هل ثمة نموذج نظري للنضال الفلسطيني؟ [1/2] / أحمد قطامش

 

أحمد قطامش* ( فلسطين ) السبت 1/10/2016 م …

*عندما تفكّكت سبيكة الدولة السوفياتية لم يهتزّ كاسترو ورفع شعار «الاعتماد على الذات»

غير مقصود بذلك المنظومة الفكرية، سواء كانت رأسمالية، أو يسارية اشتراكية، أو قومية تحررية، أو إسلامية دينية، بل السمات الأساس في الممارسة. وهذا ما سأوضحه في السياق. لكل ثورة نموذج نظري، أو أكثر من نموذج نظري، سواء كان موجهاً للممارسة أو مشتقاً من الممارسة. ويفيد استعراض تجارب ثورية بإيجاز شديد وتبسيط شديد لما لها من إضاءة على النموذج الفلسطيني.

الثورة الفيتنامية: هي حركة قومية في ثلاثينيات القرن الماضي، تحولت لمواقع الماركسية اللينينية، وقد عانى الشعب الفييتنامي من الاستعمار الياباني لعشرات السنين. ما إن هُزمت اليابان في الحرب العالمية الثانية، حتى انتفض حزب العمال (الحزب الشيوعي لاحقاً) وأمسك السلطة لمدة تسعة أشهر. غير أن القوات الفرنسية، اجتاحت فييتنام، فانسحب الثوار إلى الغابات في طبوغرافيا ملائمة. كان الموقف السوفياتي يميل إلى التهدئة بعدما سكتت مدافع الحرب الكونية الثانية، ما دفع الثوار إلى الاعتماد على أنفسهم، والانتقال من السلاح الأبيض إلى السلاح الناري الذي اغتنموه من الجنود الفرنسيين، وشظف حقيقي في العيش حيث كان يساوي تفرغ الثوار مجرد 10$ لكل مقاتل. اتسعت حرب العصابات وامتدت حتى شارك نحو مليون مقاتل ومدني في حفر أنفاق على بعد مسافات لاقتحام قلعة ديان بيان فو عام 1954، فأبادوا الحامية وانسحبت فرنسا… فتم تحرير الشمال.

غير أن الإمبريالية غزت الجنوب، حيث تعاون معها نظام نغوين ومعه نصف مليون جندي. فاعتمد الثوار تهدئة لمدة خمسة أعوام تحضيراً للمواجهة اللاحقة. اشتد القتال، وكانت خسائر الثوار الفييتناميين في كل معركة أضعاف خسائر الأميركيين الذي كانت مجمل خسائرهم 50 ألف قتيل و100 مليار دولار. وفي النهاية تطورت الحرب الشعبية واستخدمت الأسلحة الثقيلة بدعم سوفيتي وصيني، فحطت مروحية على ظهر السفارة الأميركية في سايغون وحملت السفير الأميركي وبعض الموظفين الذين فروا في 1975. وبذلك تحررت فييتنام ونشأت «العقدة الفييتنامية»، ليكون النموذج الفيتنامي على النحو الآتي: انتفاضة كمظهر ثانوي، حرب عصابات تحولت لحرب شعبية، بقيادة حزب ماركسي لينيني استند إلى الفلاحين أولاً والفئات الشعبية ثانياً.

الثورة الصينية

هي مشابهة وتتقاطع كثيراً مع الثورة الفييتنامية، اخفقت «انتفاضة شنغهاي» عام 1927 كانتفاضة عمالية مسلحة، حيث سقط نحو 30 ألف. ونشأ خلاف داخل الحزب الشيوعي، وتمرد ماوتسي تونغ على مكتبه السياسي عام 1929، وكان رده على كتاب ستالين «فن الانتفاضة»: «من أراد أن ينتحر فليقرأ هذا الكتاب». وقال: «تقوم نظريتهم (السوفيات) على كسب الأغلبية، أما نظرتنا فتقوم على إمكانية اكتساب الأغلبية أثناء المسيرة. أما قانون الانتفاضة في المدن فلا يناسب حرب الشعب في الريف».

وراحت المجموعات الثورية تشن غارات صغيرة مباغتة وتضرب نقاط ضعف العدو، وانتشرت الكومونات، أي التعاونيات، في الجنوب الى أن شعر النظام الامبراطوري الاقطاعي بخطرها وجيّش قوات هائلة لاجتثاث الثورة في الجنوب، غير أن مجاميع الثورة انسحبت إلى السبخات الشمالية الجليدية التي لم تطأها قدم انسان. وعام 1935 حصلت معارك دامية مع الجيش الامبراطوري وجيوش الأمراء الاقطاعيين، فسقط نحو مئة ألف من الثوار ولكنهم وصلوا إلى المناطق التي لا تسيطر عليها الدولة، وفي نهاية الثلاثينيات احتلت اليابان بعض مناطق الشمال الشرقي، فاختطف الشيوعيون تشانغ كاي شيك واتفقوا معه على إقامة جبهة وطنية.

ما أن اختل ميزان القوى العالمي وظهرت إشارات هزيمة دول «المحور» (اليابان، ألمانيا النازية، إيطاليا الفاشية)، حتى تجددت الثورة الاجتماعية. ومرت الثورة في ثلاث مراحل، الدفاع الاستراتيجي والتوازن والهجوم الاستراتيجي.

وبالزحف من الشمال الى الجنوب وبالعكس، دارت حرب طاحنة راح فيها ملايين. عندها أعلن ماوتسي تونغ انتصار الثورة من ساحة «تيانمين» عام 1949، وكان الجيش الشعبي يضم خمسة ملايين مقاتل وأكثر منهم من أعضاء الحزب الشيوعي وبذلك يكون النموذج النظري، انتفاضة كمظهر ثانوي اعتمدت على العمال، حرب شعبية طويلة الأمد انطلقت من الأرياف واعتمدت على الفلاحين ببرنامج حزب شيوعي اشتراكي، جبهة وطنية لمواجهة المحتل الياباني، لكن غلب على الثورة طابع اجتماعي من هم أسفل ضد من هم أعلى.

الثورة الروسية

هي أقدم تاريخياً وتعود الى بدايات القرن العشرين، وكانت الرأسمالية قد انتقلت إلى الاحتكارات. أما روسيا، فكانت «نصف إقطاعية ونصف برجوازية مستعمِرة ومستعمَرة» بتعابير لينين.

فشلت أول ثورة بين 1905ــ 1906، وخسر الحزب البلشفي في انتفاضة موسكو وحدها ثلاثة آلاف عضو واختلف المنظرون بين القول إنه لم يكن ينبغي حمل السلاح (بليخانوف)، وبين إنه كان ينبغي حمله لأنها «بروفة» (لينين). ثم تفكك الحزب البلشفي، ولكن لينين أعاد بناءه بالاعتماد على كادرات صلبة لم تنكسر.

حصل نهوض في إضرابات عمال المناجم في نهر لينا عام 1912، وقرعت طبول الحرب العالمية الأولى ورفعت الحركات الاشتراكية شعار «الحرب على الحرب» أي الثورة على ضواري رأس المال الذين يحاولون إعادة تقسيم العالم، وما إن أطلقت مدافع الحرب عام 1914 تحولت معظم القيادات الاشتراكية إلى مستوزرين في الحكومات الرأسمالية، أما لينين فقد ثبت على موقفه وراح يحضّر لإسقاط القيصرية، حينما كان في المنفى والعديد من القيادات الحزبية في السجون والتخفي.

حذر لينين من «تحويل الهبوط الى نظرية»

لحق الدمار بالمجتمع الروسي وانتشرت المجاعات، واجتمعت مختلف القوى على هدف واحد وهو إسقاط القيصرية وإيقاف الحرب. وفي شباط عام 1917، اندلعت انتفاضة ظافرة وتشكلت حكومة مؤقتة وعلى رأسها الاشتراكي ألكسندر كيرنسكي، ولكنها لم توقف الحرب ولم توزع الأراضي على الفلاحين وكان على الحزب البلشفي أن يستعد لثورة اجتماعية تقتلع تحالف البرجوازية الصغيرة مع البرجوازية الدستورية، وبالفعل نجح في «ثورة أكتوبر» المجيدة 1917 التي دشنت عهداً تاريخياً جديداً. وعليه، فالنموذج الروسي اشتمل على انتفاضة متدرجة بدأت سلمية عام 1905 ونضال سري بقيادة حزب عمالي ثوري وأحزاب أخرى وانتفاضة ثانية وثالثة عام 1917 أثمرت عن إصلاح زراعي جذري وتأميمات وكهربة البلاد، أي جمعت بين أهداف ديموقراطية برجوازية ومهمات اشتراكية وعمل سري ونصف سري. كما أن لينين معلم في علم الانتفاضة وفنها، وقد استخلص قانونها الأساس، وهو: عندما تصبح الطبقات الحاكمة عاجزة عن الحكم كالسابق والطبقات الشعبية ترفض أن تستمر كالسابق، بما تتطلبه من شروط قيادة مركزية، وتحالفات وتكتيكات هجومية و»احتقار للموت»، بحسب تعبير فريديريك إنجلز أي أن الثائرين يكونون مستعدين للموت. هناك ثمانية شروط كتب عنها لينين، وكنت قد كتبت كراسة عام 1982 عنوانها «بين الانتفاضة والحرب الشعبية استناداً للإرث الماركسي اللينيني. ولم تكن تبشيراً بانتفاضة أواخر عام 1987 ولكنها تعكس وعياً استباقياً وحسب».

ومحاولة وينستون تشيرشل، وكان حين ذاك وزيراً للمستعمرات، تهشيم البيضة قبل أن تفقس، لم تثمر، إذ هاجمت جيوش 14 دولة رأسمالية الدولة الوليدة غير أن العمال دافعوا عن ثورتهم ومشروعهم، أي كان هناك حرب دفاعية إضافة إلى الثورة الاجتماعية.

ولا بأس من الإشارة إلى أن قوام الحزب البلشفي كان مجرد 130 ألف عضو في دولة عدد سكانها 130 مليون نسمة. ولكن لينين ركز على «الثبات على المبدأ» لتغيير ميزان القوى وعلى الهدف وهو «السلطة»، «فالمسألة المركزية في كل ثورة هي السلطة»، برأيه، وأقام «سلطة الشغيلة الأحرار» بلغة ماركس، وهو الذي نحت عبارة «أمس لم يحن بعد وغداً يكون قد فات الأوان»، أي اللحظة المناسبة، «التحليل الملموس للواقع الملموس»، بما هو قريب من عبارة ماركس «من المجرد العام إلى الملموس الخاص». إن دروس الثورة الروسية كثيرة ومفتاحية.

التجربة الكوبية

جزيرةٌ، تعداد سكانها اليوم 12 مليوناً، وعندما اندلعت الثورة في خمسينيات القرن الماضي كانت نحو ثمانية مليون نسمة. تسكن على بعد عشرات الأميال من أنياب «الأسد» الأميركي.

عرفت كوبا انتفاضة عام 1930 أطاحت بالديكتاتور ماكادو وقادها الحزب الشيوعي، غير أن النفوذ الأميركي بقي سائداً، فيما حكمها ديكتاتور آخر وهو باتيستا الدموي الفاشي الذي أثقل على الفلاح الكوبي بالضرائب، فيما تحكمت الشركات الأميركية بالسكر الكوبي وصناعاتها الاستخراجية.

تفاقمت الأزمات في الأربعينيات، وهنا تقدم المحامي فيدل كاسترو ابن العائلة الإقطاعية بمبادرة ثورية قائمة على الهجوم المسلح على ثكنة مونكادا عام 1953، فسقط رفاقه بين قتيل وجريح وأسير وأمضى مع شقيقه راؤول، سنتين في السجن إلى أن تم إبعادهما إلى المكسيك.

شرع كاسترو بالتحضير لحملة ثورية جديدة، وهنا التقى بتشي غيفارا الثوري الأرجنتيني اللامع. انطلقت السفينة «غرانما» (الفجر) من سواحل المكسيك إلى سواحل كوبا عام 1956 وعلى متنها 82 مقاتلاً. بيد أن قوات باتيستا كانت بالمرصاد، فحصدت غالبيتهم ولم يتبقَ سوى 12 مقاتلاً تبعثروا والتقوا بعد أيام في السيرا مايسترا الممتدة في الجغرافيا الكوبية. انطلقت حرب عصابات غوارية محركها هذه البؤرة، مجرد بؤرة من حفنة من الثوريين، وهذه إضافة نظرية على الفكر اليساري، وتوسعت رقعة القتال. عام 1959، هبط الثوار من الجبل إلى هافانا العاصمة وبأقل من ألفي مقاتل أطاحوا في الحكومة القمعية وفر باتيستا إلى الخارج. أسست حركة 26 تموز التي قادها كاسترو السلطة الثورية. وكان هناك ميل يميني هامشي لا يريد السير بالثورة في طريق الاشتراكية. أما كاسترو الذي قرأ الماركسية أثناء وجوده بالسجن وقتاله في الجبال بحسب قوله ورفاقه الثوريين فدمجوا الثورة الديموقراطية بالاشتراكية. وفي عام 1963 انعقد مؤتمر تأسيسي للحزب الشيوعي بمشاركة 26 تموز والشيوعي والإدارة الذاتية الطالبية الذي استشهد قائدها في الهجوم على القصر الجمهوري. وعليه فالنموذج الكوبي اشتمل على حرب عصابات لم تصل إلى حرب شعبية، قادتها بؤرة ثورية، على رأسها شخصية كرزماتية لدرجة أن يكتب غيفارا أنه «لولا كاسترو لما استمرت الثورة». وقد اعتمدت على نفسها من دون مساعدة جدية من أحد و تحولت حركة «26 تموز» الديموقراطية الثورية إلى مواقع الماركسية ـ اللينينة، ويعد هذا درساً كبيراً استفاد منه اليسار الفلسطيني. وكان الدكتور جورج حبش قد التقى كاسترو في هافانا مرات عدة.

وعندما تفككت سبيكة الدولة السوفياتية وارتد النظام لم يهتز كاسترو ورفع شعار «الاعتماد على الذات».

وبالتالي ينبغي الكف عن البكاء والحديث عن «الظرف الموضوعي» و»الشروط المجافية»، والاتجاه بالتفكير كيف نفعل ونتغلب على المصاعب، والشروط الموضوعية مجافية دائماً بحسب غيفارا، وعدم الانجرار وراء العجز والفشل. وقد حذر لينين من «تحويل الهبوط الى نظرية». المسألة كلها تكمن في مفردة واحدة «الاقتدار»، إذ ما إن تنهض شخصيات مقتدرة كما الحال في بداية أي ثورة، سوف تخرج القاطرة الفلسطينية من أزمتها الحالية وتستأنف مسيرتها في إعادة العربة إلى سكة الثورة لا الأوهام التي تحلم بتسوية قريبة.

* أستاذ جامعي ـــ فلسطين

 

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.