بريكس – حُدُود الوَهْم / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الاثنين 4/9/2023 م …
أصر الرئيس الصيني شي جين بينغ، في مفتتح قِمّة جنوب إفريقيا، على “إن مجموعة بريكس لن تنحاز إلى أي طرف، وإنها لا تتخذ مواقف منحازة ولا تهدف خلق حلف جديد، بل تريد توسيع مجال التنمية والتّطور”
تمثل دول مجموعة بريكس الخمس (قبل إضافة ست دول خلال مؤتمر جوهانسبورغ) حوالي 40% من سكان العالم و30% من اقتصاده، وقد تصل النسبة إلى 50% بعد دخول الأعضاء السّتّة الجُدُد، بداية من كانون الثاني/يناير 2024، ولكن لم تُحقق مجموعة بريكس، منذ إنشائها سنة 2010، إنجازات دولية ملحوظة.
أصبحت مجموعة بريكس تَضُمُّ أربعة دول منتجة للنفط، لترتفع حصة المجموعة إلى نحو 80% من الإنتاج العالمي، و45% من إجمالي الاحتياطيات العالمية، ما يعني الانتظار لبعض الوقت قبل إلغاء الدولار من تجارة المحروقات، ومن معاملات مجموعة بريكس التي بدأت التجارة – جُزْئِيًّا – بغير الدّولار ولو تمكنت المجموعة من إنشاء اتحاد نقدي لَسَرّعت إمكانية خفض حجم المعاملات بالدّولار تمهيدًا لإلغاء “الدَّوْلَرَة” في الاقتصاد العالمي، لكن لم تتم مناقشة مواضيع رئيسية في هذه القِمّة ومنها تداول المواد الأوّلية والمعادن، وخصوصًا المحروقات (النّفط والغاز) بغَيْر الدّولار، وتشجيع التجارة بالعملات المحلية، غير أن الإنتهازية طَغَتْ على تعامل الهند والصّين مع روسيا، لشراء النفط الروسي بالعملات المحلية – وخاصة اليوان – وبسعر منخفض، ثم إعادة تصديره بأسعار مُضاعفة وبالدّولار إلى أوروبا ودول أخرى، ما يُلْغِي أي شكل من التّضامن بين أعضاء المجموعة. أما السعودية والإمارات (العضوان الجديدان) فإنهما استغلتا، طيلة عُقُود الحظر على النفط الإيراني لإغراق الأسواق، وتستغلان حاليا الحظْرَ على النّفط الرّوسي وأعلن وزير الخارجية السعودي مُؤخّرًا “إن السعودية ستكون موردا آمنا وموثوقا للطاقة”، لكن ذلك لن يحُلّ مشاكل الأعضاء الجُدُد الآخرين، أي الأرجنتين ومصر والحبشة التي تأمل حكوماتها الإستفادة من مجموعة بريكس لتخفيف حدّة الصُّعُوبات المالية وشُحّ احتياطياتها من الدّولار، مع الإشارة إن الإنتخابات القادمة في تشرين الأول/اكتوبر 2023 بالأرجنتين ( ثاني أكبر اقتصاد بأمريكا الجنوبية، بعد البرازيل) قد تُعيد اليمين المتطرف إلى السُّلطة، وقد يُلغي اليمين المتطرف الإتفاقيات مع البرازيل ومسار “ميركوسور”. تمثل التجارة البينية بين دول بريكس بالعملات المحلية حاليًا نحو 32,5% من جميع المعاملات التجارية، وتمثل التجارة بالدّولار والعُملات الأخرى (اليورو والين وغيرها) 67,5% من إجمالي المعاملات، وقد ترتفع نسبة التعامل بالعملات المحلية مع دخول أعضاء جدد مثل إيران، وخاصة دولة أخرى من الدول التي تعرضت للعقوبات من قبل “الغرب”، وتعمل روسيا – التي سوف تستضيف قمة 2024، وتترأس مجموعة بريكس – التي تُعاني من الحَظْر الأمريكي والأوروبي على إلغاء الدّولار من المعاملات التجارية، وتُقدّر دراسات روسية إن عملية إلغاء الدولار تُصبح جادّة عندما تصل المعاملات بالعملات المحلية إلى نسبة لا تقل عن 50% من حجم التجارة بين أعضاء بريكس، ويتطلّب ذلك درجة عُليا من التّنْسِيق وتبادل البيانات والمعاملات المالية دون المرور عبر نظام سويفت للتحويلات المالية الدّوْلية، الذي تُهَيْمِنُ عليه الولايات المتحدة، وتخفيض الرّسُوم الجمركية والعراقيل الأخرى، وأعلنت “ديلما روسيف” رئيسة البرازيل سابقًا، ورئيسة مصرف التنمية الجديد لمجموعة بريكس، أنه سيتم منح 30% من القروض بالعملات المحلية، أي ما يعادل النسبة الحالية للتجارة البينية بين دول بريكس…
تتعرّض ثُلُثا الإنسانية (بعدد السّكّان) إلى “عُقُوبات” تجارية واقتصادية مختلفة،ما جعل العديد من الدّول ( 15 بما فيها العميلة للإمبريالية الأمريكية) تتقدّم بطلب العضوية لدى مجموعة “بريكس”، فضلا على عدم قانونية “العُقوبات” وفق القوانين والمُعاهدات الدّولية، وأدّت العجرفة الأمريكية إلى زيادة عدد البلدان التي تريد الإنفصال عن النظام المالي الدولي لكنها لم تجد البديل المناسب، وبذلك أصبح منطق مؤسسات بريتون وودز (البنك العالمي وصندوق النقد الدولي) موضع تساؤل، لأن أعضاء مجموعة بريكس جزء من رابطة إقليمية، فالبرازيل جزء من أو تقود مجموعة ميركوسور وروسيا تقود الإتحاد الاقتصادي الأوراسي، والهند جزء من رابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي، فيما تقود الصين منظمة شنغهاي للتعاون الاقتصادي والتنمية، وتقود جنوب إفريقيا مجموعة تنمية بلدان الجنوب الأفريقي، وتراهن المزيد من الدول على نموذج مختلف للعلاقات السياسية والاقتصادية، وعلى اهتمام مجموعة بريكس بتأسيس منصة مشتركة تتولى تنسيق المبادرات بين هذه الكتل الإقليمية، لأن المُسمّاة “الاقتصادات الناشئة” هي التي تدفع النمو العالمي، وليس اقتصاد أوروبا وأمريكا الشمالية واليابان وأستراليا.
أنشأت مجموعة البريكس مصرف التنمية الجديد ومقره في شنغهاي، برأسمال قدره 100 مليار دولار، يتكون من مساهمات الأعضاء، ويتم توفير هذا الاحتياطي الطارئ لأفقر البلدان التي تحتاج إلى قروض، لكن تم التفاوض على شروط وأحكام هذه القروض من قِبَل مجموعة بريكس مع مسؤولي البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، بشأن التزام المجموعة باحترام قواعد هاتين المؤسستين النقديتين الدوليتين، وعدم محاولة خلق منافسة بين المؤسسات الإقليمية ومؤسسات بريتن وودز، ولذا، إن احتمال إنشاء عملة مشتركة لمجموعة بريكس أو إنشاء عملة بديلة للدولار الأمريكي للتجارة الدّوالية ضعيف للغاية على المدى القصير.
لا تَدَّعِي دول بريكس الخمس المُؤَسِّسَة إنها تُشكّل بديلا تقدميًّا للإمبريالية الأمريكية، بل تمثل “بريكس” مجموعة تلتزم باحترام قواعد الرأسمالية، وعلى سبيل المثال يرأس جنوب أفريقيا رجل الأعمال الثري (سيريل رامافوسا)، وهو عضو في مجالس إدارة العديد من الشركات متعددة الجنسيات التي تستغل ثروات البلاد وعمالها، ويحكم البرازيل مسؤولون منتخبون يمينيون (في المجالس النيابية)، من أنصار الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسينارو، ويقود الهند ناريندرا مودي، رئيسُ حِزْبٍ وحكومةٍ يَمِينيةٍ متطرفةٍ.
قد تنجح مجموعة “بريكس” في خَفْضِ نُفُوذَ الإمبريالية الأمريكية ونفوذ الدّولار في مجالات التجارة والتحويلات المالية الدّوْليّة، وهذا أمْرٌ إيجابي بحد ذاته، لأنه قد يُؤَدِّي إلى ولادة قُطْبٍ مُنافِس، غير إن الحَذَر واجب، لأن المنافسة في مجال الإقتصاد لم تُؤَدّ إلى خفض الأسعار ولا إلى خدمة المُواطن الذي حَوّلَهُ رأس المال إلى “مُستَهْلِك”، ولا يتجاوز طُمُوح مُؤَسِّسِي مجموعة بريكس الحُصُول على حِصّة إضافية من السّوق الرّأسمالية العالمية، ولا تسمح لنا البيانات المتاحة بتصنيف مجموعة البريكس كَكِيان يمكن أن يُشكِّلَ بديلاً تقدمياً للنظام الاقتصادي الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة.
إن المشاكل التي تعاني منها الطبقات المُسْتَغَلَّة والشعوب المُضْطَهَدَة، التي استعمرتها أو تهيمن عليها الإمبريالية، متأصلة في طبيعة النظام الرأسمالي، القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج الأساسية وعلى تنظيم العمل والتجارة والحياة بهدف تحقيق أقصى قدر من الربح للقطاع الخاص، بدلا من تلبية الاحتياجات الاجتماعية للأغلبية العظمى من المواطنين، داخل كل بلد، وعلى مُستوى عالمي.
تحتاج شعوب البلدان الفقيرة التي تهيمن عليها الإمبريالية إلى إصلاح زراعي يسمح بإعادة توزيع الأراضي الزراعية على الفلاحين الفقراء، وعلى الفلاحين الذين لا يملكون أرضا، وعلى عمال الزراعة، وما إلى ذلك. إن هذه البلدان والشعوب بحاجة إلى استثمارات في القطاعات الإنتاجية، وفي البنية التحتية (الطاقة، ومعالجة مياه الصرف الصحي، والسكك الحديدية، وما إلى ذلك) وفي قطاعات الصحة والتعليم والبحث العلمي والثقافة الشعبية، وما إلى ذلك، وتحتاج الشّعوب إلى نظام سياسي يُمكّن الأغلبية من الحصول على مزيد من المكاسب ومن ممارسة حقوقها الديمقراطية التي تشمل حقوق المرأة والحقوق السياسية والفردية والجماعية…
إن الحصول على هذه الحقوق لا يمكن أن يكون عملاً كريماً أو مِنّة أو صَدَقَة من نظام مثل تلك الأنظمة التي تحكم دول مجموعة بريكس، ولا يمكن الحصول على هذه الحقوق وممارستها إلا من خلال النضال الجماعي المنظم، ذي الأهداف الواضحة، لكي لا تتكرّر تجارب الإنتفاضات والثّورات غير الظّافرة والتي تم الإلتفاف عليها من قِبَل القُوى الرّجعية…
التعليقات مغلقة.