تبسيط موضوعات الاقتصاد السياسي / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الخميس 7/9/2023 م …
الأزمات
أعلن مصرف ليهمان براذرز الأمريكي إفلاسه، يوم الخامس عشر من أيلول/سبتمبر 2008، مما تسبب في أزمة مالية في جميع أنحاء العالم لا تزال تداعياتها محسوسة حتى اليوم، وبعد مرور حوالي عشر سنوات على واحدة من أكثر الأزمات المالية تدميراً في الرأسمالية الحديثة، انطلق صراع كبير في أوروبا وانتشرت آثاره لتُهَدِّدَ العالم بأسره، وكان من الممكن أن تظل الحرب في أوكرانيا مقتصرة على المستوى المَحلِّي أو الإقليمي، محدودة في المكان والزمان، لكن جذور الحرب الحالية تعود إلى ما قبل شباط 2022، أو حتى إلى ما قبل شباط 2014، سنة الانقلاب – ضد المؤسسات المنتخبة ديمقراطيا – في أوكرانيا الذي دبرته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بمشاركة الناتو والكيان الصهيوني والعديد من القوى الرجعية، وقد تعود جذور الحرب إلى أزمة 2008، وهي أزمة لا تُشبه أزمة 1929، لكن من البديهي أن الأزمات المالية الكبرى والحروب تعكس المشاكل الهيكلية للإقتصادات الرأسمالية التي تُعَمِّقُ الشروخ الاجتماعية.
قبل عصر الرأسمالية، كانت وَفْرَةُ أو نَدْرَةُ الغذاء والضروريات الأساسية الأخرى تعتمد على الظروف المناخية كالجفاف أو وفرة الأمطار، لكن منذ القرن الثامن عشر (هيمنة الرأسمالية في أوروبا وأمريكا الشمالية)، غيرت الرأسمالية نمط الإنتاج وأصبحت الصناعة أكثر أهمية من الفلاحة، على مستوى عالمي، فتغيَّر هيكل الإقتصاد، وتَحَوَّلَ ملايين الفلاحين، والعبيد المُسَرّحين (“المُحَرَّرِين”) إلى عُمّال في مناجم الفحم وفي المصانع، ثم حدثت ثورة كبيرة في المنظمة الرأسمالية، حوالي النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر، لمّا بدأت تستخدم الإبتكارات والأساليب العلمية للإنتاج في قطاعات الزراعة والتصنيع، وأدخلت الرأسمالية استخدام الأسمدة الكيماوية والآلات في قطاع الزراعة، مما أدى إلى زيادة حجم الإنتاج، لكن مع تقليل عدد الأشخاص القادرين على شراء المنتجات الزراعية، وأدّت هذه العملية إلى إرهاق صغار الفلاحين الذي اضطرُّوا إلى اقتراض الأموال لتحديث أدوات الإنتاج ولزيادة حجم المحاصيل، لكنهم لم يتمكنوا من منافسة كبار الفلاحين ولم يتمكنوا من العثور على عدد كافٍ من الزّبائن، ولم يتمكنوا بالتالي من بيع إنتاجهم، وهم مثقلون بالديون التي لم يتمكّنوا من تسديدها، وأدى هذا الوضع إلى الأزمات التي حدثت بنهاية القرن التاسع عشر، خاصة في الولايات المتحدة، لكن أزمة عام 1929 كانت الأكثر إثارة.
هناك صلة مباشرة بين الأزمات المالية والحروب، لأن الرأسمالية تحاول حل الأزمات من خلال تسريع وتيرة استغلال العمال، ومن خلال غزو مناطق جديدة (لتكون مصْدَرًا للمواد الخام منخفضة التكلفة وأسواقًا لبيع السلع الفائضة) ومن خلال الحروب ضد المنافسين، وتساعد الحرب على إنعاش الاقتصاد من خلال تنشيط صناعة الأسلحة التي لا تخضع لضوابط الصناعات الأخرى، وما الحُرُوب سوى وسيلة تستخدمها الرأسمالية لتنظيم المعروض الزائد من المنتجات، بعد أن جربت الحمائية من خلال فرض رسوم جمركية مرتفعة على السلع الأجنبية، وغيرها من التدابير أو “الحلول“…
قبل الثورة البلشفية الروسية سنة 1917 وإلى حدّ تاريخ تأسيس الاتحاد السوفييتي، استفادت بريطانيا (الإمبريالية المهيمنة في ذلك الوقت) من الإنتاج الوفير والرخيص للحبوب التي تُنتِجُها روسيا وأوكرانيا (الجمهورية التي أنشأها الاتحاد السوفييتي وضَمّت أراضي روسية ومناطق سوفييتية أخرى، إلى أن قرر الاتحاد السوفييتي (خصوصًا بعد الحصار الأوروبي الذي استمر من 1918 إلى 1922) اعتماد الاقتصاد المخطط، حيث تُشرف الدّولة المَرْكَزِيّة على تنظيم العرض والطلب على إنتاج المحاصيل الزراعية وعلى الإنتاج الصناعي، ورفضت قيادة الاتحاد السوفييتي (بعد سنة 1924) “العرض” البريطاني (شاركت بريطانيا في الحصار العسكري والإقتصادي والدّبلوماسي للإتحاد السوفييتي) للعودة إلى نظام التجارة التجاري وبيع الحبوب بأسعار أعلى.
إن الاقتصاد المخطط ليس سمة حَصْرِيّة أو محَدّدة للاشتراكية، بل تلجأ الرأسمالية أيضًا (ألمانيا النازية والولايات المتحدة أو اليابان وغيرها) إلى تأميم القطاعات الإستراتيجية (المؤسسات المالية والصناعات الثقيلة والإستراتيجية والاتصالات والتكنولوجيا العالية وغيرها) غير إن التخطيط الرأسمالي يعتمد على تقديس الملكية الخاصة، مع توفير المال العام وضخّه في خزائن الشركات الخاصة، وهو ما حدث ويَحْدُثُ منذ أزمة 2008، التي كانت أقل تدميرا من أزمة 1929، لكنها ألحقت أضرارا جسيمة بالنموذج المهيمن للاقتصاد الرأسمالي المُعَوْلَمِ الذي تقوده السوق، أو “اليد الخفية للسوق”، وفق عبارة آدم سميث، وادَّعَت أجهزة الدولة الرأسمالية أن “السوق” يعادل “الحرية” والديمقراطية، واختزلت الرأسمالية الحُرّية والدّيمقراطية في تقديس الملكية الخاصة وحرية الإستغلال، وحُريّة المُستهلك (وبذلك يتحول المواطن إلى “مُستهلك” لإنتاج رأس المال)، وتُهيْمِنُ الشركات العابرة للقارات على هذا النموذج من الحرية أو “السوق الحرة”، حيث تتمتع رؤوس الأموال والشركات متعدّدة الجنسيات بحرية الحركة والتنقل حول العالم والتهرب من الضرائب مع تهريب الأموال التي تجنيها من استغلال العُمّال إلى الملاذات الضريبية، مع الإفلات من التّتبّع والمحاكمة…
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وإعادة إدماج الصين في المنظومة الرأسمالية، باعتمادها “اقتصاد السوق الاجتماعي” (وهي عبارة مُلَطَّفَة للإقتصاد الرأسمالي)، ادعى أبطال النيوليبرالية أن هذه الأحداث (وهي ليست تلقائية) شكّلت انتصارًا نهائيًا للرأسمالية النيوليبرالية، أو ما عَبّر عنه “فرنسيس فوكوياما” ب”نهاية التاريخ”، لِيُصبِح الحديث عن “حروب التحرير الوطنية”، أو الصراع الطّبقي ضربًا من الكُفْر والزّنْدَقَة، حيث تم استبدال الصراع الطبقي أو مُقاومة الإستعمار والإمبريالية من قِبَل الشعوب المضطَهَدَة ب”صراع الحضارات”، وتم تطبيق مفاهيم ونَظَرِيّة “صراع الحضارات” من قِبَل الإمبريالية الأمريكية، خلال عدوان حلف شمال الأطلسي على يوغسلافيا من أجل تقطيع أوصالها والتّدليل على استحالة تأسيس دولة مُتعدّدة الأثنيات والقوميات، وخصوصًا استحالة رَفْض شُرُوط صندوق النّقد الدّولي، ولم يقف الأمر عند تفتيت يوغسلافيا، بل تم توسيع العدوان ( في غياب قُوّة مُعارضة كما كان يُمثلها الإتحاد السّوفييتي) واحتلال الصومال وأفغانستان والعراق وليبيا وسوريا واليمن، وزيادة عدد الدّول التي تم فرض الحَظْر والحصار عليها، وينْدَرِجُ منطق هذه الهيمنة في إطار “حرب الحضارات”، وما احتلال فلسطين سوى جزء من هذه الحرب التي بدأتها أوروبا ضد السّكّان الأصليين بالقارة الأمريكية، ولا تزال مُستمرّة، كما لا تزال مُقاومة الشعوب مُستمرة، وإن مَرّت بفترات مَدّ وجَزْر.
عادت روسيا، منذ حوالي عِقْدَيْن، إلى تَبَنِّي نمط الرأسمالية التي تهيمن عليها الدولة، بعد الخراب الذي أحدثه الاقتصاد النيوليبرالي خلال العقد الأخير من القرن العشرين. أما اقتصاد الصّين فهو رأسمالي لكنه يظل تحت إشراف الدولة وحزبها الوحيد الذي لا يزال يطلق على نفسه صفة “الشيوعي”، واشيوعية براء منه، وبذلك أصبحت الرأسمالية مُهيمنة على جميع أرجاء العالم، لكن ذلك لم يمنع الحُروب والأزمات، فقد أظهرت الأزمة المالية العالمية في عام 2008 أن الأسواق غير قادرة على حل مشاكل البلدان والشعوب، وهذه ليست من مهامها، بل إن الرأسمالية تبحث عن الرّبح السريع والوفير، بدعم من أجهزة الدّولة التي ابتكرتها الرأسمالية وألبستها شعارات “الحُرّيّة” و”الدّيمقراطية”، وتمثل انحياز أجهزة الدّولة إلى رأس المال في ضخ الولايات الأموال العامة في خزائن المصارف والشركات الكبرى، في حين عانى السكان من الفقر ومن التقشف، ولم تسلم من أزمة 2008 سوى الدول التي لم تطبق تعليمات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، ونجت الصين وروسيا من أزمة 2008، بفعل عدم الإنجرار وراء النيوليبرالية، وعززتا نفوذهما في أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية…
إن الحرب في أوكرانيا هي معركة بين روسيا (وحلفائها) والولايات المتحدة (وحلفائها)، بالوكالة، من أجل مستقبل الرأسمالية، لأن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي نجحا في الحد من كارثة أزمة عام 2008، من خلال فرض التقشف، وخفض أسعار الفائدة إلى الصفر، وبفعل الزيادة الهائلة في المعروض النقدي بفضل سياسات التيسير الكمي، وأَدّت هذه السياسات إلى تفاقم عدم المساواة الاجتماعية وتوسيع الفجوة بين الأغنياء ( الذين استفادوا من المال العام) والفقراء والعاملين والأُجَراء الذين انخفضت دُخُولُهم، على المستويين الوطني والعالمي، وسوف تؤدي الزيادة في أسعار الطاقة والغذاء والضروريات الأساسية إلى تفاقم حالة الشرائح الأكثر هشاشة من السكان، ويُعيدُنا هذا الأمر إلى الحديث عن أسباب الأزمات، إذ لا يستطيع جزء كبير من السكان شراء السلع والخدمات التي يرغب المنتجون في بيعها، ما يزيد من حدّة الفقر، ويسمح هذا السياق لليمين المتطرف بزيادة شعبيته في أوروبا والولايات المتحدة، ويخلق نفس هذا السياق الظروف المواتية الثورات أيضًا، لكن هل تتوفّر الأداة القادرة على قيادة وإنجاح الثورة؟
التعليقات مغلقة.