“تطبيع الشّذوذ” خطوٌ نحو الحرية أم ركض نحو العدمية؟! / عمر الشيخ
خلص المفكر البولندي زيجمونت باومان، في كتاب “الحداثة السائلة” (Liquid Modernity) إلى ما معناه أن “الحداثة الغربية” عملت في مراحلها الأولى على إذابة البنى الثقافية، والمفاهيم والرؤى المعرفية والأخلاقية “الصلبة” السابقة لها، واستبدال بنى ورؤى ومفاهيم صلبة جديدة بها تتوافق مع مصلحة المجتمعات الحديثة؛ لكن صهريج إذابة الثوابت ذلك ظل مشتعلًا دونما توقف، ينتج، ويصهر، ثم يذيب كل ما أنتجه، حتى أغرق الإنسان في وحل من “السيولة” اللامتناهية يسبح فيها ويركض باستمرار دونما يقين نحو العدم. شعاره في ذلك أن اللايقين هو اليقين الأوحد.
مع بداية الألفية الأخيرة اجتاحت العالم الغربي ظاهرة “تطبيع الشذوذ الجنسي” (Homosexuality normalization) تحت ذريعة حرية الاختلاف.
وفي غضون 10 سنوات لاحقة، تطورت الظاهرة من مجرد مطلب حقوقي فئوي يحمل لافتة “الحرية الفردية” إلى “خطاب أيديولوجي رسمي” (Official ideological discourse) حيث استُغِل سياسيًا من قبل الأحزاب الليبرالية في الغرب. واتجهت دول عدة إلى تشريع زواج الشواذ قانونيًا، وإعادة تعريف مفهوم الأسرة في الدساتير بحيث يشمل (أبوين من نفس الجنس + أطفال).
في السنوات الخمس الأخيرة ازداد سُعار الترويج للمثلية في الغرب ليصل إلى حدٍ تجاوز فيه مجرد التشريع وإقحامه في المناهج التعليمية للأطفال، وفتح باب التحول الجنسي أمامهم ضمن ما يعرف بـ “التوعية الجنسية”
وكانت هولندا أول المبادرين عام 2001، تبعتها بعد ذلك عدة دول أوروبية، ولحقت بهم الولايات المتحدة عام 2015. ليصل عدد الدول التي تعترف بزواج المثاليين دستوريًا إلى 30 دولة حول العالم.
هذا الخطاب الأيديولوجي تطور في عدة مراحل، ليصبح أداة ضغط سياسية واجتماعية، تبنتها الأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني، والنقابات، بل لم تنج منها حتى المؤسسات الدينية التي لم تعد ترفع راية “المحافظة” أمام الاجتياح الليبرالي، لتنتزع اعتراف الكنيسة الكاثوليكية بحق الشواذ في إنشاء أسرة.
وفي السنوات الخمس الأخيرة ازداد سُعار الترويج للشواذ في الغرب ليصل إلى حدٍ تجاوز فيه مجرد التشريع، وإقحامه في المناهج التعليمية للأطفال، وفتح باب التحول الجنسي أمامهم ضمن ما يعرف بـ “التوعية الجنسية” (Sexual awareness)، وكذلك تخصيص أيام وأعياد رسمية للشواذ، ورفع الأعلام والشعارات الخاصة بهم في كل مكان، في ما يعرف بـ (Pride days) أوما يسمى “تمكين مجتمع الميم” (LGBTQ+ empowerment) ومناسبات خاصة للاعتذار الرسمي لهم عما لحق بهم من أذى وتهميش في السابق؛ بل ليصل الأمر إلى حد قوننة “تجريم وتأثيم” من لا يعترف بحقوق الشواذ والمتحولين جنسيًا “كاملة” في بعض الدول (كندا على سبيل المثال).
ناهيك عما تقوم به بعض الدول والمؤسسات الكبيرة ذات رؤوس الأموال المليارية من “عولمة” وترويج فج وممنهج للشواذ عبر وسائل الإعلام المختلفة (نتفلثكس، دزني، إتش بي أو، وغيرها..) لتصل إلى جميع أقطار العالم المرتبطة تكنولوجيًا بالغرب.
مفهوم “الحرية” نبيل جدًا، ومن أرفع الأفكار التي نادت بها البشرية عبر العصور، لكنه مثل الكثير من المفاهيم تلوكها الأفواه دون تدبر في أبعادها، وهو في الوقت ذاته مفهومٌ فضفاض غير محدد
إسقاط المرجعية
كان البروفسور عبد الوهاب المسيري رحمه الله قد أشار في بعض تدويناته حول العلمنة الغربية مطلع التسعينيات، إلى مرحلة ما بعد “إسقاط المرجعية الإنسانية” كمطلب أصيل في التوجه الليبرالي في الولايات المتحدة وفرنسا. وفي اعتقادي أن الواقع المشهود اليوم يؤكد على أننا نشهد إرهاصات هذا المطلب، لكن مع كل ذلك لا نزال في مراحله المبكرة.
فالأمر لن يقف عند الترويج للشواذ فقط، بل سيمتد إلى أبعد من ذلك لتطبيع كل ما هو شاذ ومختلف أخلاقيًا لدى المجتمعات المحافظة، وجعله مجرد اختلاف طبيعي مقبول في إطار نظام ومبادئ “المجتمع العالمي الحر” (The free global society).
وبعد نزع المرجعية الأخلاقية والمرجعية الإنسانية، يأتي الدور على المرجعية القانونية.
من ذلك، العمل على تطبيع فكرة “جنس وزواج المحارم” (Incestuous marriage) وتشويه الجسد عند مجموعات “إيمو” (Emo) وممارسي الطقوس الشيطانية (Satanism).. وفكرة “اشتهاء الحيوانات” (Zoophilia) والتزاوج مع الحيوانات (Bestiality) وأخيرًا وليس آخرًا فكرة “اشتهاء الأطفال” (Pedophilia). وهذه الأخيرة، ظهرت مجموعات غير رسمية مؤيدة لطرحها كـ “فكرة” قابلة للنقاش في المجتمعات المتحررة، ومؤخرًا ظهرت لها حملات ترويج غير مباشرة، عن طريق أفلام، وعروض مسرحية، وعروض أزياء، وإعلانات، قوبلت بالرفض المجتمعي. وقبل أيام ظهرت من جديد في حملة إعلانية لإحدى شركات الأزياء العالمية (Balenciaga) وما زال الجدل حولها قائمًا.
الخلاصة: مفهوم “الحرية” نبيل جدًا، ومن أرفع الأفكار التي نادت بها البشرية عبر العصور، لكنه مثل الكثير من المفاهيم تلوكها الأفواه دون تدبر في أبعادها، وهو في الوقت ذاته مفهومٌ فضفاض غير محدد، لا من ناحية الاصطلاح ولا من ناحية التطبيقات والمصاديق، في ظل اختلاف المرجعيات أو انعدامها!
لذلك وجب الوقوف عنده، قبل القبول والتسليم بكل ما يحتويه بحسب الرؤى والتفسيرات المختلفة.
وليس من المقبول أن تنفرد فئة أو ثقافة أو أمة أو حتى منظمة معينة بتحرير مصطلح “الحرية” حسبما تراه مناسبًا لها دون غيرها؛ ثم تمليه على غيرها من الأمم، ولا يجدر بهم معارضته أو حتى مناقشته، وإلا وصموا بالرجعية والتخلف، وشنت عليهم الحملات الإعلامية.
يقول البروفيسور عبد الوهاب المسيري رحمه الله:
المطلوب هو حداثة جديدة تتبنى العلم والتكنولوجيا ولا تضرب بالقيم الإنسانية عرض الحائط، حداثة تحيي العقل ولا تميت القلب، تنمي وجودنا المادي ولا تنكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود، تعيش الحاضر دون أن تنكر التراث
والعقل البشري بشكل عام ليس منزهًا عن الخطأ، ولن يكون كذلك يومًا ما، ومنتجات الحداثة ليست بالضرورة صحيحة أو صالحة.
والعقل الغربي الذي اكتشف الذرة، هو نفسه الذي صنع القنبلة الذرية، وأباد بها مئات الآلاف من البشر.
والعقل الغربي الذي صنع المحراث والأمصال، ومصانع السيارات، هو نفسه من لوث البيئة وطور الفيروسات وابتكر الحروب البيولوجية، وصنع الطائرات الحربية والمدافع الثقيلة، وأشعل حربين عالميتين راح ضحيتهما أكثر من خمسين مليون إنسان!
- الحرية لا تعني إسقاط المرجعيات الأخلاقية للشعوب.
- وحقوق الإنسان لا تعني، تغليب حقوق الأقلية!
- وحقوق الأقليات لا تعني تهميش رأي الأغلبية.
والغرب ليس مخولًا أن يقرر باسم شعوب الأرض ما يصلح أخلاقيًا وما لا يصلح.
وإذا تنازلت الشعوب عن قيمها وثوابتها المستمدة من مرجعياتها الإنسانية، ستذوب هويتها وتتلاشى في وحل “السيولة الثقافية” المعاصرة، كما يقول باومان.
وإذا قبلت اليوم الدول، بمثقفيها ومجتمعاتها، بتطبيع الشذوذ الجنسي، فستقبل غدًا بباقي أنواع الشذوذ عن الفطرة، إلى أن تصل إلى “العدمية” التامة.
والمثقف الذي يرى اليوم أن “التقدم” يقتضي قبول كل ما عصفت به رياح الحداثة الغربية، وكل ما يقع تحت مظلة مفهوم “الحرية” من سلوكيات بما فيها الشذوذ الجنسي، إنما يساهم -بقصد أو بغير- في طمس ثقافته وهوية مجتمعه، واستبدالها بمنتج ثقافي هجين، لا يخلو من العيوب والأخطاء والرجعية و”الدوغماتية” التي كان يسعى للهروب منها. وسيقول غدا “أُكِلت يوم أُكل الثور الأبيض”.
يقول المسيري رحمه الله “المطلوب هو حداثة جديدة تتبنى العلم والتكنولوجيا، ولا تضرب بالقيم الإنسانية عرض الحائط، حداثة تحيي العقل ولا تميت القلب، تنمي وجودنا المادي ولا تنكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود، تعيش الحاضر دون أن تنكر التراث”.
وإذا كنا لن نتفق على قيم ومبادئ عالمية واحدة، ونحن حتمًا لن نفعل، فلا تفرض عليّ ما تراه أخلاقيًا ولن أفرض عليك رأيي ومعتقدي.
فاحترمني واحترم اختلافي معك، كما تريد مني أن أحترم اختلافك عني، واختلاف فئة من الناس عن الأغلبية!
وخصوصًا إذا كنت في بلدي وعلى أرضي.
التعليقات مغلقة.