أهداف تعمل الإدارات الأميركية المختلفة على تحقيقها في “الشرق الأوسط” / صبحي غندور

صبحي غندور* – الإثنين 11/9/2023 م …

        تميّزَ انتهاء الحقبة الأوروبية الاستعمارية، التي امتدّت إلى منتصف القرن العشرين، بأنّ الاستعمار الأوروبي كان يُخلي البلدان التي كانت تخضع لهيمنته، في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، بعد أن يوجِد فيها عناصر صراعات تسمح له بالتدخّل مستقبلاً، وتضمن إضعاف هذه البلدان التي قاومت الاستعمار وتحرّرت منه. فقد ظهرت دول وحكومات خلال القرن الماضي إمّا تتصارع فيما بينها على الحدود، أو في داخلها على الحكم بين “أقليّات” و”أكثريّات”، وفي الحالتين، تضطرّ هذه الدول النامية الحديثة للاستعانة مجدّداً بالقوى الغربية لحلّ مشاكلها أو لدعم طرفٍ داخلي ضدّ طرفٍ آخر. وجدنا ذلك يحدث في الهند مثلاً، التي منها خرجت باكستان، ثمّ تصارعت الدولتان على الحدود في كشمير. ووجدنا ذلك يحدث أيضاً في صراعات الحدود بين عدّة دولٍ عربية وإفريقية. كما حصلت عدّة حروب أهلية وأزمات أمنية وسياسية في بلدانٍ أخلاها المستعمر الأوروبي بعد أن فرض فيها أنظمة حكم مضمونة الولاء له، لكنّها لا تُعبّر عن شعوبها، وتُمثّل حالةً طائفية أو إثنية فئوية لا ترضى عنها غالبية الشعب.




متغيّراتٌ دولية كثيرة حدثت بعد الحرب العالمية الثانية، وخلال العقود الماضية التي تبعت انتهاء الحقبة الأوروبية الاستعمارية، ومنها وراثة الولايات المتحدة للإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية وظهور معسكريْ “الشرق الشيوعي” بقيادة روسيا، و”الغرب الرأسمالي” بزعامة أميركا. لكن انتهاء “الحرب الباردة” بين المعسكرين، مع غروب القرن العشرين، لم تكن نهايةً لنهج التنافس الدولي على العالم وثرواته ومواقعه الجغرافية الهامّة، كما هو موقع الأمَّة العربية وثرواتها الهائلة.

ولأنّ التواجد العسكري الأميركي لم يكن وحده كافيًا من أجل تحقيق الأهداف الأميركية في “الشرق الأوسط”، فإنّ عناصر سياسية ثلاثة عملت الإدارات الأميركية على توفّرها بشكلٍ متلازم مع الوجودين العسكري والأمني:

  1. تغيير التركيبة السياسية القائمة في بعض دول المنطقة لتصبح مبنيّةً على مزيج من آليات ديمقراطية وفيدراليات إثنية أو طائفية. فالديمقراطية لو تحقّقت، دون التركيبة الفيدرالية (التي تكون حصيلة تعزيز المشاعر الانقسامية في المجتمع الواحد)، يمكن أن توجِد أنظمة وحكومات تختلف مع الإرادة أو الرؤية الأميركية، كما جرى بين واشنطن ودول حليفة لها في العالم.

أيضًا، فإنّ إثارة الانقسامات الإثنية أو الطائفية، دون توافر سياق ديمقراطي ضابط لها في إطار من الصيغة الدستورية الفيدرالية، يمكن أن يجعلها سبب صراعٍ مستمرّ يمنع الاستقرار السياسي والاقتصادي المطلوب لتحقيق المصالح الأميركية، ويجعل القوات الأميركية المتواجدة بالمنطقة عرضةً للخطر الأمني المستمرّ في ظلّ حروبٍ أهلية، مفتوحة هي أيضًا لتدخّل وتأثير من قوًى دولية وإقليمية تناهض السياسة الأميركية، كما حدث ويحدث في سوريا والعراق  وغيرهما.

إضافةً إلى أنّ التركيبة الفيدرالية، القائمة على آلياتٍ ديمقراطية، تسمح للولايات المتحدة بعلاقات خاصة مع المتناقضات المحلّية، وبالتدخّل الدائم لضبط الاختلافات بينها في داخل كلّ جزءٍ من ناحية، وبين الأجزاء المتّحدة فيدراليًا من ناحية أخرى. وهذه السياسة ليست وليدة ظروف الحاضر فقط بل هي نهج أميركي يمارس لعقود طويلة وجرت محاولة تطبيقه في لبنان عقب من خلال المبعوث الرئاسي الأميركي فيليب حبيب عقب الاحتلال الإسرائيلي للبنان في العام 1982، ثمّ جرى تطبيق هذا النهج في العراق عقب الاحتلال الأميركي/البريطاني له في العام 2003، وهو الآن صيغة تعمل واشنطن على تنفيذها في مستقبل سوريا ولبنان وليبيا.  

2-    التركيز على هويّة “شرق أوسطية” كإطار جامع لبلدان المنطقة كبديل لهُويّتها العربية، إذ أنّ العمل تحت مظلّة “الجامعة العربية” يمكن أن يؤدّي مستقبلًا إلى ما ليس مرغوبًا به أميركيًا من نشوء تكتّل كبير متجانس ثقافيًا ومتكامل اقتصاديًا، كما في تجربة الاتّحاد الأوروبي، رغم وجود القواعد العسكرية الأميركية في أوروبا، ورغم وجود حلف الأطلسي والانتماء المشترك لحضارة غربية واحدة. لهذا يدخل العامل الإسرائيلي كعنصر مهمّ في “الشرق الأوسط الجديد أو الكبير” الذي دعت له واشنطن منذ فترة الرئيس جورج بوش الأب في مطلع عقد التسعينات، وتواصل العمل من أجله في كل الإدارات اللاحقة على أسسٍ من المفاهيم “الفيدرالية” الطائفية والإثنية، إذ بحضور هذه المفاهيم، تغيب الهويّتان العربية والإسلامية عن أيِّ تكتّل إقليمي محدود أو شامل، ويكون لإسرائيل دورٌ فاعل بعموم المنطقة.

3-    العنصر الثالث المهمّ، في الرؤية الأميركية المستقبلية للشرق الأوسط، يقوم على ضرورة إنهاء الصراع العربي/الإسرائيلي من خلال إعطاء الأولوية لتطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل وعلى وقف حالة العداء بين العرب وإسرائيل. ووجدت الولايات المتحدة الأميركية، منذ توقيع المعاهدات مع مصر والأردن و”منظّمة التحرير الفلسطينية”، أنّ تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية سيدفع الأطراف كلّها إلى القبول بحدودٍ دنيا من المطالب والشروط، كما أنّه سيسهّل إنهاء الصراعات حتّى من غير قيام دولة فلسطينية مستقلّة أو تسوياتٍ سياسية شاملة لكلّ الجبهات، وسيساعد على وقف أيّ أعمال مقاومة مسلّحة في المنطقة.

إذن، كخلاصة، فإنّ حروب واشنطن العسكرية في الشرق الأوسط، والتي بدأت في مطلع التسعينات بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، أرادت:

·                “ديمقراطيات سياسية” في المنطقة، لكن ليس على أساس أوطان موحّدة أو إلى حدّ الاستقلال عن القرار الأميركي.

·                حروبًا أهلية وصراعاتٍ عسكرية محلّية قائمة على انقسامات إثنية أو طائفية، ولكن ليس إلى حدٍّ لا يمكن معه ضبط الصراعات. حروب تستهدف الوصول لصيغٍ دستورية فيدرالية جامعة لما جرى تفكيكه خلال الصراعات في كلّ وطن.

·                إنهاء الصراع العربي/الإسرائيلي بفرض التطبيع بين إسرائيل وكل العرب، وليس بالاعتماد على معيار الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، أو الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلّة منذ العام 1967.

·                استمرار التواجد العسكري والأمني الأميركي في بلدان المنطقة، ولكن ليس إلى حدّ التورّط بصراعات داخلية استنزافية أو الاضطرار لإبقاء قواتٍ كبيرة العدد إلى أمدٍ مفتوح.

***

والمحصّلة من ذلك كلّه، فإنّ صُنّاع القرار الأميركي يأملون في تحقيق أهداف السياسة الأميركية في “الشرق الأوسط”، من خلال تفاعلات الصراعات المحلّية والإقليمية الدائرة بالمنطقة، ودون حاجةٍ لتورّطٍ عسكريٍّ أميركي كبير في أيٍّ من بلدانها!.

فالانهيار كان يحدث عربيًّا (خطوة خطوة) حول أكثر من قضية وفي أكثر من مكان وزمان، ونجحت واشنطن وإسرائيل إلى حدٍّ كبير في خطوات “عرْبَنة الصراعات” إضافةً إلى تقييد مصر عن ممارسة دورها العربي الريادي منذ توقيع اتّفاقيات “كمب ديفيد” والتي كان فاتحة عصر المعاهدات والتطبيع مع إسرائيل.

ورغم ما يظهر على السطح أحيانًا من تباين بين إسرائيل وأميركا، فهناك في تقديري غايات كثيرة مشتركة بين الطرفين، وبغضّ النظر عمّن هو الحاكم في إسرائيل أو في أميركا. وهذه المصالح والأهداف المشتركة هي:

1- إبقاء التفوّق العسكري الإسرائيلي على الدول العربية مجتمعة، والضغط على الدول الكبرى لمنع تسليح بعض الدول العربية.

2- فرض العلاقة والتطبيع بين العرب وإسرائيل بغضّ النظر عن مصير قضايا الملف الفلسطيني.

3- السعي لمنع ومحاصرة أي مقاومة مسلّحة للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين وفي لبنان أيضًا.

4– التحفّظ على أي تضامن عربي شامل حتّى في حدّه الأدنى، وتشجيع الخلافات الحكومية العربية/العربية التي هي لإسرائيل مصدر قوّة، ولأميركا مبرّرٌ لطلب المساندة منها!.

5- تعطيل التقارب والتفاعل بين العالمين العربي والإسلامي، خاصّةً مع الجوار الإيراني والتركي، وبالمقابل تعزيز الدور الإسرائيلي في دول العالم الإسلامي، وطبعًا بدعمٍ أميركي.

***

وفي ظلّ هذا الواقع للسياسة الأميركية بالمنطقة، هناك مصالح أميركية مستمرّة فيها (الأمن، النفط، التجارة، تصدير السلاح) ممّا يؤكّد بالنسبة لأميركا أهمّية المنطقة استراتيجيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا لسنواتٍ طويلة.

كذلك تدرك واشنطن أنّ سيطرتها الكاملة على المنطقة العربية هو أمرٌ يتنافس مع مصالح دول كبرى أخرى كأوروبا وروسيا والصين، وهذا ما يجعل المنطقة ساحة تنافس دولي، وهو ما يحصل الآن وسيزداد تصاعدًا في المستقبل القريب، إضافةً إلى التنافس مع مصالح قوى إقليمية كبرى كإيران وتركيا.

لكن القوى الاستعمارية الكبرى لم تدرك بعد أنّها رغم تجزئة المنطقة العربية والهيمنة عليها لقرنٍ من الزمن، ورغم وجود دولة إسرائيل الحاجز بين مشرق العرب ومغربهم، ورغم “العلاقات الخاصة” مع بعض الحكومات، حصلت في المنطقة معارك التحرّر الوطني وثورات الاستقلال وحركات المقاومة ومحاولات التوحّد بين بعض الأوطان.

لكن للأسف، فكما أنّ الغرب لم يتعلّم من تجارب (قابلية الاستعمار للانكسار)، فإنّ العرب، في المقابل، لم يتعلّموا أيضًا من (قابلية ظروفهم للاستعمار). فالمنطقة العربية (وأنظمتها تحديدًا) لم تستفد من دروس مخاطر فصل حرّية الوطن عن حرّية المواطن. لم تستفد المنطقة أيضًا من دروس التجارب المرّة في المراهنة على الخارج لحلِّ مشاكل عربية داخلية. والأهمُّ في كلّ دروس تجارب العرب الماضية، والتي يتمّ الآن تجاهلها أيضًا، هو درس مخاطر الحروب الأهلية والانقسامات الشعبية على أسسٍ دينية أو إثنية، حيث تكون هذه الانقسامات دعوةً مفتوحة لتقسيم الكيانات والشعوب، وللحروب الداخلية المدمّرة، وللتدخّل الأجنبي، ولعودة الهيمنة الخارجية من جديد.

*مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.