متابعات، نشرة أسبوعية – العدد الخامس والثلاثون / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الأحد 3/9/2023 م …
يحتوي العدد الخامس والثلاثون على فقرة عن أسباب التضخم في البلدان الرأسمالية الغنية، وتعليق قصير على هامش مؤتمر مجموعة بريكس بجوهانسبورغ وفقرة عن زيادة العُنف الصهيوني المُسلّح واغتيال الفلسطينيين في الضفة الغربية، خلال النصف الأول من سنة 2023، وفقرة عن ارتفاع عدد المهاجرين غير النظاميين وارتفاع عدد ضحايا الرحلات البَحْرِية الخطيرة، بين ضفَّتَيْ البحر الأبيض المتوسّط، وفقرة – تعليق عن القمة الخامسة عشر لمجموعة “بريكس” بجوهانسبرغ (جنوب إفريقيا) من 22 إلى 24 آب/أغسطس 2023، وفقرة عن تَحَول مركز تداول النفط الروسي من جنيف إلى دُبَيْ منذ قرارات حَظْر التجارة مع روسيا، وفقرة عن القمع وانتهاك حق العمل النّقابي بفرنسا التي تدّعي تلقين الدّول الأخرى دروسا في الدّيمقراطية
مفاهيم الإقتصاد السياسي
اعترف العديد من الباحثين، من بينهم خُبراء صندوق النقد الدّولي، بانخفاض أسعار الجملة للسلع الأساسية (مثل المواد الغذائية)، منذ الربع الأخير من سنة 2021، لكن أسعار التجزئة آخذة في الارتفاع، ويشيرون أيضًا (بالدلائل والأرقام والنسب المائوية) إلى أن التّضخم ليس ناتجا عن زيادة مُفْتَرَضَة للأجور أو الاستهلاك الزائد، بل هو نتيجة لارتفاع معدلات الربح للشركات الكبيرة، ليكون الكادحون والفقراء هم أول ضحايا ارتفاع الأسعار والتضخم.
منذ حوالي أربعة عُقُود تسارعت وتيرة ارتفاع مكاسب رأس المال، وانخفاض القيمة الحقيقية للأجور، وهي الفترة التي فقد خلالها العاملون بأجْر والنقابات القدرة على التفاوض من أجل زيادة الرّواتب، وأكَّدت دراسات لخُبراء صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والمصارف المركزية هذا الاتجاه المتمثل في زيادة فائدة رأس المال على حساب الرّواتب، لكن مُعِدِّي هذه الدّراسات يرفضون تغيير توجيهاتهم السياسية…
إن الزيادة في الأسعار هي النتيجة المنطقية للزيادة في هوامش أرباح الشركات التي تسعى، بشكل عام، لتغطية تكاليف الإنتاج، وإضافة هامش رِبْح يُسْتَخْدَمُ لتمويل الإستثمارات الداخلية ( تأهيل الآلات أو تجديدها مثلا) وتعزيز المخزون الإئتماني، وكذلك لمكافأة أصحاب رأس المال (أرباح الأسهم)، غير إن ما يحصل خلال العقود الأخيرة هي استمرار زيادة حصة الأرباح فيما استمر انخفاض حصة رواتب العاملين، باستثناء المُدِيرين التّنفيذيِّين.
بدأت الموجة الحالية من التضخم، خلال الرُّبع الأخير من سنة 2021، غير إن تأثرها مختلف على فئات السكان، وتتناول هذه الفقرات تأثير التضخم في البلدان الرأسمالية المتقدّمة، حيث تضرّرت الفئات الأشدّ فقرا، لأن زيادات الأسعار كانت كبيرة في الطاقة والغذاء وإيجار المَسْكن، والمواد والخدمات الأساسية التي تمثل نسبة تفوق ثُلُثَي ميزانية هذه الفئات التي كانت أول ضحايا التضخم الذي بلغ مُعدّله سنة 2022 في دول الإتحاد الأوروبي متوسط 5,2%، في حين بلغ متوسط نسبة تضخم أسعار الغذاء والطاقة 13%، بينما لم ترتفع نسبة الرواتب الخامة سوى بمعدّل 1,5% سنة 2021 وبنسبة 3,2% سنة 2022 وبنسبة 2,4% خلال النصف الأول من سنة 2023، وعموما انخفضت قيمة الأجور الحقيقية بنسبة 2% سنة 2022 وبنسبة 2,7% خلال النّصف الأول من سنة 2023، ولم تُعوّض زيادةُ الرواتب، ارتفاعَ الأسعار، بحسب دراسة لمصرف التّسويات الدّولية.
أدىت عملية إضْعاف النقابات العمالية وتراجع التصنيع وعمليات نقل العديد من الصناعات إلى آسيا والمنافسة بين العمال في عولمة سلاسل القيمة والتغييرات في قوانين العمل التي أدّت إلى فَرْض “المُرُونَة” والهشاشة والعقود المُؤقتة وبدوام جزئي إلى تقليص قدرات النقابات والعمال على التفاوض بشأن الأجور وظروف العمل في معظم الدول الغنية، فمكا بالك بالدّول الفقيرة…
نشر صندوق النقد الدولي دراسة سنة 2022 تتيح لنا استنتاج أن لجوء الشركات إلى العمال غير المستقرين، بعقود قصيرة الأجل، أو بدون عقود وبدوام جزئي، يقلل من قدرة العمال على المساومة على الأجور، وتهدف الشركات من خلال هذه الأساليب إلى خفض حصة العمل ( بفعل الرواتب المنخفضة ) وتضخيم أرباحها بواسطة زيادة أسعار السلع والخدمات التي انخفضت تكلفة إنتاجها، لأن هذه الشركات أصبحت في موقع قوة يُمَكِّنُهَا من فرض زيادة الأسعار، مع خَفْض رواتب العُمّال الذين أصبحوا غير قادرين على فرض زيادة في الأجور، وأصبح الوضع بارزًا للعيان، ما جعل كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي يدعو ( آذار/مارس 2023) إلى زيادة الأجور في الدول الغنية، وتعترف رئيسة المصرف المركزي الأوروبي ( الرئيسة السابقة لصندوق النّقد الدّولي) بأن “العديد من الشركات تمكنت من زيادة هوامش أرباحها في مختلف القطاعات وهذه الشركات مسؤولة عمّا لا يقل عن 50% من ارتفاع معدلات التضخم، من خلال زيادة الأرباح…”، كما يخلص تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (حزيران/يونيو 2023) حول التوظيف لسنة 2022 إلى أن ما يقرب من 20% من العاملين في الدّول الغنية يعملون لدى أرباب عمل لديهم سلطة أحادية مُطلَقَة تقريبًا لتحديد الأجور وظروف العمل، ويؤدي ذلك إلى انخفاض معدلات التوظيف والأجور، فضلاً عن انخفاض جودة الوظائف.
حققت أكبر عشر شركات مصنعة لأشباه الموصلات على مستوى العالم أرباحاً بلغت 55 مليار دولار خلال الفترة من بداية 2021 إلى منتصف 2023، أو زيادة بنسبة 96%، ويشكل قطاع التكنولوجيا نموذجًا لزيادة كبيرة في الأرباح، بفعل تحديد أسعار مرتفعة لا تتناسب مع سعر التّكلفة، لأنها شركات قليلة تحتكر قطاعًا رئيسيا في مجالات تقنيا الإتصالات، ولذا فإن احتكار شركات قليلة (ما يُسَمّى تركيز السوق ) في قطاعات معينة (السوبر ماركت والنقل وتقنيات الإتصالات والمعلوماتية وغيرها) لبعض الإنتاج يعزز قوة الشركات ويسمح لها بتحديد الأسعار في السوق، حتى لو كانت تنافسية من الناحية النظرية، لأن شركات نفس القطاع تتفق على زيادة أسعارها في نفس الوقت، وعلى تحديد هامش ضئيل من اختلاف الأسعار، بما يُعادل 5% على سبيل المثال، لا يمكن تجاوزها صعودًا أو نزولاً، أكثر وهو مُنافي لقواعد اللّيبرالية التي تدّعي إن للسوق يدًا خفية تُعدّل العَرْض والطّلب وتُعدّل الأسعار دون الحاجة إلى تدخّل الدّولة أو أي طرف آخر…
منذ الثمانينيات، كان أحد آثار الأمولة (financialization ) هو إعادة النّظر في عملية تقاسم القيمة المضافة، لصالح أرباح أصحاب الأسهم، على حساب العُمّال والرّواتب، وهو ما يفسر الفجوة المتزايدة أو الفروق المتنامية بين الأجور وأرباح الشركات التي تستفيد من زيادة الإنتاجية، دون أي مقابل للموظفين، ودون استخدام الأرباح في الاستثمارات الإنتاجية، بحسب التقارير الفَصْلِية للمؤسسات المالية الدّولية وتقرير “أوكسفام” (آذار/مارس 2023)
على هامش مؤتمر مجموعة بريكس بجوهانسبورغ
بدأت مجموعة بريكس تتشكّل (بدون جمهورية جنوب إفريقيا) بانعقاد اجتماع وزراء الخارجية، سنة 2006، بالأمم المتحدة، ثم انعقدت أول قمّة رسمية سنة 2009، قبل أن تلتحق جمهورية جنوب إفريقيا بالمجموعة، سنة تنظيمها كأس العالم لكرة القدم، سنة 2010، وأنشأت المجموع “مصرف التنمية الجديد”، سنة 2015، وصندوق احتياطي الطّوارئ برأس مال قدره 100 مليار دولار، وأقْرَض حوالي ثلاثين مليار دولارا، “بشروط تفضيلية”
كانت مجموعة “بريكس” تهدف إقامة نظام دولي جديد، متعدّد الأقطاب، من خلال إصلاح الأمم المتحدة وصندوق النقد الدّولي والبنك العالمي والمنظومة المُنْبَثِقة عن ميزان القوى الذي وَلَّدَتْهُ الحرب العالمية الثانية، ولمّا أدْركت المجموعة أن دعوتها بقِيَتْ “صرخة في وادي”، بدأت تطرح إنشاء هياكل موازية أو “بديلة”، شَكْلاً، أما المضمون السياسي فيُحَدّده الطّرف الأقوى، أي الصّين، ثاني أكبر اقتصاد عالمي، بقياس حجم الناتج المحلي الإجمالي الذي يفُوق اقتصاد الأطراف الأخرى مجتمعة، ولذلك تستفيد الصّين من مجموعة بريكس (التي تقودها فِعْلِيًّا) في مفاوضاتها مع الوفود المتتالية التي أرسلتها الولايات المتحدة إلى بيكين، خلال الربع الثالث من سنة 2023، وتستفيد الصّين، منذ سنة 2018، من التبادل التجاري بالعملات المحلية بين أعضاء بريكس، في انتظار إنجاز عُمْلة مُشتركة، على مدى متوسط أو طويل، إذا ما تمكّنت المجموعة – التي توسّعت لتضُمّ إحدى عشر عضوا – من تجاوز الإختلافات (بين الصين والهند، مثَلاً) ومن تعزيز القواسم المُشتركة ومن خلق شبكات تُعزّز الروابط الإقتصادية بشكل جاذب للدّول الأعضاء ولدول أخرى، ما يَحُدّ من هيمنة الدّولار (وبالتالي من هيمنة الولايات المتحدة على شبكات التجارة والتحويلات المالية الدّولية) وما يُحَوِّلُ هدف بناء نظام اقتصاد عالمي جديد إلى واقع، لكنه لا يصل إلى ما كانت تطرحه مجموعة عدم الإنحياز، بل بقي في إطار منظومة الإقتصاد الرأسمالي، ليُصبح التغيير شكليا، حيث يختلف شكل التعاملات عن الغطرسة الأمريكية المتمثلة في فَرْض الحَظْر و”العُقُوبات” على عدد متزايد من المنافسين أو الخُصُوم السياسيين، وكانت هذه الغَطْرَسَة أحد أسباب ابتعاد بعض الدّول الإفريقية والآسيوية عن سياسات التبعية المُطْلَقَة للولايات المتحدة، ورفضها الموافقة على العقوبات ضد روسيا…
فلسطين
قدّر مبعوث الأمم المتحدة للشرق الأوسط، تور وينيسلاند، عدد ضحايا الجنود الصهاينة بالضفة الغربية المحتلة ب167 ضحية سنة 2022، وبما لا يقل عن مائتَيْ شهيد، خلال الأشهر السّبعة الأولى من سنة 2023،وهو العدد الأعلى منذ سنة 2005، بموازاة “زيادة التوسع الاستيطاني وعُنْف المُستوطِنِين، بحماية الجيش، وهدم منازل الفلسطينيين والمباني العامة والخاصّة…”، وورد ذلك في تقرير قَدّمه مبعوث الأمم المتحدة لمجلس الأمن يوم الاثنين 21 آب/أغسطس 2023.
في الجانب الفلسطيني زادت المقاومة الشعبية والمُسَلّحة، وقُتِلَ ما لا يقل عن ثلاثين من الجنود والمُستعمِرِين المُستوطِنِين، خلال نفس الفترة، وفق نفس المصْدر الذي أشار إلى الوضع المالي المتردي للمؤسسات الفلسطينية، وارتفاع العجز المُتَوَقّع ل”سلطة” أوسلو إلى أكثر من 370 مليون دولار سنة 2023، ونقص موارد وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) وبرنامج الأغذية العالمي (WFP) ، مما يهدد الأمن الغذائي لمئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين في الأراضي المحتلةسنة 1967.
هجرة
انخفض عدد المهاجرين واللاجئين الذين يعبرون البحر الأبيض المتوسط مقارنة مع فترة الذروة في عام 2015 عندما عبر أكثر من مليون شخص البحر إلى أوروبا، لكن ارتفع عدد الوفيات بشكل حادّ، مقارنة بمحاولات العبور، خاصّة سنة 2023 ويعمل الإتحاد الأوروبي بكل الوسائل على مَنْعِ وُصُول المهاجرين (الذين ساهم الإتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي في تدمير بلدانهم ونهب مواردها، وتشريد سُكّانها) بزيادة الرقابة وحَظْر إنقاذ المهاجرين من الغرق، وتوقيع اتفاقيات مع بلدان الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، ووقّع الاتحاد الأوروبي اتفاقية مع حكومة تونس (بعد توقيع اتفاقيات مع مليشيات ليبيا)، بهدف وقف الهجرة غير النظامية، ولا يتعلق الأمر بـ”شراكة حقيقية” ولكنها اتفاقية “تهدف فقط إلى وقف تدفقات المهاجرين وإدارتهم بطريقة عنيفة وصارمة “، بموازاة نَشْر خطاب عنصري ضد المهاجرين الأفارقة في تونس وفي أوروبا…
قَدّرت المُفوضية السّامية لشؤون اللاّجئين، التابعة للأمم المتحدة في تقرير نشرته يوم 16 تموز/يوليو 2023، عدد الوافدين إلى أوروبا بشكل غير نظامي، عبر البحر الأبيض المتوسط خلال النصف الأول من سنة 2023 بنحو 102641، وبلغت نسبة الأطفال حوالي 20% ووصل منهم 76325 إلى إيطاليا و14325 إلى إسبانيا و 9568 إلى اليونان و 2282 إلى قُبرص و141 إلى مالطا، وتوفي حوالي ألْفَيْن فضلاً عن المفقودين، ويتصدّر التونسيون ترتيب من وصلوا بصورة غير نظامية إلى أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط، بين الأول من كانون الثاني/يناير 2021 والثلاثين من حزيران/يونيو 2023، حيث بلغت نسبتهم 19,4% من إجمالي عدد الوافدين يليهم المصريون بنسبة 18,8% مع فارق كبير في المُعاملة حيث لا يتم ترحيل المصريين سوى نادرًا، منذ تطبيع النظام المصري مع الكيان الصهيوني، وبلغت نسبة مواطني بنغلادش 14,5% ونسبة السوريين 9,6% ونسبة الأفغانيين 7,3% أما بالنسبة لإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى فإن مواطني ساحل العاج وغينيا وإريتريا يتصدّرون الترتيب، ولا تتجاوز نسبتهم الإجمالية 20% من مجموع المهاجرين بشكل غير نظامِي.
بريكس
انعقدت القمة الخامسة عشر لمجموعة “بريكس” (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) في جوهانسبرغ، عاصمة جنوب أفريقيا، من يوم الثلاثاء 22 آب/أغسطس إلى الخميس 24 آب/أغسطس 2023، وهي المجموعة التي تجاوز الناتج المحلي الإجمالي لأعضائها نظيره لدول مجموعة السبع (أقوى 7 دول)، وتهدف مجموعة بريكس “الإنتقال نحو عالم متعدد الأقطاب” أو نحو “نظام اقتصادي دولي جديد متعدد الأطراف” من شأنه أن يضع حدا، على المدى الطويل، لهيمنة الولايات المتحدة والدولار الأمريكي في المعاملات الدولية، من خلال إنشاء عملة مشتركة مستقبلية لتسهيل التجارة بين الدول الأعضاء، وهو برنامج يجتذب الدول “النامية” أو تلك التي تسعى إلى قدر أكبر من الاستقلال الاستراتيجي، ولذلك أعلنت 15 دولة ترشيحها، لكن القمة الخامسة عشرة ضَمّتْ إيران والأرجنتين ومصر والحبشة والسعودية والإمارات والأرجنتين، وأجّلت قُبول عضوية الجزائر بسبب اعتراض الهند، وستكون الجزائر ضمن الأعضاء المراقبين حتى القمة المقبلة، وكانت الجزائر عضوا نشطا في النضال من أجل نظام اقتصادي دولي جديد جسّده خطاب الرئيس هواري بومدين في الأمم المتحدة في نيسان/أبريل 1974، وكان أول خطاب باللغة العربية في الأمم المتحدة، لكن تَغَيَّرَ المشهد الدولي منذ ذلك الحين، وخاصة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، واندثَرَ المحتوى النضالي المُناهض للإمبريالية الذي كان يحتويه مفهوم “العالم الثالث” أو حركة عدم الانحياز، لِيُفْسِحَ المجال لعبارة “الجنوب العالمي” أو “الدّول النامية”، كما كانت الجزائر أحد الأعضاء المؤسسين لمجموعة الـ 15، في بلغراد (عاصمة يوغوسلافيا السابقة) سنة 1989، إلى جانب البرازيل والمكسيك والهند وفنزويلا ودول أخرى، وكان هذا التجمع يَهْدِفُ إنشاءَ قوةٍ يُمْكِنُها موازنة مجموعة السبع، لكن اندثرت مجموعة الـ 15 خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
أنشأت مجموعة بريكس مصرف التنمية الجديد (NBD) ومقره شنغهاي، كأداة مالية في خدمة “العالم الجديد متعدد الأقطاب”، ورحّبَ هذا المصرف الذي يطمح مُؤَسِّسُوه أن يكون بديلاً للبنك العالمي وصندوق النقد الدولي، بضَمِّ الإمارات خلال خريف سنة 2021 ومصر سنة 2023.
لقد فشلت المحاولات السّابقة لإصلاح النظام الدولي لأنها تهدف إلى إصلاح النظام الرأسمالي من الداخل، بنفس قواعد الرأسمالية، كما تقتصر طموحات أعضاء مجموعة بريكس على إيجاد مكان لها في منظومة العولمة الرأسمالية وليس تغييرها أو خلق بديل لها أو إطلاق عملية “فك الارتباط” مع النظام الرأسمالي الدولي…
طاقة – دَوْر الإمارات في تجارة النّفط الرّوسي
استغلّت العديد من الدّول الحَظْر الأمريكي والأوروبي على روسيا، لتتربّح منه، وعلى سبيل المثال تشتري الصين والهند النّفط الرّوسي بأسعار منخفضة، لتبيع جزءًا منه بأسعار مُضاعَفَة في السّوق العالمية، وكانت العديد من المعاملات التجارية الدّولية تجري في سويسرا (عقود البيع الآجلة)، ولمّا تبنَّت سويسرا موقف حلف شمال الأطلسي وفرضت “العقوبات” على روسيا، استغلّت الإمارات الوضع ليتحوّل جزء كبير من تجارة النفط الرُّوسي من جنيف (سويسرا) إلى “دُبَيْ” التي استقطبت ثمانية من بين أكبر عشرين شركة تتداول النفط الرُّوسي الخام، وعشرة من بين أكبر عشرين شركة تتداول المنتجات النفطية المكررة كالديزل وزيت الوقود، وفق البيانات الجمركية للربع الأول من العام 2023 التي نشرتها شركة “كبلر” لتحليل البيانات ( 16 آب/أغسطس 2023) وكانت الإمارات ( التي لا تنتج سوى المحروقات وهي ثامن أكبر مُنْتِجٍ عالمي للنفط) قد أنشأت العديد من “المناطق الحُرّة” وقدّمت العديد من الحوافز مثل عدم فرض ضرائب على الدخل الشخصي لاجتذاب المزيد من التجار، لذلك سجّلت عشرات الشركات العابرة للقارات (أو فُرُوعها) مقرّاتها، لتصبح الإمارات مركزاً تجاريًّا لإعادة التّصدير ونَقْل البضائع بين أوروبا وآسيا، وتجارة الذهب والماس والمنتجات الزراعية مثل الشاي والقهوة، وأنشأت مركز دبي للسلع المتعددة ( 87 بُرْجًا) حيث توجد مقرّات 22 ألف شركة مُسَجّلَة، في منطقة سكنية وتجارية لا تتجاوز مساحتها كيلومتْرَيْن مُرَبَّعَيْن، كما استثمرت الإمارات في إدارة الموانئ والحاويات والخدمات المصرفية، واستقبال الأموال القذرة والمُهَرَّبَة، وتطمح دبي أن تصبح مركزاً عالميًّا لتجارة السلع الأساسية، ومنصة للصفقات والتداولات وعُبُور السّلع والتّجّار ومديري الشركات، بين إفريقيا وآسيا وأوروبا، لذلك لم يكن من العسير على دُبَي تحويل مركزها التجاري إلى سوق لتجارة النفط الروسي، فقد أظهرت بيانات الإقرارات الجمركية الروسية الصادرة عن الفترة من كانون الثاني/يناير إلى نيسان/أبريل 2023، أن 104 شركة اشترت النفط الروسي خلال هذه الفترة، من بينها ما لا يقل عن 25 شركة مسجلة في مركز دبي للسلع المتعددة.
لا تتمتع الإمارات باستقلالية القرار، لأن الولايات المتحدة وبريطانيا تستخدمها كقاعدة عسكرية ومركز تجسُّس، غير إن تجارة النفط الروسي من دبي نشاط قانوني، وفق قرارات العقوبات الغربيةالتي تحظر استيراده فقط إلى الاتحاد الأوروبي ومجموعة الدّول السّبْع وبريطانيا وبعض الدول الأخرى، وَيُمكن للشركات الأمريكية والأوروبية وغيرها بيع النفط الروسي إلى شركاتأو دول في مناطق أخرى من العالم طالما كان سعر البيع أقل من سقف محدد ( ستين دولارا للبرميل الواحد من النفط الروسي الخام)، وشجَّعت الولايات المتحدة الشركات وعُملاءها مثل الإمارات على مواصلة نقل النفط الروسي لتجنب تذبذب المعروض منه، بشرط ألا يفوق سعره السقف المحدد، بهدف خلق أزمة اقتصادية لروسيا عبر خَفْضِ إيراداتها، وتُعتَبَرُ الشركات المسجلة في دبي غير ملزمة بالامتثال لسقف السعر، لكن بعضها يلتزم به لضمان الخدمات “الغربية” مثل الشحن والتّأمين والخدمات المصرفية وتحويل الأموال، وفق تحليل صحيفة فاينانشال تايمز ( 16 آب/أغسطس 2023) التي أوضحت إن بعض الشركات ( منها شركة رُوسنَفْط” الروسية) تستخدم فروعًا لها مقرها دبي لكي تبيع وتشتري النفط الروسي بسعر أعلى من السقف المحدد، وذلك عن طريق تعيين شركات غير أوروبية لتوفير خدمات الشحن والخدمات المالية.
فرنسا – انتهاك الحقوق النّقابية
تتبجّح السُّلُطات والأحزاب والمُنظمات الفرنسية بأنها “بلاد حقوق الإنسان”، والواقع إنها بلاد “إعلان حقوق الإنسان” وليست بلاد احترام هذه الحقوق، ففي فرنسا، أصبح عنف الشرطة، بدعم من جهاز القضاء حقيقة واقعة، ويتم تنفيذ هذا العنف يوميًّا من قِبَلِ حكومة استبدادية تخدم الأغنياء، ويُشكّل عُنف الشرطة وانحياز القضاء رَدًّا طَبَقِيًّا (غير سِلْمِي ) على الاحتجاجات المتزايدة في البلاد، ولم يَسْلَم المَسْؤُولون النّقابيون من هذا القمع، حيث قررت السلطات القضائية الفرنسية استدعاء ومحاكمة العديد من القادة والمُناضلين من اتحاد (فيدرالية) الطاقة التابعة للكنفدرالية العامّة للشُّغل ( Confedération Générale des Travailleurs – C.G.T ) بسبب المُقاومة التي أبداها الإتحاد النقابي خلال الاحتجاجات ضد إصلاح نظام التقاعد في وقت سابق من هذا العام ( 2023 )، ويُمثل هذا الإجْراء القضائي تهديدًا يستهدف القادة النقابيين الذين يمارسون حقوقهم، ضِمْنَ قائمة طويلة من الاعتداءات ضد العاملين في مجالات الطاقة ونقابات البريد والمالية والطيران (شركة سافران) وعمال السكك الحديدية، وتم استدعاء الأمين العام لفيدرالية الطاقة للاتحاد العام للشغل (C.G.T) يوم 6 أيلول/سبتمبر 2023 بسبب إضراب العاملين في قطاع الكهرباء والغاز ضد الخصخصة وضد المزيد من التراجع في الحقوق ومكتسبات الموظفين وأغلبية المواطنين، وتم استدعاء الأمين العام لاتحاد الطاقة التابع لاتحاد ( C.G.T ) من قِبَلِ قوات الدرك، بصفته قائدا نقابيا، وبتهمة ممارسة حُقُوقه وواجباته النّقابية، وهي سابقة في فرنسا، لأن هذا الاستدعاء يكتسي صبغة سياسية ويستهدف بشكل مباشر أكبر منظمة نقابية فرنسية، في سياق ضَرْب الحريات وانتهاك الحقوق الأساسية للمواطنين وللمجموعات والمُنظّمات، من قِبَلِ الحكومة التي جعلت من الشُّرطة دِرْعًا للسُّلُطات في مواجهة أغلبية المواطنين، ويأتي هذا الهجوم غير المسبوق على نشاط الحركة الاجتماعية والحركة النقابية، كاستمرار لقمع سكان الضواحي والأحياء العمالية، ولمحاولة حل العديد من المنظمات، وللتهديدات التي أطلقها وزير الداخلية شخصيا ضد رابطة حقوق الإنسان (وهي منظمة مُسالمة تُطالب باحترام القوانين القائمة)، وبذلك انتقلت الدّولة إلى طَوْرٍ جديد من التعامل مع المواطنين، فقد وصل القمع ضد الحق النقابي، والذي تم اتخاذه على أعلى مستوى في الدولة، إلى إرادة التّخلّص من أي شكل من أشكال المُعارضة القانونية والعَلَنِيّة، ويأتي قرار استهداف القادة النقابيين، في أعقاب احتجاجات كبيرة في وقت سابق من هذا العام ( 2023 ) ضد إصلاح نظام التقاعد الذي قدّمته وفَرَضَتْهُ الحكومة الفرنسية، دون مناقشته في البرلمان، فضلا عن إلغاء الأنظمة الخاصة لعمال الكهرباء والغاز في فرنسا، وهي أنظمة اكتسبوها من خلال النّضال أثناء الإحتلال الألماني النّازي للبلاد، إِبّان الحرب العالمية الثّانية…
ستتم محاكمة العديد من القادة والمُناضلين النّقابيين المحليين في اتحاد الطاقة CGT في محاكم مرسيليا وبوردو وباريس ومدن أخرى، بين أيلول/سبتمبر وتشرين الثاني/نوفمبر 2023، بتُهَم “تهديد الأمن العام” في سياق الإضرابات، ما يُمثّل هجومًا مباشرًا على الحريات الأساسية والحق في الإضراب والتّظاهر، ليُصبح هذا الحق موضع تراجع في جميع أنحاء أوروبا، حيث لم تنفرد فرنسا بقمع الحريات والحركة النقابية بل أقَرّت دول أخرى مثل بلجيكا وبريطانيا وإيطاليا قوانين تحد من حرية عمل النقابات. أما سبب تَعَرُّض اتحادية الطاقة التابعة لـC.G.T للهجوم، فذلك لأن لديها مفهوم تقدمي للخدمة العامة، مُخالف أو مُناقض لسياسات الخصخصة التي تم تنفيذها بفرنسا (وأوروبا) خلال العقود الأخيرة، حيث فَرَضَ “تحرير سوق الطاقة” إملاءات ومصالح الشركات الرأسمالية الكبيرة والمَصارف، مما أدى إلى ارتفاع كبير في فواتير استهلاك المواطنين للغاز والكهرباء.
كثفت الحكومة القمع من قِبَل الشرطة والقضاء منذ 2017، ضد مسيرات السترات الصفراء وأدى عنف الشرطة إلى أضرار جسدية وإعاقات خطيرة، ومنها فقء العيون وقطع الأيْدِي بالقنابل اليدوية، والتّشَوُّهات العديدة، واستخدام الأسلحة الحربية ضد المُضرِبِين والمُتظاهرين في بلد يدّعي إنه مَوْطن حقوق الإنسان، ويدّعي الدّفاع عن حقوق الشعوب (يُسْتَثْنى من ذلك الشّعب الفلسطيني وبعض الشعوب الأخرى)، ولم يحترم جهاز القضاء الإجراءات القانونية، بل تجاوَزَ القُضاة التشريعات، لعلمهم باستحالة قيام المدعين بتقديم شكوى ضد عواقب الأفعال المتعمدة التي وقعوا ضحايا لها، وتُضاف هذه الأشكال من القَمْع إلى الإجراءات المُقَيِّدَة للحريات خلال الأزمة الصحية التي كانت تجربة لتنفيذ المراقبة المُشدّدة لجميع السّكّان، إلى جانب زيادة موازنة وزارة الداخلية بمقدار 15 مليار يورو على مدى خمس سنوات لتوظيف أكثر من عشرة آلاف ضابط شرطة جديد منذ سنة 2017….
تم تأكيد النظام الاستبدادي من خلال فَرْضِ إصلاح نظام التقاعد، دون مناقشة برلمانية، ومن خلال القمع الوحشي واعتقال وإدانة المئات من شباب أحياء الطبقة العاملة الذين احتجّوا لفترة أسبوع على اغتيال الشرطة للعديد من الشباب من أبناء الطبقة العاملة، وأعلنت الحكومة، بكل صَلَف إنها لا تريد التفاوض على أي شيء، وشدّدت من قوانين الحصول على منحة بطالة (وهي ليست من المال العام، بل من اشتراكات الأُجَراء) ورفضت سَحْبَ أو مُراجعةَ قوانين إصلاح المعاشات والحد الأدنى للدخل، بالتوازي مع استمرارها في خصخصة كل الخدمات العامة، كالصحة والطاقة والنقل والثقافة إلخ.
أصبح القمع هو الرد الوحيد للحكومة الفرنسية، وعلى سبيل المثال، بدأ القمع العنيف للمتظاهرين في آذار/مارس 2023، ضد أحواض المياه الكبيرة التي أنشأها أصحاب المزارع الكبيرة لاحتكار المياه، في زمن الجفاف الكبير، وفي آب/أغسطس 2023، قَرّر وزير الداخلية حل تنظيمات، مثل حركة “انتفاضة الأرض”، كما تم اتخاذ قرار قمع العمل النقابي من قِبَل مجلس الوزراء، أي من أعلى مستويات القرار في الدولة، ما يعني بلوغ مرحلة جديدة من تعميم القمع تتجلّى في تَعَدُّد حالات الإحتجاز التعسفي لدى الشرطة والملاحقات القضائية المتكررة والعنف الجسدي والإضرار بمباني النقابات والطرد من محلات الشّغّالين – Bourse du travail -، وهي من مكتسبات النضالات العمّالية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر) والفصل من العمل بسبب الإضرابات… وهذه الهجمات آخذة في التزايد، ولا يستخدم أرباب العمل والحكومة التكتيكات المؤسسية فقط لعرقلة مطالب الزيادات في الأجور وتحسين ظروف العمل، بل إنهم يطورون أساليب القمع الشّرس ضد العاملين والنقابيين الذين يُكافحون ويقودون النضال الطبقي ضد الرأسماليين الذين يستولون على كل السلطات ( السلطة الإقتصادية والسياسية والإعلام والقضاء الخ). إن التمييز والقمع النقابي لا يستهدفان عددًا قليلًا من الأفراد المعزولين، بل يُمثّلان استراتيجيات إدارية وحكومية، في خِدْمة الشركات الخاصة الكبيرة وكذلك مؤسسات الخدمات العامة التي لم تتم خصخصتها بَعْدُ، وكما ذكرنا فإن الحقوق النقابية والحُريات الفردية والجماعية تتعرض للهجوم في العديد من البلدان الغنية وفي جميع أنحاء العالم، ويتعين على الحركة النقابية أن تقدم رداً حازماً وموحداً على هجمات الحكومة الفرنسية على الحق في الإضراب والنّضال الجماعي، لأن الاعتداءات على الحقوق النقابية الأساسية أمر غير مقبول”.
تنظم الكونفدرالية العامة للشغل اعتصامًا أو “وقفة” وطنية وإضرابًا محدودًا لعمال الكهرباء والغاز يوم 6 أيلول/سبتمبر 2023 على الساعة التاسعة صباحا، وقت حُضُور الأمين العام لاتحاد عُمّال الطاقة بمقر الدّرك.
التعليقات مغلقة.