الانفصال عن الواقع .. عالم من دون الأسد ليس كالعالم مع الأسد / نارام سرجون
نارام سرجون ( سورية ) الخميس 12/2/2015 م …
يعجبني في السياسيين الانكليز قدرتهم الهائلة على “الانفصال عن الواقع” والتقلب في الأدوار والمواقف .. وأداؤهم المسرحي المتقن .. وتعبير “الانفصال عن الواقع” بالذات كثيرا مايستخدمونه في مصطلحاتهم السياسية ضد خصومهم .. ولكنهم خصصوا الرئيس الأسد تحديدا بهذا التوصيف عندما كان يقول في خطاباته ابان الأيام الأولى للعدوان الارهابي على سورية بأن سورية كدولة وطنية مصرة على مواجهة الارهاب والمؤامرة ..
واليوم وبعد غياب طويل وعناد أجوف تعود البي بي سي لتتحدث مع الرجل الذي “فصلته عن الواقع” في أحاديث سياسييها وشروحهم المطولة عن الثورة السورية وربيع سورية ونبوءات وتحليلات موظفي البي بي سي .. وقررت سابقا أنه مصاب بالداء الذي لابرء منه .. أي “الانفصال عن الواقع” ..
اسئلة البي بي سي رغم أنها محاولة لتثبيت التزوير بجعل المشاهد يتذكر الأسئلة ومعلوماتها لا الأجوبة المتقنة وثراءها بالأدلة العقلية الا أنها اقرار من البي بي سي أن اصرارها على اغفال حقيقة انتصار الأسد في الحرب هو بعينه الانفصال عن الواقع وبأن الرئيس الأسد موجود رغما عن الصفاقة والغرور الاوروبي والاميريكي وأوامر التنحي الوقحة .. واكتشفت البي بي سي أن لاطائل من العناد في الاستمرار في تصنع تجاهل وجوده كزعيم مشرقي متألق أو تصوير العالم على أنه صار عالما بلا الأسد .. لأن البي بي سي وأخواتها أصرت طوال أربع سنوات على تجاهل وجود الأسد في الساحة الدولية وكأنه شخصية من الماضي الذي لايعود .. وتعمدت صناعة الحديث والتقارير عن سورية دون الاشارة الى مايقول ودون حتى محاولة الاستماع اليه وسماع القصة السورية من فم الأسد.. ووصل انكار الواقع في الخطاب الغربي حدا مثيرا للسخرية ..الى أن طال انتظار البي بي سي .. فقررت العودة الى المستقبل في الشرق الأوسط من بوابة الرئيس الأسد .. الذي عاد من الماضي وانفصل عن الانفصال عن الواقع ..
وبالطبع فان بعض الأسئلة وورود كلام شهود مجهولين أعادت ذاكرتنا مبتسمة الى مسرحيات شهود العيان الشهيرة التي فازت قناة الجزيرة باختراعها .. الشهود الذين دوما يقولون كلاما مفبركا ومقبوض الثمن مثل داني عبد الرحمن وجهاد ابو صلاح وأبطال سينمائيات السي ان ان قرب حرائق حمص المفتعلة .. وكذلك كان جميع شهود عيان المذيع البريطاني من نفس الشاكلة على مايبدو ومن تلك الفصيلة من (المستعربين الاسرائيليين الثوار) الذين تم تدريبهم وتلقينهم مايقولون بالملعقة ..
ولايبدو مرض الانفصال عن الواقع في ذروة الشيزوفرينيا الا عند السؤال عن السلاح الذي لايميز بين المدنيين وضرورة البحث عن سلاح لايقتل المدنيين في الصراع .. وهنا بالطبع لايوجد عاقل في العالم يقول بأن قتل المدنيين مبرر وهو هدف أساسي في المعارك الا (أبو بكر البغدادي وأبو محمد الجولاني وزهران علوش) .. ولكن الجنون بعينه أن تطلب من القنابل في الحرب أن تختار بعناية اين تنفجر لأن المسلح يختار بعناية أن يكون بين المدنيين وفي مطابخهم وأسرّتهم .. ومن السذاجة ان تطلب من الشظايا أن تدقق في هوية من يقف في طريقها وعمره .. وان كان يحمل سلاحا مذخرا أم بلاستيكيا ودمية ..
وهنا سنجد أن السيد جيريمي متأثر جدا بسلاح عدنان العرعور النوعي الذكي الذي لايقتل الا العسكريين والذي استخدمه الناتو الرحيم الرؤوف في ليبيا .. فمما قاله شيخ الثورة السورية العرعور بعد سقوط ليبيا أن الناتو استخدم صواريخ ذكية تتجنب المدنيين ولاتصيب ولاتؤذي الا العسكريين والأهداف العسكرية .. دون أن يفسر لنا العرعور سقوط عشرات آلاف الشهداء من المدنيين الليبيين .. (شاهد الرابط للتذكير المرير بالصفاقة والفجور والنفاق وبالذات في الدقيقة 2
https://www.youtube.com/watch?v=-HZyM366tTg&spfreload=10
ولاندري ان كان يجب احالة السيد جيريمي الى ماقاله قائد عمليات الجيش البريطاني في جنوب العراق عام 2003 عندما استهدفت الطائرات البريطانية منازل مدنية في البصرة بحجة ورود تقارير بوجود (علي حسن المجيد) في أحدها .. فأبيدت عائلات عراقية بأكملها وانقرضت سلالاتها وانقطع نسلها ولكن علي حسن المجيد كان بعيدا فقط 30 كيلو مترا عن مواقع القصف .. وعندما سألته المذيعة البريطانية ان كان ذلك مبررا قال ودون أن يرف له جفن بشري: اننا نقصف البيوت اذا توفر لنا تقريبا 75% احتمال وجود الهدف المطلوب فيها .. لأن الفرصة قد لاتتكرر بغض النظر عن الخسائر الجانبية المحتملة ..
وعندما كان توني بلير يدافع عن حملته العسكرية في العراق الى جانب جورج بوش كان يبرر سقوط ابرياء مدنيين بأنها خسائر جانبية لايمكن تفاديها اطلاقا في الحروب .. فاذا بالخسائر الجانبية في العام الأول للغزو مليون ونصف شهيد مدني عراقي .. وجميعهم على مايبدو سقطوا بحسابات النسبة المئوية لقادة من نوع قائد عمليات الجنوب العراقي .. وأخشى أن يكون المذيع البريطاني يريد أن يبيعنا هذه الأسلحة الدقيقة مع نظريات توني بلير ونسبها المئوية .. لأن عاما اضافيا من الحرب قد يعني سقوط بضعة ملايين من السوريين بدل عشرات الآلاف الذين سقطوا خلال اربع سنوات ..
ولكن خبث السؤال البريطاني كان في محاولة لاستدراج الأسد واغوائه للاعتذارالمبطن وابداء النية في توجيه تعليمات أكثر صرامة للجيش بمنع استخدام أسلحة بعينها للتقليل من خسائر المدنيين بحجة أنه الطريق الوحيد للعودة الى المجتمع الدولي كزعيم مقبول .. ومن ثم يتم انتزاع الاعتراف الضمني بأنه سيتوقف بذلك عن قتل المدنيين الذين “كان يقتلهم” كما أرادت البي بي سي أن تقول .. وفوق أن هذا الكلام ادانة ذاتية فان الهدف الثاني من انتزاع الاعتراف يكمن في تقديم تبرير لاحق لعمليات قصف المدنيين في المدن السورية من قبل المسلحين لأن هؤلاء سيقولون بان اصابة المدنيين مبررة ولامنجاة منها .. وقد اعترف الأسد بأنه مسؤول عنها وان لم يقصدها جميعا .. ولذلك العين بالعين والسن بالسن .. والمدينة بالمدينة ..
الا أن ذروة الانفصال البريطاني عن الواقع تمثلت في آخر أسئلة جيريمي بوين للرئيس الأسد .. جيريمي توّج أسئلته بسؤال يقول:
ماالذي يؤرقكم ليلا ؟؟ هل فكرتم بأولئك القتلى.. وشعرتم أو فهمتم الألم الذي تشعر به أسرهم وآلام الأشخاص الذين قتلوا أو جرحوا؟؟
عندما سمعت السؤال ضحكت وأجزم أن كثيرين ضحكوا مثلي على استفحال الانفصال عن الواقع عند البي بي سي وموظفيها حتى في لحظة الصراحة ومع الذات ومحاولة الاقتراب من الواقع والعودة التائبة .. فأنا أزعم أنني حضرت معظم مقابلات رئيس الوزراء البريطاني توني بلير مع الاعلام وجميع مقابلات جورج بوش ولكن لم يتقدم مذيع واحد ليسأل أيا منهما ان كان هناك مايؤرقه ليلا .. أو ان كان ينام دون أن يمر أمام عينيه المغمضتين شريط صور فيه تصاوير مليون ونصف عراقي كانوا بين ذويهم أحياء يوما ولهم مواعيد مع الأيام والمستقبل .. وتمر أمام عينيه تصاوير أربعة ملايين ارملة عراقية .. وستة ملايين يتيم ومشرد .. شريط لم ينته حتى اللحظة لأن الموت لم يتوقف منذ أن قرر بلير وبوش تحرير العراق من “الحياة” .. ولو قرر أحدهما السهر حتى ينتهي شريط الموت والدم لكان عليهما أن يقطعا جفنيهما كي لايناما الى الأبد .. حتى مع نهاية العمر ودخول القبر لتبقى أعينهما ترمقان المآسي العراقية وتتعذب بأفظع المشاهد ولاتقدر أن تغمض لتتجنب رؤية الأهوال ..
ولم يجرؤ صحفي بريطاني على توجيه هذا السؤال الى توني بلير وهو في موقعه كرئيس للوزراء وترك هذا السؤال نائما عشر سنين عندما تم تمريره اليه عبر كاتب حر بريطاني قابله وجها لوجه .. وكان الكاتب يحاكمه فيما بلير يشرب الماء من الكأس عدة مرات وقد جف حلقه وهو يدور ويناور ..
لو كان مذيع ال بي بي سي يريد فعلا أن يبحث عن الزعماء الذين لاينامون فعليه تحدي سياسة حكومته وسياسة البي بي سي ليوجه السؤال اليوم الى ديفيد كاميرون الذي قتل 150 ألف ليبي في اسابيع بطائراته القاذفة مع ساركوزي .. وعين كاميرون نفسها أغمضت ونامت وسكن جفنها على هدير دم المجازر التي كانت تقوم بها علنا مجموعات المسلحين وتبثها بالفيديو للمباهاة والقاء الذعر بين المدنيين فيسميها كاميرون (ثوار معتدلون منفعلون) .. ولكن الانفصال عن الواقع هو أول شروط العمل في السياسة الغربية وفي المؤسسات الاعلامية الغربية .. ومن لاينفصل عن الواقع .. سيفصل من عمله كما حدث مع مراسل سي ان ان في العراق في حرب عاصفة الصحراء الذي قال بأن الأهداف العسكرية في العراق التي تباهت الادارة الأميركية انها كانت مصانع للأسلحة الكيماوية هي في الحقيقة مصانع لحليب الأطفال رأيتها ووقفت على أنقاضها .. فكان أن وقفت السي ان ان على أنقاض ذلك المذيع في اليوم التالي ..
المهم أن المقابلة الأخيرة للرئيس الأسد على البي بي سي رغم أنها مليئة بالشباك والفخاخ والمصائد والمكائد البريطانية الا أنها لاتستطيع أن تنكر أن البي بي سي ركعت على أبواب قاسيون واضطرت بعد عناد وصلف أن تأتي على ركبتيها تسأل عن الحكاية الواقعية التي لم ترد أن تستمع اليها ووضعت أصابعها في أذنيها أربع سنوات كاملة ..
الكلمة التي يمكن اعتبارها أول رسالة للرأي العام الغربي والى المعارضين السوريين هي التي تضمنها سؤال (النجاة) من السقوط .. لأنها أول عملية نفسية للرأي العام الغربي الذي قيل له مرارا طوال اربع سنوات بأن العالم صار “عالما من دون الأسد” .. فسمع اليوم سؤالا انكليزيا يعني فيما يعنيه أن العالم منذ اليوم لن يكون الا مع الأسد الذي “نجا” من المؤامرة .. وعلى المعارضة (الذكية) أن تلتقط الرسالة الانكليزية .. انها واضحة جدا: لاعالم من دون الأسد منذ اليوم ..
والحقيقة أن عالما بلا أسد ليس جديرا الا أن يكون عالما للبهائم والثعالب والذئاب والأبقار والكلاب .. والنعاج ..
العالم من غير الأسد هو عالم من غير سورية الموحدة الواحدة ..قلب هذا الشرق ..
وبالطبع فان العالم مع الأسد هو غير العالم من غير الأسد .. ونحن بكل فخر الذين صنعنا هذه المعادلة الرائعة .. الشعب السوري والجيش السوري هما اللذان قررا هذه المعادلة المقدسة الوطنية وفرضاها على العالم بقوة الشهداء والتضحيات لأن الأسد كان خيارا وطنيا ورمزا وطنيا .. والجيش والشعب هما من يقرران ماذا يحفظان لهذا العالم وماذا يعطيان لهذا العالم .. ويقرران اسم الرئيس ولون عيونه ولون قلبه ..
وقد قررنا أن يكون العالم عالما مع الأسد وسورية التي نعرفها ونحبها ونموت من أجلها ..شاء من شاء .. وأبى من أبى .. وليبلط العالم سطح الشمس ان لم يعجبه قرارنا .. أو دروب المجرّة ..
التعليقات مغلقة.