قراءة نقدية لكتاب “ألفريدو فاللَّداوْ” بعنوان “القرن الواحد والعشرون، سوف يكون أمريكيا” (1993) / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الإثنين 18/9/2023 م …

 تقديم




كان “جوزيف بايدن” نائبًا للرئيس باراك أوباما (كانون الثاني/يناير 2009 – 2017)، وكانت هيلاري كلينتون وزيرةً للخارجية بنفس الحكومة، وهما من دُعاة “التّفوّق الأمريكي” واستخدام كافة الوسائل لاستمرار الهيمنة الأمريكية، بما في ذلك، وربما في المُقدّمة، الحرب، وأكّد وكَرّرَ كلّ منهما على مدى السنين “إن القرن الواحد والعشرين لن يكون إلاَّ أمريكيا”، وتتجلّى نزعة الهيمنة هذه من خلال التصريحات العدوانية والقرارات والمُمارسات المُعادية لكل من يختلف مع السياسات الرّسمية للولايات المتحدة، أو ينافسها اقتصاديًّا، مهما كان إسم الرئيس وحزبه ولون أغلبية نواب الكونغرس، ولذا تم الإعلان عن محاصرةَ الصّين (بإجْماع الحِزْبَيْن الحاكِمَيْن)، والتّصريح أن هدف حرب أوكرانيا الإطاحة بفلاديمير بوتين وتركيع روسيا

خرجت الولايات المتحدة منتصرةً بنهاية الحرب الباردة، إثر انهيار الإتحاد السّوفييتي، وأصبحت القوة العظمى الوحيدة في العالم، ورغم القوة العسكرية وهيمنة الدولار على التجارة والتحويلات الدّولية والسيطرة الأمريكية على المنظمات الدولية، ظهرت بعض علامات تراجع القوة الأمريكية، خصوصًا مع ظهور الصّين كمُنافس جِدِّي، منذ بداية القرن الحادي والعشرين. أما الوجه الآخر للقوة الأمريكية فيظهر جليًّا داخل الولايات المتحدة، حيث ما انفَكّت الفجوة بين الأغنياء والفقراء تتعمّق، ما يُهدّد التّماسك المُصطنع الذي فَرَضته قوة الدّعاية وقوة أجهزة الأمن الدّاخلي التي تقمع الفُقراء والأقليات بشكل لا يُقارَن بأي دولة أخرى في العالم

 

مظاهر القوة الأمريكية

أصْدَر ألفريدو فالاداو (صحفي ومدرس جامعي في باريس، من أصل برازيلي) كتابًا بعنوان “القرن الحادي والعشرون سيكون أمريكيًا”، نُشِرَ سنة 1993، ثم تم تنقيحه وتحديثه سنة 1999، ويدحض المؤلف الحجج حول “الانحدار الأمريكي”، ويعتقد المؤلف أن الهيمنة الأمريكية سوف تستمر طيلة القرن الحادي والعشرين، لأنها “الدولة الوحيدة التي تتمتع بقوة عسكرية لا مثيل لها، ولأن اقتصادها (الناتج المحلي الإجمالي) هو الأكبر والأكثر ديناميكية على هذا الكوكب، فضلا عن “الطابع العالمي لثقافتها”، ويصف الولايات المتحدة بأنها “إمبراطورية ديمقراطية عالمية” تُحَدّدُ قراراتها مستقبل الكوكب، منذ سقوط جدار برلين، ويُشبِّهُها بـ “روما المنتصرة على قرطاج“.

أثار الكتاب ردود فعل عديدة، ومنها كتاب “بيير بيارنيس” بعنوان “القرن الواحد والعشرون لن يكون أمريكيا”، نَشَرَتْهُ المؤسسة العربية للدراسات والنّشر سنة 2003 في 320 صفحة، لدَحْضِ “حتْمؤيّة استمرار الهيمنة الأمريكية”  

يُؤَكّد المؤلف ألفريدو فالاداو على الهيمنة الثقافية، مُدّعيا “عالمية الثقافة الأمريكية”، وما هذه الهيمنة في واقع الأمر، سوى نتيجة للتفوق العسكري والإعلامي وما ينجر عن ذلك من أسباب تجعل الولايات المتحدة بعيدة عن متناول القوى المنافسة، ولا يتردّد الكاتب في تمجيد قوة الولايات المتحدة ويعلن (مُسْتعجلاً؟) أن “القرن الحادي والعشرين سيكون أميركياً”، ويتجاهل هذا الإعلان المواطنين الأمريكيين المستبعدين من الثروة ومن النّمُو والرخاء، ومن بينهم العمال غير المستقرون والنساء والسود والسكان الأصليون والفقراء بشكل عام، كما تجسّدت الهيمنة الأمريكية في عَسْكَرَة الدّبلوماسية، وتوسيع حلف شمال الأطلسي.

قد يعتبر البعض أن الزمن تجاوز هذا الكتاب الذي نُشِرَ سنة 1993، لكن إصرار أمثال الكاتب، لحدّ الآن على اعتبار الولايات المتحدة نموذجًا للحُرّيّة وللديمقراطية وللتمازج الثقافي، يُحتّم مُراجعة ما أورَدَه السابقون، وأشهرهم “فرنسيس فوكوياما” في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” (1992) وكتاب “صدام الحاضرات (1996) لصامويل هنتنغتون (1927 – 2008)، ومراجعة مجمل كتابات المُستشرق البريطاني الأمريكي برنارد لويس (1916 – 2018) الذي حاول تحسين صورة أمريكا مُدّعيًا إنها تحارب الإرهاب وليس المسلمين في أفغانستان والعراق والصومال وغيرها، وكان إدوارد سعيد ( 1935 – 2003 ) قد نَقَدَ في كتابه “الإستشراق” كتابات برنارد لويس

تعتبر السلطة السياسية ووسائل الإعلام الأمريكية أن الولايات المتحدة “أمة مختارة” يجب أن تكون القوة العالمية الوحيدة وأن تظل كذلك. لذا، يجب على أمريكا أن تمنع، بكل الوسائل، ظهور قوة عالمية أخرى، وهذا لا ينطبق فقط على الصين وروسيا، بل على الاتحاد الأوروبي أيضًا أو الهند أو أي دولة أخرى، كما كان الحال مع اليابان منذ أكثر من ثلاثين عامًا، وتمتلك الولايات المتحدة وسائل عسكرية رادعة، منها 800 قاعدة عسكرية خارج الأراضي الأمريكية، وأساطيل تجوب بحار العالم، وتستفز المُنافسين والخُصُوم، مما يعرض جميع سكان العالم للخطر، بما في ذلك سكان دول الناتو، ولا يتورّع الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن ووزيراه للخارجية والحرب، عن التصريح بإنهم يهدفون إلى تدمير روسيا، أو على الأقل إضعافها، لكن ضحايا هذه الحرب ليسوا أمريكيين، بل روس وأوكرانيون.

اتخذت الولايات المتحدة قرار الحرب أو مُحاصرة روسيا وإيران، لكن أوروبا تُسدّد ثمنًا مرتفعًا للطاقة، على سبيل المثال، ما اضطر بعض الشركات الصناعية الأوروبية لنقل نشاطها إلى الولايات المتحدة، وإنشاء فروع جديدة هناك، وتُظْهِرُ الطلبيات الضخمة لصناعة الأسلحة الأمريكية والأرباح الهائلة التي حققتها صناعة التكسير الهيدروليكي الضارة بيئيًا إنها هي المُستفيدة من هذه الحرب والحَظْر ومن الحصار والعقوبات

منذ القرن التاسع عشر، قال ألكسيس دو توكفيل (كاتب وسياسي فرنسي 1805 – 1859)، وهو من أكبر المادحين “للديمقراطية الأمريكية”: ” يتميّزُ الأمريكيون بالتعالي عن الغير، فهم يعتقدون أنهم أُمّةٌ اختارها الله لإصلاح العالم”. أما الروائي وكاتب المقالات باسكال بروكنر، فقد كتب، سنة 2017: “تبدو الولايات المتحدة الآن خارج التاريخ“.

منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وانتصار الثورة الإشتراكية البلشفية، سنة 1917، عملت الولايات المتحدة على استعراض قوتها، بغض النظر عن الحزب الحاكم، فسواء كانت السلطة في أيدي الديمقراطيين أو الجمهوريين، صعدت الإدارة القائمة دائمًا الحروب الهجومية (لم تخض الولايات المتحدة حربًا دفاعية واحدة، أبدًا) العدوانية التي بدأتها الإدارة السابقة، بدلاً من وقفها.

على الصعيد المحلي، يتجسد العنف في الممارسات القمعية لقوات الشرطة ضد السود والفقراء، فضلاً عن انتشار الأسلحة النارية، إذ يمتلك المواطنون الأمريكيون ما لا يقل عن 300 مليون قطعة سلاح ناري، سنة 2020، فلا تزال شخصية الرُّوّاد الأوائل الذين أبادُوا السّكّان الأصليّين، وشخصية وراعي البقر المسلح الذي يقتل بدون سبب، جزءًا من الثقافة الأمريكية القائمة على العنف وازدراء “الآخرين“.

هل سيكون القرن الحادي والعشرون أمريكيًا؟ يزعم المؤرخون أن “كل إمبراطورية مصيرها الهلاك”، ويوردون أمثلة الإمبراطوريات القديمة التي توسّعت رقعتها وزادت قُوّتها وهيمنتها، قبل أن تنهار لتَقُوم أُخْرى مكانها.

كتب بول ماري دي لا غورس (كاتب وصحفي فرنسي 1928 – 2004) في كتابه “الإمبراطورية الأخيرة”: هل سيكون القرن الحادي والعشرون أمريكيًا، بانوراما مذهلة من نهاية القرن العشرين، فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أصبحت أمريكا تُمثل النظام القائم والمُهَيْمِن عالميا، وانتشرت الرأسمالية في كل مكان، في إشارة إلى هيمنة النموذج الاقتصادي والسياسي الأمريكي، فالولايات المتحدة هي القوة العظمى الوحيدة، ومنذ العدوان الأمريكي على العراق سنة 1991، أرادت الولايات المتحدة أن تثبت قدرتها على نشر وسائل عسكرية هائلة، بعيدًا عن الأراضي الأمريكية، بفضل قواعدها المنتشرة في كافة أنحاء العالم، وبفضل توسيع حلف شمال الأطلسي، وكذلك بفضل الأنظمة الخاضعة التي تخدم المصالح الجيو- استراتيجية الأمريكية وتقمع شُعوبَها، لتتمتّعَ بالحماية الأمريكية.

هل يمكن استمرار الهيمنة الأمريكية؟

تُشير الوقائع الموضوعية أن سكان الولايات المتحدة لا يتجاوزون نسبة 5% من سكان العالم، ولها أعلى نسبة من المساجين ( 25% من مساجين العالم) وقَدّرت بيانات مكتب الإحصاءات الأمريكي، أن معدل الفقر بلغ 11,6% بنهاية العام 2021، ما يعادل 38 مليون أمريكي، وتُقدّر دراسات أكاديمية أمريكية نسبة الفقر بأكثر من 13% من العدد الإجمالي للسّكّان، أما عن العفنف المُسلّح فقد فاق عدد ضحايا السلاح الناري (داخل الولايات المتحدة) 45 ألف شخص سنة 2020، وأكثر من 1,5 مليون بين سنتَيْ 1968 و 2016، وفق موقع هيئة الإذاعة البريطانية ( بي بي سي 25 أيار/مايو 2022 )، فهل يمكن لبلد تنخره مثل هذه المشاكل الإجتماعية أن يتحكّم بمصير العالم حتى نهاية القرن الحالي؟

في الخارج، تعتبر الصين أن انهيار جدار برلين ( وأحداث ساحة تبان آن مينه) لا يعني نهاية التاريخ، بل مرحلة جديدة وفُرْصة لاستعادة قوتها ومجدها القديم، عبر إقصاء تايوان من مجلس الأمن والأمم المتحدة، واستعادة هونغ كونغ ومكاو من بريطانيا، والسيطرة على العديد من أسواق العالم، ومنافسة الولايات المتحدة من داخل منظومة رأس المال الإحتكاري المُعَوْلَم

خلال العدوان على العراق، سنة 1991، قال الرئيس جورج بوش الأب: ” نحن بصدد إقامة نظام دولي جديد، يكون فيه الأمريكيون هم الوحيدون الذين يأمرون، فيطاعون”، وقالت مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس كلينتون: “العالم لنا نحن الأمريكيون”، وأعلن جورج بوش الإبن: “نحن قادرون على فعل كل ما نريد وفي أية بقعة من العالم”، كما أكده وزير الخارجية الأسبق “وارين كريستوفر” سنة 1993: “إن أمريكا سوف تواصل قيادتها للعالم، وهي مستعدة للعمل بطريقة حاسمة لحماية مصالحها في أي مكان، وفي أية لحظة، واذا احتجنا لعمل جماعي فسوف نفعل ذلك مع الدول التي تؤيدنا، لكننا في حالات الضرورة، سوف نتصرف بمفردنا”، وتُشير الوقائع إلى عدم وجود منافس قوي لأمريكا، قادر على الوقوف في وجهها ووضع حدّ لتفوقها، فقد خضع قادة أوروبا، وأصبحت الولايات المتحدة تُقرّر لتدْفَعَ أوروبا الفاتورة، ولم تخضع الصين، ثم انتفض قادة روسيا، بعد فترة الخضوع، من غورباتشوف (الإتحاد السوفييتي) إلى يلتسين (روسيا) وترفض روسيا والصين، وبعض الأنظمة الأخرى القيادة الأمريكية للعالم، لكنها غير قادرة في الوقت الحالي (ولا نية لديها ) لوضع حدّ لهذه الهيمنة، بل لا تتجاوز طموحاتها تقاسم النفوذ، أو ما تُسميه “عالم متعدد الأقطاب“…

هناك تغيير لكنه بطيء، إذ اتسعت دوائر الرفض للأمركة العولمة وللنموذج الأمريكي في أوروبا، فأصبح الشباب يتظاهر في بروكسل (مقر حلف شمال الأطلسي) وفي مدريد، خلال انعقاد قمة نهاية حزيران/يونيو 2022، ويُطالب بحل حلف شمال الأطلسي وإنهاء وجوده

أما روسيا فلا تتجاوز طموحاتها التّحوّل إلى قُوّة إقليمية مُعترف بها دوليا، فيما تريد الصين تطبيق مبادئ الرأسمالية الليبرالية، كامنافسة الحُرّة وفتح الأسواق الأمريكية والأوروبية أمام سلعها، فقد أدرك قادة الصين أن الولايات المتحدة تُهيمن على العالم، عبر القوة العسكرية، ولكن عبر الإقتصاد وعبر السياسة الحمائية للفلاحة التي تحقق فائضًا سنويًّا ضخما من تصدير القمح والذرة وفول الصويا والقطن وما إلى ذلك، كما إن الولايات المتحدة تمتلك مُدّخرات هائلة متأتية من إيداعات أثرياء الخليج وأمثالهم، ومن رهن الأصول، ومن الاستثمارات الأمريكية المباشرة في الخارج، وتظافرت مجمل هذه العوامل، منذ الحرب العالمية الثانية، وبالأخص منذ انهيار الإتحاد السوفييتي، لتتولى الإمبريالية الأمريكية قيادة العالم (إلى الهاوية؟) بدون مُنافس، فكانت، طيلة نحو عقْدَيْن، تقود العالم من أجل الدفاع عن مصالح شركاتها العابرة للقارات التي فرضت برامج “الإصلاح الهيكلي” و الخصخصة وحَظْر دعم الإنتاج الفلاحي، ولم يكن ذلك بشكل مباشر بل بواسطة الدّائنين، وفي مقدّمتهم صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي

يعسر على الولايات المتحدة، رغم ضُعف الأطراف المنافسة، الإستمرار في قيادة العالم، مع تفاقم المشاكل الداخلية الأمريكية، منها الجرائم المُسَلّحة والعُنْصُرِيّة المُتأصّلة كإحْدَى مُكونات التاريخ الأمريكي وعدم المساواه والفقر وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية (حوالي 35% من محرومون من التّأمين الإجتماعي والصّحّي ) ما يجعل هذه الفئات مقْصِيّة من التنمية ومن الديمقراطية، وتعيش على هامش المجتمع الذي يُعَدُّ من الأكثر تفاوتًا في العالم، بفعل المِنَح الحكومية للأثرياء وإعفائهم من الضرائب

من بإمكانه إِذًا تهديد المنظومة التي صَمّمَتْها وأقامتْها وتُديرها الإمبريالية الأمريكية؟ وكيف يمكن الإطاحة بهذه المنظومة؟ لن تكون الصين أو روسيا ملاذًا للشعوب وللطبقة العاملة والكادحين، فهي قوى تريد تقاسم النفوذ مع الولايات المتحدة، لكن الأمل معقود على أولئك الذين يقاومون ويرفضون الخضوع للنظام الأمريكي، لأن المُقاومين يتوصّلون دائمًا إلى ابتكار أشكالً جديدة من المقاومة ضد العنف الإمبريالي والرأسمالي وضد النظام القائم.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.