«أم نرجس» شابة في الرابعة والثمانين تنشط من أجل فلسطين والمرأة منذ 65 عاما تروي قصة نهوضها من الرماد
الأردن العربي – الخميس 30/8/2023 م …
نبيهة دلّة ـ مرقس (أم نرجس) في الرابعة والثمانين من عمرها لكنها تفور بالحياة وتتحرك كالفراشة ضمن مسيرة التطوعي والعمل الأهلي في خدمة مجتمعها وشعبها الفلسطيني، وهي مسيرة تستبطن الكثير من سمات المسيرة الفلسطينية العامة التي انبعثت من الرماد ونهضت من جديد.
رغم حرارة آب «اللهّاب» والشيخوخة سارعت قبل أيام للسفر من بيتها في قرية كفر ياسيف في الجليل الغربي إلى قرية البصّة المهجّرة قضاء عكا منذ نكبة 1948 للمشاركة في وقفة احتجاج على قيام جهات إسرائيلية بهدم بيت خوري البصّة وهي من العمارات القليلة الناجية من الخراب والهدم.
أم نرجس من كفر ياسيف لكن والدتها من البصّة وهي تحافظ حتى اليوم على علاقات التواصل مع الأقارب اللاجئين في مخيم ضبية شمال بيروت.
ضمن حديثها المطوّل لـ «القدس العربي» توضح السيدة الفلسطينية نبيهة مرقس أن أنباء الاعتداء الجديد على البصّة قد استفزتها وأوجعتها خاصة أن لها ذكريات جميلة في هذه القرية الفلسطينية المتكئة على سفوح جبل المشقّح بين فلسطين ولبنان قريبا من رأس الناقورة.
يشار الى أن البصّة واحدة من قرى قضاء عكا احتلها وهجرّ سكانها الجيش الإسرائيلي في 1948، وكانت واحدة من القرى الفلسطينية التي امتازت بأحوالها الاقتصادية الجيدة وكرومها ومقاثيها المزدهرة كما هو الحال في قريتي الطنطورة واللجون، وذلك بفضل خصوبة تربتها ووفرة ينابيعها وموقعها على شارع عكا بيروت، حيث انتشرت فيها مرافق سياحية كالمطاعم والمقاهي وفندق أيضا.
تتحدث أم نرجس عن البصّة بألم واضح وهي تستعيد قول محمود درويش «يا خوف الغزاة من الذكريات» وما تلبث أن تستعيد ذكريات الطفولة وهي تزور بيت جدها وجدتها قبيّل النكبة. وتتابع: «أفهم طبعا لماذا يخافون من بقاء كنيسة ومسجد وبعض البيوت ومقبرتين في البصّة المهجّرة. قلبي يوجعني لأن الاعتداء الجديد يذكرنّي بالجرح وجدتي التي هجّرت مع أهالي القرية إلى لبنان وهناك قررّت العودة مشيا على الأقدام بين الغابات والصخور والبرية الموحشة في الليل كي تأخذ مصاغها وبعض نقودها من البيت، لكن جنود إسرائيليين اكتشفوها أثناء عودتها وهي تشارف بلوغ المنطقة الحدودية ليلا وأطلقوا الرصاص عليها فأصيبت في فخدها واضطرت لمواصلة سيرها زحفا إلى لبنان وعندما وصلت توفيت هناك. في البصّة أذكر الحاكورة وكرم اللوز مقابل بيت جدي. تعلّم إخوتي في المدرسة الثانوية الأسقفية الوطنية في البصّة وكانوا يبيتون عند دار جدي وكنت أرافقهم أحيانا».
مرض الأم
لكن الأوجاع التاريخية لم تقتصر على جراح النكبة وأحداثها، فقد مرضت والدتها سارة العموري التي كانت بمثابة ملكة جمال فلسطين غير المعلنة وقتها بسبب ندرة جمالها، ورحلت مبكّرا وهي أم لخمسة أولاد وثلاث بنات وهن الصغيرات. عن تلك التجربة الصعبة تقول: «حاول والدي أن يسعف والدتي من خلال مداواتها في مستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت ولكن دون جدوى فرحلت وهي في الثامنة والثلاثين من عمرها في العام الأول بعد الاحتلال». وعن ذاك تضيف: «عمل والدي المستحيل ولكن المرض كان خبيثا.قبل أن تموت وبعدما عادت من بيروت اعتقدت في مرحلة معينّة أنها شفيت فصارت تناديني وتحضّني على أن أغني لها واهنئها بالسلامة وهي تملي علي: «طارت الحمامة وهدت على القيامة والحمد الله يا ربي قامت أمي بالسلامة». ووقتها أيضا رحل خالي الوحيد الى بيروت ومات في لبنان في العام نفسه 1949.
ولم يقل نصيب أم نرجس من الوجع عن أوجاع جدتها، فقد صعقت إسرائيل طفولتها، وتقول إن هدم بيت الخوري في البصّة حرّك عجلة الذكريات فشعرت مجددا بالخوف من الجنود الإسرائيليين يوم رحلت مع عائلتها من كفر ياسيف إلى بلدة يركا المعروفية المجاورة. ومما بقي في ذاكرتها الحديدية: «ما زلت أذكر الجنود الصهاينة يدخلون قريتنا في نهاية تشرين الأول/اكتوبر 1948 وامتلأت خوفا على أمي المريضة جدا وأنا طفلة. اعتقل الصهاينة والدي وبقينا مع أمي المريضة وهي في حالة نزاع. خوفا على إخوتي أذكر أن جدتي أنزلت إخوتي الى بئر في ساحة البيت كي لا يتعّرضوا للأذى من قبل جنود الاحتلال. بسبب الخوف من جيش الاحتلال في ظل سماع أصوات الانفجارات في المنطقة المحيطة بنا اضطررنا لمغادرة البيت لكن جدتي بقيت فيه الى جانب والدتي المريضة. خرجت وشقيقتاي الصغيرتان سلوى وماري وكافتنا دون العاشرة. غادرنا بيتنا بسبب القصف والخوف فوضعوني داخل «خرج» وشقيقتاي الطفلتان في «الخرج» الآخر على ظهر حمار. صرت أبكي خوفا من الجيش وخوفا على أمي المريضة فصار شقيقي ينهرني كي لا أبكي لئلا يسمع الجنود صوتنا».
قبيّل الرحيل
وتستذكر ما جرى قبل الرحيل بالقول: «كان للقيادي رئيس المجلس المحلي في القرية ينّي ينّي دور في عدم تهجير كفر ياسيف وقد وقف على مفرق سحماتا والبقيعة وهو يعيد النازحين للبنان ويحثهم للبقاء في ديارهم. كنا نسمع تفجيرات الطيارة في القرى القريبة، ونرى مشاهد اللاجئين تحت الشجر وفي الشوارع ومقابل عين الماء قريبا من سوق بلدنا. وتجمع عدد كبير من المهجّرين من القرى المجاورة كالغابسية، النهر والكابري داخل كفر ياسيف واستقر مئات المهجّرين داخل عمارة تاريخية واحدة بلا أبواب وكانوا يبيعون أوانيهم النحاسية لاقتناء الطعام وأهالي بلدنا يحضّونهم على عدم فعل ذلك ويقولون لهم: «ربما تعودون لبيوتكم». كان والدي نجيب دلّة يجلس داخل الدكان وأنا أعمل معه فكنت أساعد نساء اللاجئين في تغسيل أدواتهم وأطفالهم في عين ماء مجاور للدكان وأخذت لهم الصابون والغذاء من الدكان لمساعدتهم».
اللجوء في قرية يركا
لكن نبيهة الطفلة التي روعتّها مشاهد اللجوء وجدت نفسها مع إخوتها لاحقا لاجئين داخل بلدة يركا. وعن مغادرة الدار والرحيل تقول: «هناك استقبلتنا صديقة العائلة ألماظة قويقس أم سلمان، نحن وعدة عائلات وشاطرنا أهل البيت الرغيف المبسوس بالزيت وكنا نلهو في يركا تحت التوتة ولم نكن نفهم ما يدور». بعد عدة شهور عادت مع إخوتها وأخواتها الى كفر ياسيف وهناك ساعدهم رئيس المجلس المحلي في خروج ربّ الأسرة من السجن بسبب مرض زوجته وذلك بواسطة أحد معارف بني معروف في قرية يركا، فاشترط الاحتلال تسليم بندقيته فبعث والدي رسالة لأخوتي وأبلغهم فيها بمخبأ البندقية في حاكورة وتحت الصبّار فذهب شقيقاي بطرس والياس وأخرجاها وأطلقا عدة رصاصات ثم كسروها قبل إعادتها». وعندما عاد والدي من المعتقل كانت والدتي قد بلغت النزع الأخير. وتذكر أمن نرجس عودة والدها في ذاك اليوم: «تعانق والدي ووالدتي مطولا وهما مبللان بالدموع وكررّت وصيتها بالحفاظ علينا وقبل ذلك كانت تتحدث معي وتخبرني أنها راحلة قريبا وأخبرتني بأي الجارات استعين لقضاء حاجاتنا الأساسية كغسيل ثيابنا واستحمامنا الخ».
وبعد رحيل والدتها وجدت أم نرجس نفسها منتزعة من حضن الأسرة تلميذة صغيرة في مدرسة للأيتام، داخلية بعيدة، مدرسة الأورفانج في الناصرة.
وتوضح أن والدها رغب بأن يخفّف الأعباء عن والدته التي تولت رعاية وتنشئة الأولاد بعد وفاة زوجته فأرسلها للمدرسة الداخلية في الناصرة. وتضيف «ما خففّ عني وجود سيدة فاضلة هي سامية فرح من حيفا أرملة الأديب حنا أبو حنا التي كانت ترعاني وتغسلني وتمشطني لأنها تكبرني سنا داخل المدرسة. معا عانينا في الناصرة الجوع وقلة النظافة والعمل الصعب داخل الدير.
الحياة داخل الدير تجربة صعبة جدا فهو محاط بالجدران العالية ويبدو كالسجن ورغم صغر سننا كانوا ينزلوني داخل طنجرة كبيرة كانوا يعدّون فيها الغداء لكل نزلاء الدير ويطلبون مني تنظيفها بعد تناول الطعام وهذه مشقة كبيرة».
في مرحلة معينّة من دراستها الثانوية عرضوا على نبيهة دلّة مرقس تعلم تمرين قبل إنهاء مرحلة التوجيهي ودون شروط بسبب النقص بالممرضات فخرجت من مدرسة يني يني في الصف الحادي عشر وسافرت في خمسينيات القرن الماضي إلى مستشفى في تل أبيب لوحدها مع عدد قليل جدا من الطالبات العربيات.
وفي تلك الفترة حصل تغّير في مسار حياتها: «تعلّمت التمريض لسنة ونصف ولم تعمل في التمريض. وقتها تعرّفت على الناشط الشيوعي نمر مرقس الذي كان يزورنا ويكتب مناشير سياسية مع أخيها سرّا وكانت تشارك في النقاشات عما يدور في مصر والجزائر، وبسبب مشاهد اللاجئين كانت متحمسة للسياسة.
وتتابع مرقس التي انضمت مبكّرا للحزب الشيوعي: «كنت أغني أغاني تراثية وأعجبت بذلك نمر مرقس وقال في كتاب مذكراته لاحقا إنه أعجب بعيوني أيضا. وكان قد قال لي في حديث عن المستقبل «لا تقبلي بي لأني معلم وملاّك. أريد أن تقبليني لشخصيتي وربما اعتقل وربما يتم إبعادي عن عملي وفعلا ومن أول سنة اعتقل وأبعد وباع قسما من أرضه. في ذاك العام رافقته في العيش في قرية البعنة وكان يعمل معلمّا في قرية دير الأسد. وبعدما أبعدوه عدنا الى كفر ياسيف وعشنا عيشة قاسية وفقرا وقلة ولكن بكرامة».
مظاهرة الناصرة
وعن مشاركة الناشطين والرفاق من بلدات عربية في مظاهرة الناصرة عام 1958 التي تعتبر أول هبة لفلسطينيي الداخل ضد الاحتلال بعد 1948 تستذكر نبيهة مرقس أن الشرطة الإسرائيلية حاولت منع مشاركة الناس في المظاهرة حيث التقت الحافلات القادمة من الجليل في مفرق البروة وهي ترفع الرايات الحمراء تمهيدا للانطلاق معا وكانت الجموع تنشد أغنية «جليلنا مالك مثيل وترابك أغلى من الذهب وما منرضى بالعيش الذليل وكان الرفيق أبو حيدر من يركا صاحب الصوت الجهوري ينشد والرفيقة فاطمة البكري والكل يردد معه.
لكن دورية الشرطة الإسرائيلية اعترضت قافلة الباصات قرب شفا عمرو وفعلا منعوا الباصات من التقدم نحو الناصرة.
كنت وقتها داخل تاكسي مع سيدة رفيقتي، أم عيسى، لأننا لم نجد مكانا في الحافلات فقلت لها عندما شاهدنا الحاجز البوليسي: تظاهري بأنك مريضة ونامي على كتفي، وعندما حاول منعنا قلت لرجل الشرطة: «هذه أمي وهي مريضة ونحن في طريقنا للمستشفى وفعلا سمح لنا بمواصلة الطريق، وفي الناصرة شاهدت شبابا من شفاعمرو وصلوا للمدينة سيرا على الأقدام. عندما وصلنا الناصرة شاهدت أن ساحة العين قد تحوّلت لساحة حرب..حجارة وإطارات مشتعلة ومواجهات وسيارات الجيب التابعة للبوليس مقلوبة وقبعات الشرطة ملقاة على الأرض.
كما شاهدت سيدة سمراء حاملا تعتمر كوفية وتبدو متوهجة وجهها «مطزز» ولاحقا عرفت أنها آرنا سيدة يهودية زوجة صليبا خميس، ولما اقتربنا منها دعتنا بصوت قوي وفعلا شاركنا بالمواجهة وصار رجال الشرطة يضربوننا بالعصا فكنت أنا وآرنا نجرّده من العصا ونضربه بها ونتبادل الضرب معه. كنت فتاة في الثامنة عشرة. في ليلة ذاك اليوم داهمت الشرطة بيتنا. كنت قد سمعت جلبة الدرك في الشارع خلف البيت فقلت لزوجي نمر الذي لم يشارك في مظاهرة الناصرة إن هذه الشرطة قادمة لعندنا وطلبت منه أن لا يتحدث معهم. لما قرعوا الباب وقالوا: «افتح بوليس».
طلبت من نمر أن يبقى صامتا فقلت: «لن افتح لكم لأنني سيدة ووحدي في البيت». فقال بعربية مشوّهة: أين جوزتك فقلت: مش هون. ألح بالطلب وقال «افتحي معي المختار». فقلت إنني لن أفتح بكل الأحوال لأنني لوحدي، تعال بالغد. وتكرّرت محاولاتهم أربعة أيام وفي اليوم الخامس اعتقلوا نمر مرقس في دير الأسد رغم أنه لم يشارك في المظاهرة.
النفي إلى صفد
ولاحقا اعتقلت الشرطة الإسرائيلية المئات ومنهم زوجها نمر مرقس ونفوا العشرات من المشاركين في المظاهرة إلى صفد. تستذكر تلك الحادثة بدقة: «كنا نذهب مع نساء المبعدين لمكتب الحاكم العسكري ونطالب بعودتهم وعندما رفض قمنا باصطحاب الأولاد والفراش ومكثنا في مدخل مكتب الحاكم العسكري في كفرياسيف ومارسنا الضغط عليه حتى تم الإفراج عنهم فعلا». أم نرجس المولودة في فبراير/ شباط 1939 وما زالت تتمتع بصحة وذاكرة طيبتّين ما زالت تشارك منذ 65 عاما في كل مساعي نصرة المرأة مرجحة أن اليتم المبكّر من والدتها والحزن وتجربة المدرسة الداخلية هي الأساس والمحفز لاهتمامها الكبير في قضايا النساء، وعن ذلك تقول: «تربيت عند زوجة والدي بعد رحيل والدتي في 1949 وكانت تجربة ليست سهلة ووقتها قيدتنا العادات ووقتها كان «كله عيب وكله ممنوع»… أخي مسموح له يلعب وحرام علينا نحن البنات».
أم البنات: ست بنات
والى جانب كونها ربّة بيت وخيّاطة ما زالت الناشطة في السياسة والمجتمع أم نرجس تعمل كفلاّحة ترعى كروما للزيتون وتحتفظ بقن للدجاج وتديره مع أحفادها وفي الوقت نفسه هي مثقفة دأبت على تثقيف نفسها بنفسها وهي تداوم على ممارسة هواية الرسم وعلى قراءة الصحف والكتب يوميا وتتوق للأيام التي عملت فيها مدرّبة لفرقة دبكة وتعّد صبايا من كفرياسيف للتقديم عروض في مناسبات وطنية.واستمرارا لما فعلته طيلة عقود ما زالت أم نرجس تنشط في مجال الإغاثة والمساعدة لمحتاجين داخل الأراضي المحتلة عام 1967 مثلما تنشط لخدمة ذوي الاحتياجات الخاصة وتشارك أحيانا في مؤتمرات دولية أيضا.
عن هذا النشاط في المجالين السياسي والاجتماعي تقول أم نرجس: «كنت ناشطة جدا وأقضي ساعات طويلة خارج البيت في المحاضرات والدفاع عن العاملات العربيات في الجليل. ربيت ست بنات مع وعي سياسي متين وكلي فخار بأنهن يواصلن طريقنا في السياسة والاهتمام في قضايا شعبنا ومعتزة بكريمتي الفنانة أمل مرقس المغنية الملتزمة.
زوجة رئيس
وزادت أعباء نبيهة مرقس وهي اليوم أم لست بنات وجدة لـ 16 حفيدا منذ انتخب زوجها الراحل المناضل نمر مرقس رئيسا للسلطة المحلية في بلدته طيلة 20 سنة، وعن ذلك خلصت للقول»تزوجت بنت 16 سنة. والدي كان تاجرا وكان يشتري البضاعة من تل أبيب وحيفا وكان يتنقل بحافلة ركاب عامة وطالما كانوا ينزلوه منها ويفتشوه بسبب الكوفية والعقال وينكلّون به رغم أن التجار اليهود كانوا يحترمون أمانته خلال عمله كـصاحب دكان غذاء وألبسة».
التعليقات مغلقة.