إفريقيا، بداية الإنعتاق؟ / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الإثنين 2/10/2023 م …
أرجو الإعتذار عن طول النّص فهو دراسة أو بحث عن دوافع التغييرات في إفريقيا وتوصيف للوضع، مع تذكير ببعض الأحداث الهامة وبالصّراعات الدّولية الدّائرة للهيمنة على موارد القارة، ولا يمكن تناول هذه المواضيع بعجالة، وأُوَجِّهُ من أراد الإقتصار على الأخبار أو الإشارات القصيرة إلى مطالعة النشرة الأسبوعية بعنوان “متابعات”، وهي تتكون من فقرات قصيرة نسبيا في محاولة لمتابعة أهم الأحداث، أما مثل هذا النص فيتوجه لمن أراد التّعَمُّقَ والبحث عن وفي خلفيات الأحداث…
مكانة وأهَمِّيّة قارة إفريقيا
كانت إفريقيا مهد الإنسان الأول، وظهرت بها حضارات عظيمة مثل الفراعنة وقرطاج وتبلغ مساحة القارة 30,2 مليون كيلومتر مربع وتغطي 6% من إجمالي مساحة كوكب الأرض، وتشغل 20.4% من إجمالي مساحة اليابسة، ويُقَدّر عدد سكانها بحوالي 1,2 مليار نسمة أو حوالي 14,8% من سكان العالم وفق بيانات 2016، ويحيط بها البحر الأبيض المتوسط من الشمال والمحيط الهندي والبحر الأحمر وقناة السّويس من الشرق والمحيط الأطلسي من الغرب، وتضم إفريقيا ثلث الثروات المعدنية، وثُلُثَيْ (65% ) الأراضي الصالحة للزراعة في العالم، وبها مساحات كبيرة من الغابات، واحتياطي هائل من المعادن الثمينة ( الذهب والكوبالت والبلاتين…)
تعتبر الشركات العابرة للقارات سكان القارة مُستهلكين للسلع التي تُرَوّجها، وتحتل القارة موقعا استراتيجيا حيث تحدّها قارة آسيا شرقا وأوروبا شمالا والمحيط الأطلسي وأمريكا الجنوبية غربًا والمحيط الهادئ والهندي جنوبا وشرقًا، إي إن البحار والمُحيطات تُحيط بالقارة من كل جوانبها، وبها مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية الخصبة والغابات والمياه، وتحتوي أراضيها حجمًا هائلاً من المعادن، يُقدّر بحوالي 12% من الاحتياطي العالمي للنفط، و 42% من مواقع الذهب، و 19% من اليورانيوم، و45% من اليتانيوم، كما تغطي القارة أكثر من 50% من إجمالى الطلب العالمى على الألماس، بحسب بيانات البنك العالمي لسنة 2018، ويقدّر الناتج المحلي الإجمالي لدولها مُجتمعة بنحو 3,4 تريليون دولارا، أو ما يُعادل 3% فقط من الناتج الإجمالي العالمي، وفشلت الدول الإفريقية في رَفْع مساهمة منطقة التجارة الحرة الأفريقية وزيادة حجم التجارة البينية بين بلدان إفريقيا من 17% سنة 2018، إلى قرابة 60% سنة 2022، بفعل عدم إحراز تقدّم ملحوظ في تسهيل عبور الإستثمارات والسلع، وإنشاء اتحاد جمركي، وسوق موحدة للسلع والخدمات، لكن ارتفع حجم التبادل التجارى بين دول إفريقيا وروسيا، من حوالي خمسة مليارات دولارا، سنة 2010 إلى 15 مليار دولارا سنة 2017 وإلى نحو عشرين مليار دولار، سنة 2018، وزاد نشاط الشركات الروسية في عدد من البلدان، ومن بينها جنوب افريقيا وزيمبابوى وزامبيا وموزمبيق وأنغولا والغابون، وخصوصا في قطاعات النّفط والتّعْدِين والطاقة، وارتفع حجم نشاط شركات ‘ألروسيا” لإنتاج الألماس، وشركات الطاقة، ومن بينها شركة “روس نفط” و”لوك أويل” و”غازبروم”، ومؤسسة “روس آتوم” وغيرها، بالإضافة إلى شركات تصنيع وبيع الأسلحة، وتشير الأخبار إلى توقيع روسيا، بين سَنَتَيْ 2014 و 2018، اتفاقيات تعاون عسكري مع 19 دولة إفريقية، وتستوعب إفريقيا نحو 17% من إجمالي صادرات الأسلحة الروسية (باستثناء مصر)، وتشمل الأسلحة المُصدّرة إلى دول مثل أنغولا ونيجيريا والسودان ومالي وبوركينا فاسو وغينيا الاستوائية خلال عامي 2017 و2018، طائرات مقاتلة، وطائرات مروحية للنقل والقتال، وصواريخ مضادة للدبابات، ومحركات للطائرات المقاتلة، وغيرها، بالتوازي مع تطوير بعض هذه البلدان علاقات عسكرية مع الولايات المتحدة في إطار البرنامج العسكري الأمريكي “أفريكوم”…
تتميز قارة إفريقيا بتنوع وثَراء الموارد الطبيعية الضرورية لنمو اقتصاد الدول الرأسمالية المتقدّمة، وأعربت حكومة روسيا (ومن قبلها الصين وأوروبا) عن اهتمامها بمجالات الزراعة والطاقة والتّعدين، ووعدت الدول الإفريقية بتطوير التعاون في مجالات “نقل التكنولوجيا” (والتكنولوجيا لا تُنْقَل، بل تكون نتاجًا لتطور داخلي في قطاعات التعليم والبحث العلمي والتقني)، وتطوير العلوم والإبتكارات والتعليم والإستثمار في البنية التحتية، والتكنولوجيا النووية والنقل…
إفريقيا محل صراع
لم تكن فرنسا هي القوة الإستعمارية الوحيدة التي هيمنت على إفريقيا، بل تعرّضت مناطق القارة إلى الإستعمار البريطاني والألماني والإيطالي، فضلا عن نظام الميز العنصري الذي هيمن على جنوب إفريقيا وناميبيا وزمبابوي، فضلاً عن الإمبريالية الأمريكية التني لم تكن لها مُستعمرات – بالمفهوم التقليدي – في إفريقيا، ولكنها خاضت صراعًا مكتومًا مع الإمبريالية الفرنسية بشكل خاص لنيل حصتها من ثروات إفريقيا وموقعها الإستراتيجي، سواء بشكل مباشر أو بواسطة حلف شمال الأطلسي وتحالفات “دولية” تُشرف عليها وتقودها الإمبريالية الأمريكية، وبالأخص منذ انهيار الإتحاد السوفييتي وتدشين سلسلة التّدخّلات العسكرية الأمريكية، بداية من الصومال قبل تأسيس “القيادة العسكرية الأمريكية لإفريقيا” (أفريكوم) والعدوان على ليبيا ونشر القواعد العسكرية (المغرب وموريتانيا وتونس وكينيا وليبيريا وسيرا ليوني…)، ومنها قواعد الطائرات الآلية في النيجر وبوركينا فاسو وغيرها…
أصبحت قارة إفريقيا، بفعل موقعها الإستراتيجي وثرواتها الهائلة، محل صراع بين القوى الإستعمارية التقليدية (فرنسا وبريطانيا ودول الإتحاد الأوروبي عمومًا)، والولايات المتحدة، وكذلك القوى الصاعدة مثل الصين والهند واليابان وروسيا وتركيا، والكيان الصهيوني الذي استعاد مواقع كان خَسِرَها مؤقتًا بعد عدوان 1967، وخصوصًا بعد عدوان 1973، بل واكتسَح مواقع جديدة وهامة مثل نيجيريا، رغم الدّعم الذي قدمه الكيان الصهيوني للإنفصاليين بقيادة الجنرال “أوجوكيو”، ورغم الدعم الذي قدمه الكيان الصهيوني للإستعمار البرتغالي ولنظام الميز العنصري…
أدّى تطوير العلاقات بين إفريقيا وروسيا والصين إلى تزايد اهتمام الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبى بقارة وبأسواق إفريقيا، لكن روسيا والصين عملتا على تعزيز فُرص الشراكة الاقتصادية والتجارية، مع تغليف هذه الأهداف باحترام السيادة أو بالتنمية المُسْتدامة أو غير ذلك من العبارات الإضافية، مثل “التعاون في المجالات الإنسانية والاجتماعية” أما الولايات المتحدة وأوروبا فإنها تريد استنزاف ثروات القارة، دون مقابل.
كانت إفريقيا ساحة صراع منذ القرن الخامس عشر، بين البرتغال وإسبانيا، خلال فترة “النّهضة” الأوروبية، قبل عصر الرأسمالية واستنزف المستوطنون الأوروبيون القوى البشرية من خلال العبودية، حيث قُدِّرَ عدد شباب القارة الذين تم اقتيادهم إلى أوروبا ثم إلى الأمريكيتين بنحو 12 مليون شخص، خلال حوالي ثلاثة قرون، بين ذكور وإناث، ثم دخلت الولايات المتحدة ميدان التنافس في إفريقيا بقوّة بنهاية القرن العشرين، عبر تدمير الصومال وتفكيك أوصال الدّولة، منذ العقد الأخير للقرن العشرين، ثم عبر أفريكون (بداية من سنة 2007) وتدمير ليبيا ( 2011) وإنشاء القواعد العسكرية في العديد من مناطق القارة التي أصبحت عُرضة للتنافس، بهدف الهيمنة على موقع وثروات هذه القارة، في إطار التقسيم العالمي للعمل، وفي إطار التبادل غير المتكافئ، وفي إطار الهيمنة الإمبريالية المُعَوْلَمَة، كما تُحاول هذه الورقة توضيح الأسباب التي حوّلت إفريقيا، منذ زمن، إلى ساحة صراعات بين مختلف القوى المهيمنة عالميا، ودخول الصين وروسيا والهند وغيرها (إضافة إلى الكيان الصهيوني)، إلى القارة للحصول على نصيب من ثروات إفريقيا…
تحولات:
كانت الإنقلابات المتتالية نتيجة الأزمة الأمنية والسياسية في منطقة الساحل، هل تؤشر هذه الإنقلابات على توازن جيوسياسي جديد للقوى في أفريقيا؟
أصبحت فرنسا معزولة، مقابل ارتفاع شعبية قوى أخرى مثل روسيا التي تستغل انتكاسة فرنسا ( التي تحارب روسيا في أوكرانيا وتزاحمها في مناطق أخرى من العالم) وتُوجّه نحو إفريقيا خطابًا عن ضرورة “الإنتقال نحو نظام متعدد الأقطاب”
تُذَكِّرُ وسائل الإعلام الروسي (التي تم حَظْرُها في أوروبا) إن التدخل العسكري الفرنسي المباشر في مالي منذ عام 2013 جعل فرنسا تضطلع بدور المُحافظ على أمن المنطقة المحيطة بالصّحراء، لكنها فشلت لأنها أمن إفريقيا لا يعنيها، بل تهتم فرنسا بتعظيم أرباح شركاتها التي تستغل ذهب مالي ويورانيوم النيجر ونفط الغابون والكونغو ومواني دول غربي إفريقيا وما إلى ذلك…
بعد عشر سنوات من التدخل العسكري المباشر في مالي، لم تحقق فرنسا “تعزيز أمن منطقة الساحل”، بل ارتفعت حدة الغضب واضطر الجيش الفرنسي إلى الإنسحاب من منطقة النفوذ التاريخي للإمبريالية الفرنسية: مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وربما من بلدان أخرى لاحقًا.
لقد أدى اندماج أفريقيا ( كُرهًا أو طواعية) في الإقتصاد المُعَولم، خصوصًا منذ بداية القرن الواحد والعشرين، إلى خلق توازن جديد للقوى في العديد من بلدان القارة، وخاصة بلدان أفريقيا الناطقة بالفرنسية، حيث تضخّمَ الدور السياسي والإقتصادي للصين وروسيا والهند وتركيا، وأصبحت هذه الٌقوى تنافس فرنسا التي لم تَفِ بوعدها المتمثل في القضاء على المنظمات الإرهابية، ولذلك لم تعُد شريكًا حصْرِيًّا أو مُبَجّلاً في إفريقيا الناطقة بالفرنسية، بل يُطالب المتظاهرون في مالي وبوركينا فاسو والنيجر برحيل الجنود الفرنسيين وإلغاء اتفاقيات التعاون والدفاع المشترك، وإزاحة القوى السياسية الموالية لفرنسا عن الحُكْم
استغلت القوى الأخرى الانسحاب القسري الفرنسي لاحتلال الساحة وملء الفراغ، ومنها روسيا والصين وكذلك الولايات المتحدة التي بدأت تُقوّض النفوذ الفرنسي منذ الإعلان عن برنامج أفريكوم، سنة 2006…
العلاقات الصينية الإفريقية
تسعى الصين، منذ سنة 1978، إلى استنزاف المواد الأولية من البلدان الفقيرة، ومنها إفريقيا، وإغراق أسواقها بالمواد الصينية الرّديئة والرخيصة، والتي قَضَت على الصناعات والزراعات المحلية، التي لم تتمكن من الصمود ومن مقاومة الإجتياح الصيني، وتعززت الإستثمارات والتّجارة الصينيّتَيْن في إفريقيا، من خلال منتدى التعاون الصينى الأفريقى (فوكاك)، ومبادرة الحزام والطريق، وزاد تأثير الصين في اقتصاد إفريقيا تدريجيًّا، وبلغ حجم التجارة بين الصين ودول إفريقيا عشرة مليارات دولارا سنة 2000، ثم ارتفع بين سنتي 2013 و 2018، بنحو 20% ليصل إلى 204,2 مليار دولارا، سنة 2018، وأعلن الرئيس الصيني “جين بينغ”، خلال القمة الصينية الإفريقية “منتدى التعاون الصيني الإفريقي (أيلول 2018) تعزيز التعاون، عبر تخصيص ستين مليار دولار للإستثمارات (أضاف الرئيس الصيني عبارة “والمُساعدات”، وهي من المُحسّنات اللفظية، لا غير)، ووَعَدَ بإعفاء بعض الدول الإفريقية من سداد بعض ديونها، والواقع أن الصين حوّلتها إلى “استثمارات”، أي إن الصين تملكت موارد بنفس القيمة، في البلدان “المُعْفاة” من تسديد الدّيون، وأعلنت وكالة “شينخوا” عن مجموعة من الإتفاقيات، بنهاية المُنتدى، في مجالات الأمن والبُنْيَة التّحتِيّة والتجارة والرعاية الصحية، مما أثار تعليقات سلبية في أوروبا والولايات المتحدة، التي شهدت ركودًا في حجم تجارتها مع القارة الإفريقية، وأعلن وزير الإقتصاد في حكومة ليبيريا (التي أنشأتها الولايات المتحدة، كدولة للعبيد الأمريكيين المُحرّرِين في القرن التاسع عشر، وبقيت تحت هيمنتها السياسية والعسكرية)، قبيْل المنتدى الصيني الإفريقي (أيلول 2018): ” تُعد الصين بالنسبة إلى استراتيجية التنمية عندنا شريكا هاما جدا، وخاصة في مجالات بناء الطرقات وتشييد شبكة الكهرباء إضافة إلى تحديث نظام الصحة…”، وادّعى رئيس كينيا (وهي محمية أمريكية أيضًا، قريبًا من الصومال ومن البحر الأحمر)، أن للعلاقات مع الصين فوائد كثيرة، والواقع أن السلع الصينية الرخيصة والرديئة اجتاحت أسواق كينيا، وغيرها من البلدان الإفريقية، فدمّرت زراعة القطن والشاي والأرز، ودمرت الصناعات التقليدية وصناعة النسيج، اعتمادًا على القُطن المحلي، في مجمل بلدان إفريقيا، بالإضافة إلى استغلال الموارد والمواد الأولية، واستحواذ الشركات الصينية على قطاع الإنشاء والبُنى التحتية، لبناء مدارس ومستشفيات وطرقات، بعمال صينيين، في زمن قياسي، لكن متوسط عمر البناء لا يتجاوز عشرين سنة، بدل خمسين، وتعمل الصين على استغلال المواد الأولية، مقابل إنجاز أشغال البنية التحتية، وأنجزت الشركات الصينية، خطّا لسكك الحديدية من جيبوتي (حيث افتتحت الصين أول قاعدة عسكرية خارجية رسمية لها) إلى أديس أبابا، عاصمة الحَبَشَة، أو من ميناء “مومباسا” في كينيا، إلى العاصمة “نيروبي”، وأنشأت الصين أيضًا خط الحديد بين تنزانيا وزامبيا، وتندرج جميع هذه المشاريع في إطار “التّعاون” الصيني الإفريقي، لكن الدّول “المُسْتَفِيدَة” تُسدّد الثمن المرتفع لهذه البرامج، عبر ديون طويلة المدى، وعبر سلع ومواد أولية وعبر إيجار موانئ ومطارات ومناجم وأراضي زراعية خصبة، كما تُشارك الصين في بعثات “حفظ السّلام” بجنود وضُبّاط في جنوب السودان، وأبرمت الصين علاقات شراكة استراتيجية مع العديد من الدول الإفريقية، وآخرها بوركينا فاسُّو، وزمبابوي، سنة 2018…
تُعدّ الصين الشريك التجاري الأول للقارة الإفريقية ككتلة، منذ سنة 2009، وتتأثر إفريقيا سَلْبًا بالحرب التجارية الضارية بين الولايات المتحدة والصين، لأنها تستورد معظم السلع من الصين، ولا تُصدّر غير المواد الأولية، وخاصَّة النفط، مقابل وعد صيني بالمساعدة التقنية ونقل التكنولوجيا. أما الإستثمارات الصينية في إفريقيا فارتفعت (بحسب تقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “أونكتاد” 2016) من 3,6 مليار دولارا سنة 2013 إلى 13,3 مليار دولارا سنة 2014، واستحوذ قطاع المحروقات والمعادن على معظم هذه الإستثمارات، خصوصًا في زامبيا، والكونغو الديمقراطية والسودان، كما ارتفعت الإستثمارات الصّينية في زمبابوي وأنغولا، وغيرها، ووعدت الصين، خلال منتدى التعاون بين إفريقيا والصين، لسنة 2015، باستثمار ستين مليار دولار، خلال الفترة 2016 – 2018، ورغم تكتم الصين والحكومات الإفريقية، أظهرت البيانات أن الصين احتلت الصين المركز الثالث في مبيعات الأسلحة إلى القارة الإفريقية، منذ سنة 2003…
استغلت الصين فرصة إغلاق الإتحاد الأوروبي حدوده أمام المواطنين القادمين من إفريقيا، لأي غرضٍ كان (الدراسة أو السياحة أو العلاج أو زيارة الأقارب…)، فقدّمت الصين العديد من المِنَح الدراسية للطلبة الأفارقة للدراسة والتدريب في المؤسسات التعليمية الصينية، وارتفع عدد الطلبة الإفريقيين من 2000 سنة 2003، إلى حوالي خمسين ألف طالب سنة 2015، في حين لا يتجاوز العدد السنوي للطلبة الأفارقة في الولايات المتحدة وبريطانيا، مجتمعتَيْن، أربعين ألف طالب إفريقي، بحسب إحصائيات منظمة اليونسكو (الأمم المتحدة)، وأصبحت الصين، منذ سنة 2015، ثاني أكبر وجهة للطلبة الإفريقيين في الخارج، بعد فرنسا، التي خفضت بدورها عددهم من حوالي 120 ألف سنويا إلى قرابة سبعين ألف سنويا، سنة 2028، من جهة أخرى، يعمل العديد من الأطباء الصينيين في المناطق النائية والفقيرة في إفريقيا…
تطورت العلاقات بين نيجيريا، أكبر مُنْتِج إفريقي للنفط الخام، والصين، منذ سنة 2005، وزاد حجم التبادل التجاري بين الصين ونيجيريا من 2,8 مليار دولار سنة 2005 إلى 14,9 مليار دولارا، سنة 2015، لكن يُشكل النفط النيجيري 90% من قيمة هذا التبادل، ويستثمر المصرف التجاري والصناعي الصيني في تمويل مشروع تشترك بإنجازه ثلاث شركات صينية، تجلب معها عمالا صينيين، لإنشاء محطة لتوليد الطاقة الكهربية بقوة المياه، خلال ست سنوات، كما تُعتبَر الصين الشريك التجاري الأول للكامرون، التي وقعت اتفاقية مع الصين “لتسهيل وتشجيع التجارة والاستثمار بين الدولتين”…
تمكنت الصين من منافسة فرنسا في عشرة من مُستعمَراتها السابقة، حيث أصبحت الصين تمتلك حوالي عشرة آلاف مصنع، في هذه الدول الناطقة بالفرنسية، وتنتج هذه المصانع نحو 12% من مجمل الإنتاج في القارة بقيمة تعادل ستين مليار دولارا سنويا، في مجالات الصناعات التحويلية، والخدمات، والتجارة، والإنشاء والعقارات…
اتسعت رقعة الإستثمارات الصينية خلال العقد الماضي إلى ما لا يقل عن ثلاثين دولة إفريقية كافة مناطق إفريقيا، ومن ضمنها تنزانيا وجيبوتي والحبشة وإيريتريا والسودان وجنوب السودان وكينيا وأوغندا وزامبيا وجنوب إفريقيا وموزمبيق وأنغولا ونيجيريا وغينيا وساحل العاج والغابون وبوركينا فاسو وبينين وتوغو وتشاد والكامرون ومصر والجزائر المغرب، وغيرها، أي في كافة مناطق إفريقيا، من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، لتصبح إفريقيا سوقًا للمنتجات والسِّلع الصينية، وقد تساعد الصين في اختراق الحصار الأمريكي…
بدأت مصالح الصين تتعرض إلى الهجومات في بعض البلدان الإفريقية، وحصلت عمليات اختطاف للمواطنين الصينيين، وهاجم مواطنون غاضبون بعض المصالح والمواقع والمنشآت الصينية، في زامبيا، حيث تستغل شركة صينية منجم نحاس في موقع “تشامبيسي”، وفي الحبشة، حيث تمتلك شركات صينية عديدة أراضي ومصانع، وسبق أن أضرب عمال في النيجر وفي زامبيا وفي الحبشة وغيرها ضد الإستغلال الفاحش للشركات الصينية التي تُعامل العُمّال المحلِّيِّين معاملة العبيد، مع عدم احترام القوانين المحلية، وهي سيئة في الأصل، وعلى العموم فإن العلاقات الإقتصادية والتجارية بين الصين وإفريقيا، مُرشّحة للتعزيز والدّعم، بفعل مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، وبفعل إغلاق الأسواق الأوروبية أمام السلع والمواطنين الإفريقيين…
العلاقات الأمريكية الإفريقية
وعدت الولايات المتحدة ب”مساعدة” الدول الإفريقية ( دون الإفصاح عن المُقابل، وهو ذو صبغة سياسية وعسكرية ) خلال طَرْح برنامج القيادة العسكرية الأمريكية لإفريقيا، سنة 2006، ولكن ومنذ سنة 2017، زادت الولايات المتحدة من استخدام العَصَا، وخفضت من “الجزر”، فهبطت قيمة ميزانية “المساعدة”، عبر وزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ( يو إس آيد) بنسبة 30%، بالتوازي مع زيادة حجم ونسبة ميزانية الحرب، من الموازنة السنوية لسنتَيْ 2019 و 2020، وتعتمد “فلسفة” أو مُقارَبَة الرئيس “دونالد ترامب” على ضرورة تولِّي القيادة العسكرية الأمريكية الإشراف على العلاقات الأمريكية مع قارة إفريقيا، وصدرت عن الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب”، في بداية سنة 2018، عبارات مُسيئة، خلال لقاء رسمي في البيت الأبيض مع أعضاء الكونغرس من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، تجاه هايتي والدول الأفريقية، ووصف البلدان التي يأتي منها المهاجرون إلى أمريكا بأنها “حثالة” وأعلن رغبته الإقتصار على قُبُول مهاجرين ناصعي البياض، من بلدان كالنرويج، وهاجم في تصريح آخر المسلمين القادمين من إفريقيا، وخصوصًا من نيجيريا (حيث توجد جالية هامة بالولايات المتحدة)، ودعا إلى ترحيلهم، وتَعْكِس هذه التصريحات النظرة العُنصرية والإستعمارية للرئيس الأمريكي، ولجزء هام من الرأي العام الذي يجهل واقع البلدان الأخرى، كما تعكس هذه التصريحات العنصرية طبيعة العلاقات الأفريقية الأمريكية، غير المتكافئة، أو ما يمكن نعتُها بعلاقات الهيْمَنَة، ولم يُغَيِّر الرئيس الحالي (سنة 2023) هذه المُقارَبَة، وكتبت مجلة فورين بوليسي: “إن النهج العسكري مُكَلّف وغير فَعّال”، وإن الاستثمار في مساعدات التنمية في إفريقيا (حوالي 28 مليون دولارا) أرخص بكثير من الحضور العسكري، وأرخص بكثير من سعر طائرة مروحية عسكرية واحدة، وإن هذا المبلغ يوفر الغذاء والعلاج لحوالي 1,5 مليون شخص، في منطقة القرن الإفريقي ومنطقة البحيرات الكبرى…
تميزت العلاقات الأمريكية الإفريقية، خلال فترة “الحرب الباردة” بمحاولة احتواء ما تسميه أمريكا ب”المد الشيوعي”، وانتهاج سياسات قائمة فقط على حماية خطوط التجارة القريبة من أفريقيا (وأهمها خطوط إمدادات النفط والطاقة)، وخاصة خطوط الملاحة البحرية، والوصول إلى مناطق المواد الخام والثروات المعدنية، ونَشْرِ قِيَمِ الإقتصاد الليبرالي بهدف دفع إدْماج الإقتصاد الإفريقي في الإقتصاد العالمي، دون أي اهتمام بمصالح الشعوب الأفريقية، كما دعمت الولايات المتحدة كافة الأنظمة الرجعية في إفريقيا، ودعمت نظام الميْز العنصري والإستعمار البرتغالي والحركات الإنفصالية في نيجيريا والكونغو وغيرها، وكانت أمريكا، حتى نهاية القرن العشرين، تستورد نحو 15% من النفط الذي تحتاجه، من وسط وغرب أفريقيا، وكانت تتوقع أن ترتفع هذه النسبة لتصل إلى 20%، قبل تحول أمريكا إلى بلد مُصدّر للغاز وللنفط، بفضل استغلال حقول النفط والغاز الصخريَّيْن، وبفعل انخفاض تكلفة استخراجهما، وتصديرهما إلى أوروبا وبعض مناطق آسيا، وخصوصًا منذ حرب أوكرانيا وفرض الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي الحظر على روسيا، فتضررت نيجيريا، من هذا التحول، ولو إنها استفادت (مؤقتا؟) من ارتفاع الأسعار وقد يتحسن الوضع بإنجاز خطوط الأنابيب التي سوف تربطها بالجزائر… وأوروبا
في بداية القرن الواحد والعشرين، زادت الممارسات العدوانية للإمبريالية الأمريكية، فتذرعت الولايات المتحدة بحادث تفجير مباني تجارية في نيويورك، لتحتل أفغانستان ثم العراق، وعادت إلى احتلال الصومال ضمن تحالف واسع يهدف الهيمنة على شرق إفريقيا، واحتياطي الغاز الضّخم في سواحل الصومال (إضافة إلى الثروات البحرية) وكينيا وموزمبيق وتنزانيا، وطَغت الصبغة العسكرية على السياسة الخارجية الأمريكية، وفي سنة 2006 (خلال فترة حكم جورج بوش الإبن)، نَشرت المواقع الأمريكية المُختصّة دراسات عن موقع قارة إفريقيا الإستراتيجي، وثرواتها ومواردها الطبيعية وقُرْبِها من أهم المَمَرّات البحرية، وبدأت الولايات المتحدة في نشْرِ القوات العسكرية في إفريقيا، ضمن برنامج “أفريكوم” (يحتوي هذا المقال على فقرة خاصة بأفريكوم)، بداية من سنة 2007…
تميّزت السياسة الخارجية الأمريكية تجاه إفريقيا بالمُراوحة بين الجزرة والعصا، فقد أشرف الرئيس الأمريكي “باراك أوباما”، في واشنطن، خلال شهر آب/أغسطس 2014، على قمة عقدها مع خمسين من قادة إفريقيا ( ضمن سياسة الجزرة)، للحديث في مواضيع “التجارة والاستثمار وإدارة الموارد، وخُصُوصًا في قضايا الأمن”، وأعلن الرئيس الأمريكي إطلاق برنامج لتعميم إنتاج الطاقة في إفريقيا، بإشراف الشركات الأمريكية، العابرة للقارات، التي وَعَدَتْ بإفادة إفريقيا من التغير التكنولوجي السريع، في مجال الطاقة، كما وعد الرئيس الأمريكي بتطوير البنية التحتية لقطاعات الطاقة وتكنولوجيا الإتصالات والخدمات المصرفية، وغيرها، ولم يتم استثمار سوى ثلاثين مليار دولارا من إجمالي 400 مليار دولارا، كان الرئيس أوباما قد وَعَدَ بها، قبل الإنتقال إلى سياسة العصا سنة 2017.
أفريكوم، أداة هيمنة عسكرية أمريكية في إفريقيا
تطور الحضور العسكري الأمريكي في إفريقيا، من نحو 1% من إجمالي القوات الأمريكية المُنْتَشِرَة في العالم، سنة 2006 إلى قرابة 26,17% من القوات الأمريكية في الخارج، سنة 2016، أو ما يُعادل إجمالي عدد القوات الأمريكية المنتشرة في غربي آسيا، بذريعة “محاربة الإرهاب”، وأصبحت القوات الخاصة الأمريكية متواجدة في ما لا يقل عن 33 دولة إفريقية (من إجمالي 54 دولة)، بنهاية 2016، وتُنفّذ هذه القوات الخاصة ما لا يقل عن سبع عمليات كُبرى في إفريقيا، بحسب موقع “انترسبت” الأمريكي، الذي اعتمد المعلومات المنشورة والمفتوحة للعموم، وبيانات قيادة العمليات الخاصة، وهي بيانات تميزت بأشكال عديدة من التعتيم والمُغالطة، بشأن عدد الجنود أو بشأن سبب تواجدهم، أو عن طبيعة العمليات وغير ذلك من المعلومات، ونشرت مجلة “زون ميلتير – أوبكس 360″، الفرنسية المتخصصة في الشؤون العسكرية والقضايا الإستراتيجية، تقريرًا عن ما لا يقل عن 12 قاعدة عسكرية أمريكية سِرِّيّة في قارة إفريقيا، تظم ما لا يقل عن ألْفَيْ جُنْدِي، في أوغندا ونيجيريا والصومال، والنيجر وجنوب السودان، وفي بوركينا فاسو، قرب العاصمة “واغادوغو”، وتستخدم هذه الأخيرة كنقطة انطلاق للطائرات الآلية والمروحيات، وتتضمن مهامها، مراقبة شمال مالي، وتُعْلِن بعض الوثائق الرسمية الأمريكية أن الوجود العسكري الأمريكي في إفريقيا يهدف إلى حماية أهم مَضِيقَيْن تعبر منهما حركة التجارة العالمية، أولُهما قناة السويس، حيث يمُر معظم النفط الخليجي والإيراني نحو الولايات المتحدة وأوروبا، والمُرتبط بالقرن الإفريقي وباب المندب وبمضيق هرمز، حيث تمُرُّ نسبة 40% من النفط العالمي، وثانيهما مضيق جبل طارق، الإستراتيجي، حيث توجد إحدى القواعد الضخمة لحلف شمال الأطلسي وحيث ترابط البوارج العسكرية الأمريكية والأطلسية، بالإضافة إلى رأس الرجاء الصالح والمواقع الإستراتيجية في غرب وشرق إفريقيا، وأنشأت أمريكا قواعد عسكرِية عند مداخل قارة إفريقيا، بعضها علني (جيبوتي والصومال وكينيا) وبعضها سري، في موريتانيا والمغرب وتونس وليبيريا وغيرها، بهدف إحكام سيطرتها على القارة، وتأمين إنتاج النفط، وعبوره نحو أمريكا وأوروبا، وتأمين السيطرة على الأسواق الإفريقية، حاضرًا ومُستقْبَلاً، لحل أزمات الركود الإقتصادي، ولمنافسة الصين وروسيا…
تتمثل خطورة الولايات المتحدة في تعاظم قوتها العسكرية، فلم تمارس أي قوة في التاريخ مثل هذا الامتداد العالمي، ويمكن للولايات المتحدة إرسال قوات من الولايات المتحدة ونشرها في غضون ساعات لمحاربة أي خصم محددكما يمكن لها – من خلال شبكية القواعد الرسمية وشبه الرسمية وغير المعلنة، أن تقصف أي مكان بأسلحة الدّمار الشامل التي تمتلكها، وبخصوص إفريقيا، استغلت الولايات المتحدة العدوان الأطلسي على ليبيا، سنة 2011، لتعزيز تدخلهما العسكري في جميع المناطق المُحيطة بالصّحراء الكُبْرى، وركزت الإمبريالية الفرنسية جهودها على إنشاء “مجموعة الساحل” (خمس دول) وتوسيع أو فتح قواعد جديدة في غاو (مالي) و نجامينا ( تشاد) ونيامي،( النيجر) وواغادوغو عاصمة بوركينا فاسو، فيما أنشأت الولايات المتحدة، سنة 2015، قاعدة ضخمة للطائرات بدون طيار في أغاديز ( النيجر)، غير بعيد من الحدود الجزائرية، بقيمة بلغت 100 مليون دولار، لمراقبة وقصف مواقع بعيدة، ضمن مهام القيادة العسكرية الأمريكية لإفريقيا (أفريكوم).
يُبَرِّرُ موقع “أفريكوم” الوجود العسكري الأمريكي في إفريقيا كالتالي: “لقد أدى إنشاء أفريكوم إلى تعزيز الشراكة من أجل أفريقيا آمنة ومستقرة ومزدهرة… وبناء قدرات الشركاء، وتعطيل المتطرفين العنيفين، والاستجابة للأزمات…”، وبعد قرابة عشر سنوات (سنة 2016)، عَبَّرَ مجلس السلام والأمن التابع للاتحاد الأفريقي عن “القلق بشأن وجود قواعد عسكرية أجنبية وإنشاء قواعد جديدة في بعض البلدان الأفريقية، إلى جانب عدم قدرة الدول الأعضاء المعنية على مراقبة ما يجري داخل حدودها، ومن ذلك مراقبة حركة الأسلحة من وإلى هذه القواعد العسكرية الأجنبية”، ولم يُؤَدِّ التعبير عن هذه “المخاوف” إلى أي تغيير فقد أصرّت الولايات المتحدة ( وكذلك فرنسا والقوى الإمبريالية الأخرى) وجودها والتقليل من “المخاطر المُحتَمَلَة… لأن دورنا يقتصر على تقديم الدعم لمعظم دول جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا ومستعدون لتقديم الدعم لغيرها”، فهل تحولت وزارة الحرب الأمريكية إلى منظمة خَيْرِيّة؟
إفريقيا بين “طريق الحرير” و”الممرّ الهندي”
بالتزامن مع الذكرى العاشرة لتدشين الصين مبادرتها الضخمة، «الحزام والطريق»، التي قُدِّرت استثماراتها في القارة الإفريقية بنحو 100 مليار دولار، أي نحو 10% فقط من إجمالي استثمارات المبادرة التي تجاوزت تريليون دولار، أعدّت الولايات المتحدة برنامج “الشراكة من اجل البنية التحتية والإستثمار العالمِيّيْن” وقدّمته على هامش اجتماع قادة قمّة «مجموعة العشرين» الذي غاب عنه الرئيسان الصيني والروسي بنيو دلهي 2023، وتم توقيع مذكّرة تفاهم لإقامة «ممرّ الهند – الشرق الأوسط – أوروبا» الاقتصادي (IMEC) ويُتوقّع أن يشمل مدّ خطوط سكة حديدية وخطوط نقل بحري وأنابيب طاقة، بهدف تعزيز قدرات البنية التحتية القائمة وحركة التجارة والخدمات بين الهند والإمارات والسعودية والأردن والكيان الصهيوني وأوروبا، لمنافسة المُبادرة الصينية التي بدأت منذ سنة 2013.
تم تجنّب مضيق هرمز والبحر الأحمر والقرن الإفريقي وقناة السويس من المشروع الأمريكي، لذا لم تستفد قارة إفريقيا منه، بينما أولت مشاريع مجموعة “بريكس” أو المبادرة الصينية “الحزام والطّريق” أهمّيّة لقارة أفريقيّاً، ما قد يُعَزِّزُ المشاريع المنافسة للولايات المتحدة وأوروبا وحلف شمال الاطلسي.
استهدفت مبادرة «الحزام والطريق» الدّول المجاورة للصين في بداية الأمر، ثم توسّعت المبادرة لتشمل 148 دولة في مختلف القارّات الخَمْس، من بينها معظم الدول الأفريقية، غير أن استثمارات وقُرُوض الصين للدول الإفريقية التي بلغت ذروتها سنة 2016، بأكثر من 28 مليار دولارا، انخفضت سنتَيْ 2021 و 2022، إثر جائحة “كوفيد – 19” وانخفضت قروض “مصرف التنمية” الصيني لمصرف التوريد والتصدير الإفريقي، وكانت هذه القروض مخصصة لتشجيع الدّول الإفريقية على تصدير المواد الخام إلى الصين وتوريد المواد المصنعة والتقنية من الصين، وأصبحت معظم قروض الصين موجّهَة “لدعم الشركات الصغيرة والمتوسّطة في أفريقيا”، وهي لا تختلف كثيرًا عن سياسات البنك العالمي، في جوهرها…
حاول الإتحاد الأوروبي تدارُكَ ما خسره أعضاؤه في إفريقيا، فأعلن، خلال قمة مجموعة العشرين بالهند “الممر الإفريقي ” ( Trans-African Corridor ) بهدف “تأمين سلاسل الإمداد الإقليمية وتيسير حركة التجارة وتعزيز الوحدة الاقتصادية بين جمهورية الكونغو الديموقراطية وأنغولا وزامبيا في بداية الأمر…”، لكن تَبَيَّنَ إن الولايات المتحدة شريكة بهذا المشروع حيث أعلن الرئيس الأميركي، جو بايدن يوم التاسع من أيلول/سبتمبر 2023 ” أن المشروع يتمّ عبر شراكة أميركية مع الاتحاد الأوروبي لترقية البنية التحتية المهمّة عبر أفريقيا جنوب الصحراء، وسوف تَجْمَعُ هذه الشراكة بين الموارد المالية الأوروبية والمعرفة الأميركية، عبر ضخّ استثمارات في الاستخدام الرقمي وسلاسل القيمة الزراعية…”، وتتمثل الخطوات الأولى في دراسات الجدوى لِمَدّ خط سكة حديدية بطول 1300 كيلومتر من ميناء لوبيتو في أنغولا، إلى إقليم كاتنغا في جمهورية الكونغو الديموقراطية، مروراً بـ«حزام النحاس» في زامبيا التي لا تُطل على البحر، وتهدف الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي زيادة حصتهما من نحاس زامبيا ( خصوصًا بعد زيارة رئيس زامبيا للصين ) وكوبالت الكونغو، من خلال تيسير عمليات تصدير الكوبالت والنحاس إلى دول الاتحاد الأوروبي الذي يعمل على استخدام هذين المعدنَيْن لإنتاج “الطاقة النظيفة”.
أعلن البنك العالمي (بإيعاز من الولايات المتحدة) تعزيز قدراته المالية ليتمكّن من تخصيص 25 مليار دولارا لإقراض بعض الدّول الإفريقية التي تعتزم الإنفاق على مشاريع البنية التحتية، ويتزامن هذا الإعلان مع إعلان “الممر الإفريقي”، حيث تهدف الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي والهند منافسة المبادرة الصينية “الحزام والطريق”، غير إن المشروع الصيني قطع أشواطًا عبر الإمتداد في مسارات متعدّدة بمختلف القارّات، غير أن “الأضرار الجانبية” للمشروع الأمريكي قد تؤثّر سلبًا على الإقتصاد المصري وعلى دول القرن الإفريقي الواقعة على ضفاف البحر الأحمر، فيما يستفيد الكيان الصهيوني ليُصبح ميناء حيفا المحتلّة منصّة محوَرِيّة لحركة التجارة بين آسيا (ومنها تجارة المحروقات ) وأوروبا…
تغييرات ميزان القوى
أعلنت حكومات مالي وبوركينا فاسو والنيجر، يوم 16 أيلول/سبتمبر 2023، تحالفًا دفاعيًّا إقليميا ردًّا على التهديدات التي أطلقتها الأنظمة والتكتلات المُوالية لفرنسا، بعد الإنقلابات العسكرية التي حصلت في البلدان الثلاثة، حيث طالب القادة الجدد بالحدّ من الهيمنة الفرنسية بهذه البلدان التي تضرّرت ( مع بلدان أُخْرى كذلك) من “التّأثيرات الجانبية” لعدوان حلف شمال الأطلسي على ليبيا وتدميرها وتقسيمها وفتح ثكناتها لتتزوَّدَ المنظمات الإرهابية بأسلحتها وتنتشر في البلدان المُحيطة بالصحراء الكبرى، والمجاورة لليبيا والجزائر، وواجهت العديد من البلدان المُتاخمة للصّحراء مشاكل، فضلا عن الجفاف، ناجمة عن الإرهاب منذ تدمير ليبيا سنة 2011، ومنذ التّدخّل العسكري الفرنسي في شمال مالي سنة 2013 – بدعم من الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي – زادت حِدّة الغضب ضد فرنسا، في مالي كما في بلدان أخرى، وحدثت سبْع انقلابات في المُستعمرات الفرنسية السابقة التي لا تزال تستخدم اللغة الفرنسية كلغة رسمية والفرنك ( CFA ) وبعد انقلابات مالي وبوركينا فاسو والنيجر، انطلقت مظاهرات حاشدة تُطالب بطَرْد القوات العسكرية الفرنسية وخفض مرتبة اللغة الفرنسية، وأدّت عجرفة السلطات الفرنسية إلى ردود فعل شعبية مُعادية ومستاءة من السلوك الفرنسي في المنطقة، ليس في البلدان الثلاثة فحسب وإنما في بلدان أخرى مثل بنين والكونغو، وكان إعلان “تحالف دول الساحل” في 16 أيلول/سبتمبر 2023، بمثابة ردّ سُلطات بوركينا فاسو ومالي والنيجر على التهديد العسكري، ومحاولة لإنشاء مؤسسات وأُطُر للدفاع الجماعي والتعاون الإقليمي، خارج إطار الهيمنة الفرنسية المعروفة باسم Françafrique – – حيث يحتفظ المصرف المركزي الفرنسي ب50% من احتياطي النقد الأجنبي لمستعمراتها السابقة، فضلا عن وجود القواعد العسكرية، وأعلن فيليب تويو نودغنوم، رئيس منظمة شعوب غرب إفريقيا: إن الاستعمار الفرنسي ظل قائما بعد العام 1960”( سنة الإستقلال الشّكلي لمعظم مستعمرات فرنسا بإفريقيا) وتدّخلت فرنسا عسكريا، ستين مرة، للإطاحة بالحكومات التي لا ترضى عنها، ومن بينها حكومة موديبو كيتا في مالي (1968)، أو لاغتيال القادة الوطنيين، مثل فيليكس رولاند مومييه (1960) وإرنست أوانديه (1971) في الكاميرون، وسيلفانوس أوليمبيو في توغو سنة 1963، وتوماس سانكارا في بوركينا فاسو سنة 1987 وغيرهم ، وكان الدّور الفرنسي الكبير في عدوان حلف شمال الأطلسي على ليبيا (آذار/مارس 2011 )، بالإضافة إلى إقالة رئيس ساحل العاج (نيسان/ابريل 2011)، القشة التي قصمت ظَهْرَ البعير، وزادت من المشاعر المعادية لفرنسا، وخاصة بين الشباب ومن كانوا يعملون في ليبيا، وبين الطّلاب الذين ترفض فرنسا ترسيمهم بجامعاتها، إلى أن انتشرت الاحتجاجات الجماهيرية ضد الوجود الفرنسي في جميع أنحاء المستعمرات الفرنسية السابقة في أفريقيا. التي كانت (ولا تزال أحيانًا ) تحكمها الأنظمة الفاسدة المدعومة من فرنسا منذ عُقُود، والتي سحقت كافة أشكال المعارضة السياسية وأحزاب اليسار والنقابات العمالية ومنظمات الفلاحين ومنظمات الشباب والطُّلاّب، وبعد انقلاب مالي والنيجر أدركت دول حلف شمال الأطلسي مدى العداء الشعبي لها فحاولت شن حرب بالوكالة، تكون اللجنة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) واجهَتَها، غير إن ردود الفعل الشعبية وإنشاء لجان تضامن مع شعب النيجر، أدّت إلى اعتراض بعض القادة العسكريين الأفارقة على التدخل، وعبر شعب نيجيريا عن اعتراضه على محاربة الإخوة في النيجر، ورفضت أغلبية نواب نيجيريا مقترح التدخل الذي قدّمه الرئيس النيجيري بولا أحمد تينوبو، فاضطر إلى التراجع…
تعكس اتفاقية التعاون بين حكومات النيجر وبوركينا فاسو ومالي تغيير موازين القوى، وظهور توازنات جديدة، قد تقطع مع المرحلة السابقة لتُدَشِّن مرحلة جديدة من التعاون العسكري والإقتصادي، خارج إطار الهيمنة الفرنسية، ( القوة الإستعمارية السابقة) وتكثيف التعاون في مجالات تبادل الوقود والكهرباء، وبناء شبكات النقل، والتعاون في مبيعات الموارد المعدنية، وبناء مشروع تنمية زراعية إقليمية، وزيادة التبادل التجاري بين البلدان المتاخمة للصحراء وإحياء وتوسيع اتفاقية شباط/فبراير 2023 الذي أشار إلى الحد من عدم المساواة ومكافحة الفساد والفقر في دول غرب إفريقيا…
بعد مَوْجَة الإستقلال، أسّست غانا وغينيا ومالي ودول إفريقية أخرى تحالفًا بين 1958 و 1963، شكّل لبنة لتأسيس منظمة الوحدة الإفريقية يوم 25 أيار/مايو 1963، حيث كان لمصر، ورئيسها حمال عبد النّاصر ( 1918 – 28 أيلول 1970) دور هام، إلى جانب غانا خلال فترة حكم كوامي نكرومة ( 1909 – 1972 ) والحبشة التي أصبحت عاصمتها “أديس أبابا” مقر منظمة الوحدة الإفريقية ثم الإتحاد الإفريقي، بداية من 2002…
ذَكَّر العقيد عاصمي غويتا، رئيس الحكومة الانتقالية في مالي، يوم 16 أيلول/سبتمبر 2023، بتلك المرحلة (1958 – 1963) بمناسبة توقيع “تحالف دول السّاحل”، بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر، لإنشاء أُطُرٍ للدفاع وللتعاون المُشترك، ردًّا على تهديد اللجنة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) بالتّدخّل العسكري في النّيجر، بالوكالة عن القوى الإمبريالية، وكانت بوكينا فاسو وغينيا ومالي قد وقعت في شباط/فبراير 2023 اتفاقًا لتبادل الوقود والكهرباء، وللتعاون لبناء شبكات النقل، والتعاون التجاري والإقتصادي في مجال المعادن، وإنجاز مشروع تنمية زراعية إقليمية…
أدّى عدوان منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) على ليبيا سنة 2011 إلى حدوث تغييرات هامة، منها انتشار الأسلحة والمليشيات الإرهابية وخروج ثلاثة ملايين مهاجر كانوا يعملون في ليبيا، معظمهم من بلدان الجوار (النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو وغيرها) واحتدّ الغضب ضد فرنسا التي تعتبر قارة إفريقيا، وخصوصًا بلدان غربي إفريقيا مجالها الحيوي، وجسّدت الإنقلابات، أفريقيا (اثنان في بوركينا فاسو، واثنان في مالي، وواحد في غينيا، وواحد في النيجر، وواحد في الغابون) درجة الغضب ضد القوى الإمبريالية، وخصوصًا ضد سلوك فرنسا وقواعدها العسكرية في المنطقة ضمن ما عُرِفَ ب (Françafrique ) وحيث أنشأت فرنسا قواعد عسكرية عديدة وتدخلت عسكرياً وغَيّرت رؤساء عديدين وفَرَضت عملاءها بالقُوّة وبالحيلة واغتالت المُعارضين، ولذلك يتزايد دعم الإنقلابات العسكرية التي يُعارض مُنفِّذوها شكل العلاقات الفرنسية الإفريقية القائمة على الهيمنة والإستغلال، ويُشكل انقلاب “الغابون” نموذجًا حيث خلعت مجموعة من ضٌبّاط الجيش، خلال شهر آب/أغسطس 2023، الرئيس علي بونغو، الذي وَرِثَ السلطة عن أبيه وحكم الأب والإبن البلاد الغنية التي يقطنها عدد قليل من السّكّان، لفترة 56 سنة بدعم من السلطات الإستعمارية الفرنسية، مما أدى إلى تعميق عدم المساواة والفساد…
خلاصة
كانت القارّة الأفريقية في قلب مجموعة الممرّات التجارية من المشروع الصيني إلى الأمريكي/الأوروبي، مرورًا بما سُمِّي “الممر الهندي” (وهو مشروع أمريكي) لتصبح قارة إفريقيا محل تنافس شبيه بتنافس الإمبرياليات التي عقدت مؤتمر برلين (بين 1878 و 1884) لتقاسم النفوذ في إفريقيا والعالم، وتتميز قارة إفريقيا بكثرة وتنوع الموارد التي تستغلها قوى أجنبية لا تهتم بتنمية الدول الأفريقية ولا رفاه شعوبها ولذلك لن تقود هذه “المَمَرّات” سوى إلى زيادة نهب الموارد، إذا لم تُبدي الأنظمة الحاكمة وشعوب هذه البلدان إرادة السيطرة على مواردها واستخدامها لتنمية البلدان الإفريقية، ولما حدثت بعض الإنقلابات العسكرية بعدد من بلدان غرب أفريقيا، تفاءلت الشعوب بالتصريحات المعادية للهيمنة الإمبريالية ودعمت قادة الإنقلابات (انقلاب مالي سنة 2020 وغينيا سنة 2021 وبوركينا فاسو سنة 2022 ثم استبدال مجموعة عسكرية بأخرى، و الغابون يوم 30 آب/اغسطس 2023) من خلال التظاهر ورفع المطالب والشعارات المناهضة للإمبريالية الفرنسية خصوصًا، وأشارت بعض اليافطات إلى الفوارق الطبقية والثراء الفاحش لبعض الفئات، وإلى ضرورة “التوزيع العادل للثروة”…
اجتمع رؤساء حكومات دول غرب أفريقيا الثلاث مالي والنيجر وبوركينا فاسو يوم 16 أيلول/سبتمبر 2023 في “باماكو”، عاصمة مالي، لتأسيس “تحالف دول الساحل”، “لإيجاد بنية للدفاع الجماعي والتعاون المتبادل لصالح الشعوب” وفق عبارات الإتفاق الذي تم توقيعه بنهاية اللّقاء الذي كان رَدًّا على تهديد مجموعة دول غرب إفريقيا (“إكواس”، الموالية للإمبريالية الفرنسية) بالتّدخّل العسكري في النّيجر التي نهبت فرنسا منها نحو 130 ألف طن من اليورانيوم سنويًّا، وتُسدّد فرنسا 0,8 يورو للكيلوغرام الواحد، منذ خمسة عُقُود، بدل السعر الرسمي بالأسواق العالمية البالغ 200 يورو للكيلوغرام الواحد، وبقي شعب النيجر فقيرًا وترفض فرنسا هجرة المواطنين للدراسة أو للعمل…
هل تؤدي هذه الإنقلابات إلى توازن جيوسياسي جديد للقوى في أفريقيا؟
أصبحت فرنسا معزولة، مقابل ارتفاع شعبية قوى أخرى مثل روسيا التي تستغل انتكاسة فرنسا ( التي تحارب روسيا في أوكرانيا وتزاحمها في مناطق أخرى من العالم) وتُوجّه روسيا خطابًا نحو إفريقيا عن ضرورة “الإنتقال نحو نظام متعدد الأقطاب”
تُذَكِّرُ وسائل الإعلام الروسي (التي تم حَظْرُها في أوروبا) إن التدخل العسكري الفرنسي المباشر في مالي منذ عام 2013 جعل فرنسا تضطلع بدور المُحافظ على أمن المنطقة المحيطة بالصّحراء، لكنها فشلت لأن أمن إفريقيا لا يعنيها، بل تهتم فرنسا بتعظيم أرباح شركاتها التي تستغل ذهب مالي ويورانيوم النيجر ونفط الغابون والكونغو ومواني دول غربي إفريقيا وما إلى ذلك…
بعد عشر سنوات من التدخل العسكري المباشر في مالي، لم تحقق فرنسا “تعزيز أمن منطقة الساحل”، بل ارتفعت حدة الغضب واضطر الجيش الفرنسي إلى الإنسحاب من منطقة النفوذ التاريخي للإمبريالية الفرنسية: مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وربما من بلدان أخرى لاحقًا.
لقد أدى اندماج أفريقيا ( كُرهًا أو طواعية) في الإقتصاد المُعَولم، خصوصًا منذ بداية القرن الواحد والعشرين، إلى خلق توازن جديد للقوى في العديد من بلدان القارة، وخاصة بلدان أفريقيا الناطقة بالفرنسية، حيث تضخّمَ الدور السياسي والإقتصادي للصين وروسيا والهند وتركيا، وأصبحت هذه الٌقوى تنافس فرنسا التي لم تَفِ بوعدها المتمثل في القضاء على المنظمات الإرهابية، ولذلك لم تعُد شريكًا حصْرِيًّا أو مُبَجّلاً في إفريقيا الناطقة بالفرنسية، بل يُطالب المتظاهرون في مالي وبوركينا فاسو والنيجر برحيل الجنود الفرنسيين وإلغاء اتفاقيات التعاون والدفاع المشترك، وإزاحة القوى السياسية الموالية لفرنسا عن الحُكْم
استغلت القوى الأخرى الانسحاب القسري الفرنسي لاحتلال الساحة وملء الفراغ، ومنها روسيا والصين وكذلك الولايات المتحدة التي بدأت تُقوّض النفوذ الفرنسي منذ الإعلان عن برنامج أفريكوم، سنة 2006…
التعليقات مغلقة.