«فرسان السينما»: سيرة موضوعية لسينما المقاومة الفلسطينية / موسى إبراهيم أبو رياش
موسى إبراهيم أبو رياش ( الأردن ) – الإثنين 11/9/2023 م …
تقول خديجة حباشنة: «وجدت نفسي أوثق سيرة السينما الفلسطينية، ومؤسسيها الفنانين الشجعان، الذين ابتكروا لغتهم السينمائية الخاصة، وشكلوا ظاهرة عالمية حول فلسطين في سبعينيات القرن العشرين، وكان لزاما الاحتفاء بريادتهم وتضحياتهم في سبيل إبقاء الفن الفلسطيني وثيقة تثبت حق أصحاب الأرض، وتحميها من سرقات الاحتلال الإسرائيلي، الذي يسعى لنسبة كل شيء لنفسه، في صراع البقاء» ولذلك جاء كتابها «فرسان السينما: سيرة وحدة أفلام فلسطين/ أول مجموعة سينمائية ترافق بدايات حركة تحرر وطني» الصادر عن الأهلية للنشر والتوزيع في عمّان، في 237 صفحة، ويتضمّن سبعة فصول وستة ملاحق، وقدم له الناقد فيصل دراج.
والكتاب مع أنه توثيقي بالدرجة الأولى، إلا أنه أقرب أن يكون سيرة موضوعية للسينما الفلسطينية بوصفها فعلا نضاليا متكاملا مع العمل العسكري والسياسي والإعلامي والتربوي المتعلق بالعمل الثوري الفلسطيني، كما أن الكتاب يمكن اعتباره سيرة موضوعية للمخرج السينمائي الفلسطيني مصطفى أبو علي وأعماله وإصراره على استمرارية «وحدة أفلام فلسطين» على الرغم من المعيقات والصعوبات والتحديات التي رافقت مسيرة الوحدة، وربما لولا أبو علي لماتت الوحدة وانتهى عملها منذ البدايات.
جاء الكتاب مميزا لغة وأسلوبا، بل فريدا في بابه ومجاله، يقول الكاتب والمخرج الفلسطيني مهند صلاحات: «جاء الكتاب بلغة أقرب للسيناريو التسجيلي منه إلى اللغة التقريرية الصحافية أو التوثيقية الجافة، مانحة قراءها متعة الإحساس والتخيل، فهي تصف الأماكن بطريقة أقرب إلى السيناريو منه إلى البحث والتوثيق، وتقسم الكتاب حسب تسلسله الزمني بطريقة أقرب للمشهدية السينمائية، حرصت فيها على دقة التوثيق، وعرض الشهادات في سياق وثائق، فلم تتصرف تحريريا برسائل إخوة وأصدقاء سلافة وهاني، ونشرتها كما هي بلهجتها العامية أحيانا، ودعمتها بالصور النادرة لهم، ما منح السرد والروايات مرجعية توثيقية». ويسجل للكاتبة أنها لم تهمل الكتب والدراسات السابقة حول السينما الفلسطينية واستعانت بها واقتبست منها لإثراء كتابها.
يوثق الكتاب تأسيس قسم التصوير في حركة فتح عام 1968 في عمّان؛ لتصوير وتوثيق العمليات الفدائية والفعاليات الشعبية والمؤتمرات والنشاطات وغيرها مما يتعلق بفلسطين وشعبها. وتأسس القسم في البداية من مصطفى أبو علي مخرجا، وهاني جوهرية وسلافة جادالله مصورين سينمائيين، القادمين من قسم السينما في وزارة الإعلام الأردنية.
البدايات
يوثق الكتاب تأسيس قسم التصوير في حركة فتح عام 1968 في عمّان؛ لتصوير وتوثيق العمليات الفدائية والفعاليات الشعبية والمؤتمرات والنشاطات وغيرها مما يتعلق بفلسطين وشعبها. وتأسس القسم في البداية من مصطفى أبو علي مخرجا، وهاني جوهرية وسلافة جادالله مصورين سينمائيين، القادمين من قسم السينما في وزارة الإعلام الأردنية. وبعد معركة الكرامة بداية عام 1968 التي أظهرت بطولة وصمود الفدائيين وانتصارهم على العدو بمعية الجيش الأردني ومشاركته الحاسمة، «ازدادت الحاجة للتصوير والتوثيق، كما تزايد الطلب على صور الفدائيين، وعن العمليات العسكرية وقيادات الثورة» ما اضطرهم للبحث عن مصورين في صفوف المقاتلين، وكانت باكورة نشاطاتهم معرضا عن معركة الكرامة في آذار/مارس 1969، الذي لقي نجاحا كبيرا، وعرض في أماكن كثيرة في الداخل الأردني والخارج. وتطور عمل قسم التصوير، وامتد للعمل السينمائي، وانطلاقة «وحدة أفلام فلسطين» التي أنتجت أول أفلامها الوثائقية بعنوان «لا للحل السلمي» عام 1969 الذي «يعبر عن الرفض الشعبي والقيادي لمشروع التسوية السياسية المعروف بمشروع روجرز». وأنتجت الوحدة عدة أفلام وثائقية في عمّان، إلى أن اضطرت للانتقال إلى بيروت بعد أحداث أيلول/سبتمبر 1970، واستمرت في أعمالها، رغم الصعوبات والتحديات ومحاولات وقف أعمالها من بعض القيادات التي لا تؤمن بالفن ودوره النضالي. ويشير الكتاب إلى تشتت الإنتاج السينمائي الفلسطيني؛ فلكل منظمة إنتاجها المستقل، وعلى الرغم من محاولات مصطفى أبو علي وغيره لتوحيد العمل السينمائي الفلسطيني، إلا أنها بقيت مجرد آمال وأمنيات لم تتحقق مع تكرار المحاولات والجهود والاجتماعات وعلى فترات. وتحولت «وحدة أفلام فلسطين» إلى «مؤسسة السينما الفلسطينية» واستقطبت عددا كبيرا من العاملين في مجالات السينما المختلفة. وبقي مصطفى أبو علي العمود الفقري لهذه المؤسسة، كما كان من قبل للوحدة، وأخرج العديد من الأفلام في بيروت بالتعاون مع منظمات وهيئات وحركات مختلفة داخلية وخارجية. وفي عام 1972 أسس أبو علي «جماعة السينما الفلسطينية» من خمس وثلاثين شخصية؛ كإطار يجمع جهود السينمائيين وينظم جهودهم.
الأرشيف المفقود
عندما تعرضت بيروت للقصف الإسرائيلي في تموز/يوليو 1981، تولد الخوف على أرشيف وأفلام السينما الفلسطينية وجهود خمسة عشر عاما، خاصة أن مقرها كان في منطقة مستهدفة، حيث توجد مكاتب ومقرات المنظمات الفلسطينية، وبعد استبعاد عدد من الخيارات المكلفة، نقل الأرشيف بسرية تامة إلى طابق تسوية في منطقة الحمراء، دون إعلان عن وظيفة المكان. وعند الخروج من بيروت عام 1982 وضع تحت حصانة السفارة الفرنسية، ولم يُخبر بمكانه إلا ثلاث من القيادات السياسية الأولى. وإثر تفاقم الحرب الأهلية اللبنانية عام 1985 أَبلغتْ السفارة الفرنسية بضرورة نقل الأرشيف لأنها سوف تغلق أبوابها، وبعد محاولات، تبرع تاجر لبناني بوضعه في مخزن بضائع له، وما لبث أن اعتقل من قبل حركة أمل، وفُقد إثر ذلك أرشيف «وحدة أفلام فلسطين» بالكامل، ولم يعثر له على أثر، وهناك إشارات إلى أن جيش العدو استولى عليه، ولم يعلن عن ذلك.
بعد استقراره في رام الله عام 2004 حاول مصطفى أبو علي البحث عن الأرشيف السينمائي المفقود بسرية، وتواصل مع جهات عديدة في دول مختلفة، وبعد وفاته عام 2009 أكملت مهمته زوجته الباحثة الحباشنة المعروفة باسم خديجة أبو علي، فبذلت جهودا كبيرة تعجز عنها مؤسسات، واستطاعت بعد جهود مضنية ولقاءات وسفرات وبحث وتدخلات الحصول على نسخ من أفلام الوحدة ومكتبتها السينمائية بلغ عددها 80 فيلما، وبعضها بحاجة إلى ترميم، واستمرت عملية البحث التي قامت بها الحباشنة عشر سنوات ما بين 2009-2018.
فرسان لا نجوم
جاءت عنونة الكتاب «فرسان السينما» موفقة وذات دلالة عميقة، ففي العادة ترتبط السينما بالنجوم، لكن لأن جميع العاملين في «وحدة أفلام فلسطين» هم أعضاء في حركة فتح، ومقاتلون في الأصل، وعملهم الأساسي ميداني في جبهات القتال وميادين النضال، ففرسان أكثر دلالة من نجوم، إضافة إلى أن أفلام الوحدة في البدايات خلت من ذكر أي أسماء، واكتفت بـ«وحدة أفلام فلسطين»؛ إنكارا للذات، وإعلاء من شأن العمل الجماعي، وتأكيدا للفكرة، وانتصارا للفن باعتباره سلاحا تحريريا ونضاليا.
لم تهمل الباحثة الحباشنة، أيا ممن كانت له يد أو مساهمة أو جهد مع «وحدة أفلام فلسطين» أو حتى شهادة بحق موظفيها وأعمالها؛ أفرادا وحركات وأحزابا ومنظمات ودولا، فذكرتهم بالاسم، وعرَّفت بهم في الهوامش باختصار، ونسيت في غمرة ذلك أن تعرف بنفسها، مع أنه كان لها دور كبير في «وحدة أفلام فلسطين» خاصة عملها المضني في ترتيب وتصنيف الأرشيف، وغيرها من الأعمال المرتبطة بالنساء والأطفال الفلسطينيين في لبنان، وإخراجها لعدد من الأفلام أولها فيلم «أطفال لكن» عام 1979، كأول مخرجة امرأة لفيلم فلسطيني، وهي باحثة وأكاديمية ولها عدد من الكتب والأبحاث المنشورة.
من الأسماء التي كان لها دور أو إسهام مادي أو معنوي في وحدة أفلام فلسطين: «أبو جهاد/خليل الوزير، حسان أبو غنيمة، عدنان مدانات، صلاح أبو هنود، نزيه أبو نضال، المخرج الإيطالي لويجي بيرللي، المخرج الفرنسي جان لوك جودار، ماجد أبو شرار، رشاد أبو شاور، رسمي أبو علي، المخرج الكوبي سنتياغو الفاريز، عبدالله حوراني، المخرج اللبناني فؤاد زنتوت، المخرج العراقي قاسم حول، المخرج مصطفى العقاد، أنيس الصايغ، المخرج غالب شعث، الممثلة البريطانية فانيسا ريد غريف» وغيرهم الكثير.
ملاحق نوعية
اختتمت الحباشنة كتابها بستة ملاحق في غاية الأهمية، وتشكل مادة غنية للباحثين والمهتمين بالسينما الفلسطينية، حيث تضمن الملحق الأول بيانات حول أفلام فلسطين وأهميتها وضرورتها، بينما عرض الملحق الثاني رسائل مصطفى أبو علي لزوجته خديجة، أثناء وجوده في إيطاليا لمتابعة العمل على فيلم «تل الزعتر» وما يجده من صعوبات ومماطلة ومحاولة تهرب من الشريك الإيطالي وغيرها. واحتوى الملحق الثالث على قوائم بالأفلام التي أنتجتها المؤسسات الفلسطينية الثورية المختلفة في الفترة ما بين 1968-1982، وعددها سبع وتسعون فيلما. وتضمن الملحق الرابع قائمة بالأفلام والمواد المصورة الموجودة في أرشيف السينما في تونس وعددها سبعة وعشرون. واستعرض الملحق الخامس نبذة عن حياة وأعمال مؤسسي وشهداء «وحدة أفلام فلسطين» وهم: «سلافة سليم جاد الله، الشهيد هاني جوهرية، الشهيد إبراهيم ناصر «مطيع إبراهيم» الشهيد عبدالحافظ الأسمر «عمر المختار» سمير نمر «فريد إبراهيم حسين» مصطفى أبو علي». وأخيرا ملحق الصور الذي يوثق لعدد كبير من الأعمال والطوابع والشعارات والاجتماعات والنشاطات وبوسترات الأفلام الخاصة بـ«وحدة أفلام فلسطين».
كتاب «فرسان السينما» للباحثة خديجة حباشنة، يشكل إضافة نوعية للمكتبة السينمائية بشكل عام، وللقضية الفلسطينية، ولحركات التحرر، كما أنه يعد وثيقة بحثية تاريخية على قدر عالٍ من الدقة والشمول، وهو كتاب سلس بعيد عن التعقيد والمصطلحات المنفرة، مشوق للقراءة بأسلوبه الممتع الفريد. ولأنه كتب على شكل مقاطع قصيرة، وشهادات، ومقابلات، واقتباسات، وهوامش، فقد جاء أقرب إلى مشاهد سينمائية، ولذا فإنه يمكن أن يتحول بسهولة إلى فيلم سينمائي وثائقي غني مدهش؛ لما يتضمنه من أحداث ومعلومات وشخصيات وأفلام وعقبات وغموض.
والجدير بالذكر أن الكتاب صدر مؤخرا باللغة الإنكليزية بعنوان «Knights of Cinema .. The Story of the Palestine Film Unit» عن بالجريف ماكميلان، بترجمة سميرة القاسم ونادين فتالة.
وبعد؛ فإن الفيلم السينمائي سلاح شديد الفعالية والتأثير في المجالات كافة، ويختصر الوقت والجهد، ويصل إلى شرائح وفئات واسعة بسرعة وسهولة دون كلفة تذكر، وهو من أهم أدوات ووسائل الدبلوماسية الثقافية الناعمة. وأي جماعة أو حزب أو حركة أو دولة، أو أي تجمع صغر أم كبر لا يلتفت إلى هذا الفن واستغلاله وتوظيفه في نشر أفكاره وتحقيق أهدافه، سيبقى متخلفا، قاصر الرؤية، محدود التأثير.
التعليقات مغلقة.