انفجار المهمشين … أولئك هم المستضعفون في الارض ( 2/2 ) / المحامي عبد الكريم الكيلاني
المحامي عبدالكريم الكيلاني ( الأردن ) – الإثنين 25/9/2023 م …
من امر البيجامة مرورا بفاقد الامل وانتهاءا بالعزل الفيريائي .
قد يبدو ساخرا ، او سببا للتندر ، في الحلقة الثانية من موضوع المقال (الائمة القادمون..) ان ابدأ بامر ارتداء البيجامة ،لكن لعل في ذلك تخفيفا من حدة العواقب في تناول اسباب انفجار المهمشين .
وسأبدأ من أمر البيجامة .
اولا : البيجامة السياسية :
رغم انه واحد من العلامات الاخيرة للرصد ، لدى الحاكم و المحكوم ،إلا انه أخطر المؤشرات التي
تتحدث عنها مذكرات سياسية لأنظمة أفلت .
“ارتداء البيجامة ” من الاوامر العليا ، التي تعني ضمنا انتهاء خدمة المسؤول و جلوسه في البيت ، وهذاالامر ، ثيرموميتر عالي الحساسية ، للتنبؤ بساعة السقوط، وذلك عندما يصدر عن (الباب العالي ) لكن دون اي تاثير من الآمر على المأمور .
فهذا يعني سقوطا وشيكا للنظام .
ساكتفي بشاهد واحد .
حصل ذلك في اواخر ايام مبارك عندما اصدر امره لقائد الجيش المشير طنطاوي ، (بارتداء البيجامه والذهاب الى البيت ) ، أهمل طنطاوي الامر كان في اذنيه وقرا ،وعاد الى قيادة الجيش كالمعتاد ،
يروي احد السياسيين المقربين من الجيش و الرئاسة المصرية حينها :
ادركت حينها ، ان حكم مبارك يلفظ انفاسه الاخيرة، و ان قوة السقوط اصبحت اقوى من قوة البقاء.
البيجامه السياسية ، كناية ، تعني التقاط الاشارات الرمزية ، لأن عدم الخضوع للاوامر العليا له دلالة خطيرة على قطع خطوط التواصل بين سدة الحكم و مراكزالتاثير ، وذلك يحدد المصير القادم للدولة، تبعا لمن سيرتدي البيجامة ،
هل هو الآمر ؟ ام متلقي الامر !!.
ثانيا :مناطق العمل المعتمة :
تتيح المنظومة الامنية و الاستخبارية صلاحيات مرعبة لرجالها ، تمارس في الظلام ، تطفو على السطح بعض آثارها في شكل اجندات مختلفة ،انتخابات مزورة ، تعيينات نفعية مصلحية ، تتبع الولاءات الامنية و اجنحتها ، في اهم المناصب القيادية لاجهزة الدولة ، وزراء وسفراء ورجال قضاء و مدراء وغيرهم ، قرارات ظاهرها حكومي و باطنها امني ، احزاب وهمية كرتونية ، اعتصامات مصطنعه ، واحتجاجات عن بعد بالريموت ، عيون امنية تزرع في (ارض الخوف ) تُمنح الحصانة لأفرادها ،رغم بث اقوال و القيام باعمال، دون اية رقابة او مساءلة .
ادرك كل نظام آفل متاخرا ، ان مؤامرة في الظلام حيكت ضده ، اخطر بكثير من المؤامرة التي تصنع على عينه ، هذا ما كشفته اهم الوثائق الخفية و التسريبات ، بعد سقوط الانظمة شرقا وغربا من مصر الى تونس و من ليبيا وحتى اليمن ، عن سلطة عليا تعمل في الظل و تحكم النظام نفسه ، وتحدد مصير البلاد والعباد ، اطلق عليها الدولة العميقة ،لانها تدار من جهاز أمني غامض بطبيعته ،وتحرك وجوها متنكرة في كل مكان ،ممسوكة بخيوط غير مرئية تحرك الدمى ، على خشبة مسرح الواقع ، مجالها لا يمكن حصره ولا احصاؤه ائمة، وعاظ ، ادارات بنوك صحف حكومية ومعارضة سينما ومسرح و ممثلون ، نقابيون ، وفي كل موقع طلعت عليه الشمس او منه غربت .
ولكي تتمكن الترسانة الأمنية من العمل بمطلق الحرية لابد من الخفاء ، وتحريك عناصرها لأهداف مستترة ، لابد من غياب للرقابة و التصويب حفاظا على السرية الأمنية ( لطيور الظلام ).
فاذا ما اقترن ذلك بحكمة ضالة ، ورؤية ضبابية عند الاجهزة ومن يتعاملون معها، لأن جمع المعلومات،وتقديم التوصيات الامنية ( الصيد الثمين ) ، لا يوازيه عمل مخلص ، أهم وأ بعد من الرصد ألا وهو التقييموالتحليل ، للكم الهائل من المعلومات الاستخبارية
التي تعتبر وحدها مصدر الولاء للدولة .
فتحدد الجهات الأمنية حصريا ، مصير رجل الدولة في كل موقع ، بنعم او لا ، وبين نعم ولا طارت الرؤوس عن أعناقها ، و العقول من بروجها.
وينتهي الامر الى تقديرات خاطئة في قراءه منحنى التغيير اجتماعيا او اقتصاديا و يتخذ شكله النهائي، في استبدال النظام برمته الذي لم تحلل بياناته ، و لم تدرس احتمالات الاسوأ بطريقة علمية ، لأن ابليس كان يجري في عروق الدولة دون ان يراه احد او يستعيذ منه احد .
ثالثا : عندما تصبح كمية المفقود من خزان الامل ، اضعاف الموجود ، فذلك يعني الاستعاضة عن السائل الطبيعي الذي يسرى في اوصال الدولة ليمكن جسدها من النهوض ، بسائل آخر مضاد للبقاء ، يتشكل من القهر ، و الحقد ،و الرعب ، وذلك مرتبط بعوامل يمكن قياسها ، ازدياد نسبة المتعطلين ، تدني الاجور ،تدهور المنظومة الحقوقية الى الحضيض ، تفشي الفساد و ظاهرة الفوارق الطبقية ، تراجع الحريات ، وازدياد درجة الغليان المكتوم في الصدور .
والنظام في لحظة الانفجار ، ونضوب خزان الامل ،يكون مشلول القدرة على تحريك الفئة المؤثرة و القادرةعلى الدفاع عن منجزات الاوطان، وهم العامة الغالبة ، فالمسؤولية الشعبية تختفي كليا ، فيعلو هديرالجماهير، او يغلب سكونها (القاتل الصامت ) لتحجم عن صيانة مكتسبات الاوطان ،
فتنزلق البلاد الى هاوية بلا كوابح ،و لايمكن لاحد السيطرة عليها ولا تاثير لاصوات الحكماء التي تذهب هباءا في مواجهة رياح التغيير العاتية .
رابعا : تصدع الاعمدة القديمة للنظام، وتآكل الهيكل التقليدي لمؤسسة الحكم يرافقه عجز كلي عن استبدال حمولة زائدة ، ينتقدها النظام الآفل ، ويتيح هامشا للعنها في السر او العلن ، بل و ضربها بالاحذية والنعال ، وفي ذات الوقت فان الحكم نفسه يبقى اسير الوهن، مكبل اليدين عن الاجتثاث .
هذا ما تحكيه ، نهاية حقبة الاسرة العلوية في مصر ، فعندما عرض على الملك فاروق تصديق قانون الكسب غير المشروع ، الذي تضمن استثناء فئة الباشوات و امثالهم من احكام القانون ،
قال لرئيس ديوانه : هو في حد يسرق غيرهم!!!!
ثم ذيل القانون بامضائه ، راغما غير راض.
وتلك واحدة من اسباب الانفجار ، فعجز النظام ، في اوقات الازمات عن تبديل رموزه ، يعني افتقاره لعناصرقوته الذاتية ، واقصى تحصيله ، اعادة تدوير و انتاج للمستهلك من مخلفات البضاعة السياسية ، ليواجه بفشل ذريع في جذب انتباه الجماهير لتبديلات يجريها النظام في الوقت الضائع و يراها الجمهور شكلية ،فضلا ان التغييرات ذاتها ، لا تكفي وحدها بل يجب ان يرافقها بالونات اختبار حقيقة ، لتقييم الاستجابةالشعبية لاي اصلاحات عميقة،
،،وهذا ما ما قامت به انظمة قوية عقلت الدرس وتمكنت من الصمود دون اي تلاعب بالاختيار الشعبي ، واهمية معرفة الطبخة ( المخبأة داخل القِدْر ) كما حصل في المملكة المغربية .
خامسا :العزلة الفيزيائية للنظام السياسي:
يتخذ النظام الآفل ، قبل زواله ، منطقة معزولة عن الاكتظاظ و الازدحام السكاني ، يقصرها على طبقة الحكم وحاشيتهم ، فلا تلمس لمعاناة الرعية اثرا ، في تلك المستعمرات ، فلا ازمة سير ولا طوابير عيش ولا تلوث لهواء يخنق الانفاس .
الاحتكاك الفيريائي بين الحكم و الرعية ، ضرورة تمكن من استكشاف دقائق الامور ، عبر قراءة العيون وتفرس الملامح ، و استراق الهمسات في الزقاق وعلى الارصفة و بين رواد المقاهي و المساجد و الكنائس وحضور كبار المسؤولين في كل هذه الثكنات الشعبية ، هو رافعة لا غنى عنها لكل نظام يروم الصمود والاستمرار .
اخيرا ، إن من شهدوا اشراط الانفجار ، فاخلصوا لاوطانهم ، دون خوف و لاعنف ، وأمكنهم الاعتبار دون شقاء ولا سلبية ضراء ، وادركوا ناموس التغيير وطوق النجاة من الويلات و المآسي التي يجلبها الاستبداد، او تأتي بها الفوضى ، تداركو الخطر المحدق قبل وقوعه و حصنوا اوطانهم وانفسهم من السقوط المريع في فوضى الحكم وضياع الدولة .
اولئك لهم التحية .
والله لطيف بعباده
التعليقات مغلقة.