بين خطابات عباس ومسؤولياته / نهاد ابو غوش

نهاد أبو غوش ( فلسطين ) – الثلاثاء 26/9/2023 م …




لم يحمل خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أي جديد يذكر خلافا لما ورد في خطاباته خلال الدورات السابقة، فقد قدم أبو مازن سردا طويلا نسبيا (25 دقيقة) لمعاناة الفلسطينيين ومظلوميتهم، وما يتعرضون له من قمع وعسف على يد المحتل الإسرائيلي منذ 75 عاما، إلى جانب خذلان المجتمع الدولي للفلسطينيين وحقوقهم وعجزه/ أو امتناعه عن تنفيذ أي من مئات القرارات التي تنصف الفلسطينيين.
على الرغم مما في الخطاب من تكرار وإعادة، فمن الجيد أن الرئيس التزم النص المكتوب للخطاب، ولم يخرج عنه إلا بقدر يسير جدا، ولذلك لم ينزلق إلى أي هفوة مشابهة لتلك الهفوات التي التصقت بالرئيس الفلسطيني مؤخرا مثل إصراره العجيب في مناسبات عدة على تقمص دور المحاضر في التاريخ والحديث عن المحرقة وأسبابها، وبصرف النظر عن صحة ما ورد في خطابات الرئيس وكثير منه صحيح بلا شك، إلا أن الأمر انقلب وبالا على الفلسطينيين في كل مرة، وقد نشطت الدعاية الصهيونية المدعومة من مواقف الدول الغربية في تحويل الفلسطيني الضحية إلى متهم بإنكار المحرقة ومعاداة السامية، وكل ذلك ساهم في الإفراج عن مأزق حكومة التطرف اليميني العنصرية التي عمد بعض وزرائها علانية إلى التفاخر بسياسات الفصل العنصري (الأبارتهايد) وتشجيع قيام ميليشيات المستوطنين بتنفيذ المحارق لردع الفلسطينيين.
من حسنات الخطاب الأخير ايضا أنه ابتعد عن لغة المَسكَنَة التي ميزت خطاب النكبة المعروف بخطاب “احمونا” والذي طالب فيه الرئيس العالم بحماية الفلسطينيين من بطش الاحتلال على غرار ما يجري الاهتمام عالميا به من حماية الحيوانات، لكن الخطاب لم يخل من هفوات صغيرة بالطبع وهي ليست زلات لسان بمقدار ما تعبر عن خيارات سياسية ومنها التمسك في كل مرة يجري الحديث فيها عن المقاومة الشعبية بعبارة “السلمية”، ومن يتابع السياسة الفلسطينية يدرك أن هذه الكلمة فيها إدانة للمقاومة المسلحة أكثر مما تحمل من تمجيد للمقاومة الشعبية السلمية. وانشغل الخطاب في تقديم تبريرات لعدم إجراء الانتخابات محملا المجتمع الدولي وخاصة الغرب مسؤولية عدم دعم الفلسطينيين في الضغط على إسرائيل من أجل السماح بإجراء هذه الانتخابات، مع أن هذا الموقف والتبريرات التي تصاحبه هي محل خلاف وطني فلسطيني، في ضوء دعوة عديد القوى والتيارات إلى تحويل الانتخابات في القدس إلى معركة وطنية وعدم الاكتفاء باستجداء موافقة الإسرائيليين على إجرائها. ومن المآخذ التي يمكن تسجيلها على الخطاب إدراج مطلب دعم السلطة المالي مع القضايا الجوهرية المرتبطة بالحقوق الوطنية وكأن هذا المطلب مساو لتلك الحقوق، إلى الإكثار من طرح التساؤلات عن عدم تدخل المجتمع الدولي لإنصاف الفلسطينيين والتي بات جوابها معروفا: فالعالم لن يتدخل من أجلك طالما أن مصلحته لا تكمن في ذلك، وطالما أنك تستعيض عن الفعل لتحقيق مطالبك بهذا الكلام وهذه المناشدات.
من الإشكالات التي حملها الخطاب أيضا مطالبة العالم بدعم التوجه للمحاكم الدولية المختصة، وهذا التوجه ما زال محاطا بالشكوك نظرا للفارق الجوهري بين التوجه للمحكمة الجنائية الدولية بصيغة إحاطتها بالإشعارات والبيانات، وترك مهمة تحريك الدعاوى للمدعي العام للمحكمة بناء على تقديراته لأهمية القضية، وبين صيغة توجه فلسطين كمشتكٍ وباعتبارها عضوا في ميثاق روما، وهذا ما يلزم النائب العام والمحكمة النظر في الشكوى، ومعلوم أن هذا الموضوع كان وما زال محل ضغوط مستمرة من قبل الإدارة الأميركية وإسرائيل على السلطة الفلسطينية لمنعها من التوجه للمحكمة أو لهيئات الأمم المتحدة، وفرض عقوبات عليها في حال قيامها بالتوجه لهذه المحافل.
نشطت آلة “التسحيج” وهو تعبير محلي يعني حرفيا “التصفيق” أو الموالاة المطلقة والتأييد المسبق للرئيس وكل ما يفعله وبخاصة خطابه حتى قبل سماعه وقراءته، في تعداد المآثر التي جاء بها خطاب الرئيس من إقناع العالم بالرواية الفلسطينية، والرد على زيف الرواية الصهيونية. وما غفل عنه هؤلاء هو أن هذا التأييد الجارف وتحميل الخطاب أكثر مما يمكن أن يحمل بكثير، يوحي أن هذا الخطاب هو الفعالية الأهم الرئيس، فلا يهم ما يفعله أو لا يفعله طوال العام، وليست مهمة كذلك أحوال المؤسسات القيادية الفلسطينية، ولا فشل لقاء المصالحة في العلمين قبل أقل من شهرين، ولا الاتفاقيات الأمنية العلنية والسرية مع إسرائيل (العقبة، وشرم الشيخ، وخطة الجنرال فنزل مثلا) ولا طريقة إدارة الشأن الداخلي طالما أن هذا الخطاب يمكن له أن يفحم الإسرائيليين ويلجمهم.
من المهم الإشارة إلى أن هذا الخطاب جاء بعد أيام قليلة من نشر نتائج الاستطلاع الذي أجراه “المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية (مركز بإدارة خليل الشقاقي ومقره في رام الله وليس في غزة أو الخارج)، ويتبين فيه أن نسبة الرضا عن أداء الرئيس عباس لا تتجاوز 21%، مقابل عدم رضا 76%، قبل ثلاثة أشهر كانت نسبة الرضا 17% مقابل عدم رضا 80%، كما بلغت نسبة الراغبين في استقالة الرئيس نحو 80%، وقالت نسبة 24% من المستطلعين أن فتح بقيادة الرئيس عباس هي الأجدر بقيادة الشعب الفلسطيني مقابل نسبة 27% ترى أن حركة حماس هي الأجدر، مع الإشارة إلى أن هذا الاستطلاع ومعظم الاستطلاعات التي تجري في الأراضي الفلسطينية تظهر أن القائد الفلسطيني الأسير هو صاحب الشعبية الأكبر بين جميع القيادات الفلسطينية من مختلف الانتماءات والتوجهات.
سبق للرئيس عباس في خطابه أمام الجمعية العامة عام 2021 أن “أمهل” إسرائيل عاما واحدا لكي تنسحب من الأراضي المحتلة بما فيها القدس الشرقية، متوعدا بإجراءات لم يفصح عن كنهها مكتفيا بالتساؤل عن جدوى الاستمرار بالاعتراف بإسرائيل، مضى العام من دون أي فعل ملموس، وها هو العام الثاني يمضي والاحتلال يتكرس أكثر وأكثر على أرض الواقع، بل تبدو السلطة بعد انقضاء العام الثاني مهتمة بفرض سيطرتها على شمال الضفة في مواجهة مجموعات المقاومة، والاتصالات مفتوحة لاستئناف الاتصالات والتنسيق الأمني.
يبدو الخطاب بشكل أو بآخر، تعويضا عن غياب الفعل المادي على الأرض أو بديلا عن هذا الفعل، لكن الخطاب في نهاية المطاف محض كلام، فهو لا يتوّج خططا وبرامج كفاحية فعلية، ولا يمهد لخطط مستقبلية، سيضاف الخطاب إلى ملفات التاريخ ووثائق الأمم المتحدة، وسينساه مؤيدوه ومنتقدوه على السواء، بينما تتراكم المشكلات في الواقع، ويتراكم خزان القهر والغضب والسخط مهددا بمزيد من الانفجارات.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.