائرية على الاستعمار الفرنسي، والرجل في ذلك الزمن مسن مريض لا يغادر فراشه في غرفة بسيطة تعلو أحد المعاهد العلمية التي أنشأتها جمعية العلماء المسلمين في الجزائر بغرض نشر التعليم واللغة العربية والثقافة الإسلامية في المجتمع الجزائري، وهو ما اعتبرته الجمعية محور معركة الهوية والاستقلال عن الاستعمار الفرنسي.
كان الشيخ العربي التبسي هو نائب رئيس الجمعية في ذلك الوقت، ولكنه كان القائم الفعلي بأعمال الرئيس لغياب رئيسها الشيخ البشير الإبراهيمي خارج البلاد.
والمشهد الأخير الذي لا خلاف عليه هو دخول قوات كثيرة ترتدي الملابس العسكرية الفرنسية فتأخذه من سرير مرضه، وتخرج به حافيا حاسر الرأس، وفي الأيام التالية تسأل عنه إدارة الجمعية في المؤسسات الرسمية التي يديرها الاستعمار، فلا يقر أي منها بالمسؤولية عن اختفائه، وتوثق ذلك الجمعية في صحيفتها.
بقية مشهد النهاية مختلف عليه، فالروايات تقول إن من اعتقله هي قوات القبعات الحمر النخبوية الفرنسية، فقد كانت تتهمه بدعم المقاومة المسلحة والتشجيع عليها، وطلبت منه إصدار فتوى تحرم المقاومة، وأن يقر بدوره في التحريض عليها، فلم يستجب، ويوما وراء يوم، أمر قائد الفرقة ببرميل من الزيت والزفت المغليين فوضعت فيه قدم الشيخ وطالبته بالاعتراف والتعاون، فرفض وبدأ في ترديد شهادته، فأمر به فوضعوه في البرميل فتبخر جسده ولم يبق منه لحم ولا عظم.
لا نعلم صحة الرواية الأخيرة، ولكننا نعلم أن الشيخ لو كان حيا لأكمل الآن عامه الثاني والثلاثين بعد المائة، فقد ولد عام 1891، وما زالت السلطات الجزائرية تطالب فرنسا بإعلان مصيره ومصير آلاف آخرين من أبطال الثورة الجزائرية الذين تحولوا إلى أيقونات للتاريخ الجزائري، المعلوم منهم والمجهول.
عودة إلي البداية
وإذا كنا لا نعلم حقيقة وفاته فإننا نعلم الكثير عن حقيقة حياته ومواقفه، بداية من العلم الذي عكف على جمعه في سنين حياته الأولى، إلى جهاده ونضاله الذي جعل منه العدو الأكبر لفرنسا، وقد شاع عنه أنه قال: “من عاش فليعش بعداوته لفرنسا، ومن مات فليحمل معه هذه العداوة إلى القبور”.
نشأ الشيخ في عائلة فلاحية بسيطة، بقرية السطح “النموشية” نسبة إلى قبيلة النمامشة، كان والده يحفظ القرآن لفتيان القرية إلى جانب عمله في الفلاحة، وقد بدأ حفظ القرآن مع والده ثم أتمه بعد وفاة أبيه الذي فارقه وعمره 8 سنوات.
انتقل إلى تونس ليدرس في الزيتونة، وعاش هناك 5 سنوات حتى أوشك أن يحصل على “الأهلية”، فواتته عندئذ فرصة السفر إلى مصر على باخرة تجارية قديمة، فركبها متوجها إلى الإسكندرية، فالقاهرة، فإلى الجامع الأزهر، حيث رحب به شيخ رواق المغاربة، الذي كان ينفق عليه من أوقاف المسلمين، ليتفرغ الطلاب لطلب العلم، وفي الأزهر يتفوق في علوم الشرع واللغة، ويحصل على الشهادة “العالمية” -التي تعادل الدكتوراه-، ثم على “العالمية الكبرى” التي تعادل درجة الأستاذية، وفي تلك الفترة كتب في صحف ومجلات مصرية، أشهرها “المنار” للشيخ رشيد رضا، كما كان يتصل بالأدباء والشعراء مثل شوقي وحافظ.
في طريقه للجزائر، توقف في تونس مجددا، فدخل امتحان “الأهلية” في جامع الزيتونة، فنالها أيضا، ولذلك وصفه الشيخ البشير الإبراهيمي بأنه “مدير بارع ومربٍ كامل، خرجته الكليتان الزيتونة والأزهر، وأنه رجل أمة كاملة، ورجل الأعمال العظيمة”.
عاد إلى الجزائر إذن عالما، في وقت كانت فيه أحوج ما تكون إلى علماء وأساتذة، فقد كانت تخوض معركة الهوية والجلاء ضد الاستعمار، وهناك انخرط في العمل الذي رآه واجب الساعة، وهو التعليم، بما يتضمنه ذلك من إذكاء للحمية وإيقاظ للهوية.
بدأ نشاطه من مسجد صغير في بلدة “تبسة” التي أصبح ينسب لها، فتجمع حوله الناس، وزادت شعبيته في الجزائر كلها رغم محاولات الاحتلال الفرنسي التضييق عليه ومنعه من الخطابة.
انضم بعدها إلي جمعية العلماء المسلمين التي أسسها الشيخ عبد الحميد بن باديس بهدف نشر التعليم واللغة العربية، فأصبح أمينها العام، وبعد وفاة المؤسس انتخب الشيخ البشير الإبراهيمي رئيسا للجمعية، والعربي التبسي نائبا للرئيس، ثم أصبح الرئيس الفعلي عندما استقر الشيخ الابراهيمي في مصر لبعض الوقت ابتداء من عام 1952، وبذلك أصبح أكبر علماء الجزائر، وأخشى من تخشاه فرنسا و تدرك تأثيره على العلماء والثوار والجماهير.
وكان يتمنى، لولا مرضه وتقدم سنه، أن يحمل السلاح، ويذهب إلى الجبال ليقاوم الاحتلال الفرنسي مع الثوار.
القدرة على تحديد الأهداف
وقد تميز الشيخ بقدرته على تحديد الأهداف، فعلي المستوى الفردي، حدد هدف حياته بأنه خدمة الإسلام، ونشر العلم الإسلامي في الجزائر، والمحافظة على اللغة العربية.
وكان فيما يدعو إليه الناس، تحديد أهداف الثورة الجزائرية بأنها ” قضية شعب يريد دولة وحكومة ديمقراطية صحيحة، ودستورا يحقق سيادة الأمة، فالشعب الجزائري لا يريد لقمة خبز، أو حفنة من الرماد تذر في العيون”.
وأدركت فرنسا تأثيره الفكري على الثوار، ودوره في الحشد لمقاومة الاحتلال، وكان قد وصف هؤلاء الذين خرجوا في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1954 بأنهم “رجال تحركوا، ودبت فيهم روح الحياة الجامعة، وتقدموا إلى الأمام ليخوضوا معركة الحياة والعزة، وقد حملوا أرواحهم فوق أيديهم زحفا، لا يتقهقرون أبدا إلى الخلف”.
وكان يرى تحرير الجزائر جزءا من مشروع أكبر لتحرير شمال أفريقيا من الاستعمار، حيث يقول إن “شمال أفريقيا أمة عربية اللسان، وعربية اللغة العلمية، وعربية التعاليم الدينية، وعربية القضاء، لا فرق بين مراكشها وجزائرها وتونسها وطرابلسها”.
التعليم طريق النهضة والتحرر
كشأن زملائه في جمعية العلماء المسلمين، اهتم الشيخ بالتعليم واعتبره “أفضل الطرق وأنجعها في مقاومة الاستعمار”، لذلك طالب المصلحين في الجزائر بالعمل لتعليم الأبناء وتربيتهم لتخليصهم من براثن الاستعمار، وتوعيتهم للمطالبة بحقوقهم المسلوبة، وتوعية وتنشيط أذهانهم لإحياء شخصيتهم، كما دعا إلى مواجهة سياسة فرنسا التنصيرية عبر إنشاء المؤسسات التعليمية الحرة، والحيلولة دون اندفاع الشباب نحو المدارس الفرنسية الرسمية لتربيتهم على الفخر بالإسلام والعروبة.
لذلك يرى الباحث الجزائري أحمد أورغي أن التبسي قام بجهد كبير في حفظ الكيان الوطني للجزائر في ميادين التربية والتعليم، والإصلاح الديني والاجتماعي، وكان ذلك هو الأساس الذي حطم دعوات الفرنسة والتغريب وإنكار الشخصية الجزائرية.
وعندما تولى الشيخ إدارة معهد عبد الحميد بن باديس، دعا الشعب الجزائري بجميع طبقاته للالتحاق بالمعاهد الإسلامية قائلا: “فهبوا أيها الشعب لإعانة معهدكم ونشر ثقافتكم، فلن يضيع شعب حافظ على لغته وقوميته”.
وقد ابتكر أسلوبا في التعليم يقوم على المعايشة والتشارك بين الأساتذة والطلاب، حيث قال مخاطبا المدرسين في افتتاح المعهد عام 1947: “أيها الإخوان إن التعليم بوطنكم هذا، في أمتكم هذه، ميدان تضحية وجهاد، فلنكن جنود العلم، ولنسكن في المعهد كأبنائه، ولنعش عيشهم، عيش الاغتراب عن الأهل، فانسوا الأهل والعشيرة، ولا تزوروهما إلا لضرورة، وها أنا فاعل فافعلوا، وها أنا بادئ فاتبعوا”.
وكان يعد الطلاب في المدارس وفي معهد الشيخ ابن باديس للثورة لتحرير الجزائر فيخاطبهم قائلا: “أنتم جنود الله والوطن، حدثوا آباءكم وأقاربكم عن الاستعمار وظلمه، فأنتم أمل شعبكم”.
هذه بعض ملامح رؤية الشيخ العربي التبسي التي جعلت فرنسا تشعر بالخطر، وأن احتلالها للجزائر لا يمكن أن يستمر، فاختطفته في 1957 بعد أن لاحقته قبلها برسائل تهديد تدعوه إلى ترك البلاد، ومنذ ذلك الحين لم تكشف عن مصيره.. رحمه الله.
التعليقات مغلقة.