الإحتجاجات في معقل الرأسمالية العالمية – بعض الدّروس من موجة الإضرابات بالولايات المتحدة / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الخميس 5/10/2023 م …




كان اتحاد “عمال السيارات المتحدون” (UAW)، الذي تم إنشاؤه أثناء حركات احتلال المصانع في الفترة من 1936 إلى 1937، في طليعة النضالات العمالية المطلبية حتى عقد السبعينيات من القرن العشرين، قبل أن يتم سحق العمل النقابي من قبل النيوليبرالية، خلال عقد الثمانينيات (رئاسة رونالد ريغن)، وكان اتحاد عمال السيارات تقدميًا للغاية بين الأربعينيات والسبعينيات من القرن الماضي، حيث دعم النضال من أجل الحقوق المدنية، قبل ظهور فضائح تواطؤ إدارته مع أرباب العمل وفضائح الفساد، إلى أن بَرَز شعار “اتحاد الجميع” الذي أطلقه اتجاه حركة “العمال من أجل الديمقراطية” سنة 2019، بهدف إصلاح اتحاد عمال السيارات من الدّاخل، وأثمرت هذه الجهود، خلال الإنتخابات النقابية في آذار/مارس 2023، حيث تم بالاقتراع العام المباشر (لأول مرة)، انتخاب شون فاين، وهو من زعماء هذا الاتجاه، رئيسًا للنقابة.

أطلق اتحاد السيارات الأمريكي UAW (عمال السيارات المتحدون)، منذ 14 أيلول/سبتمبر 2023 ( منتصف الليلة الفاصلة بين 14 و 15 أيلول) إضرابًا واسع النطاق في الشركات الثلاث الكبرى، فورد وجنرال موتورز (GM) وستيلانتس، وتتعلق مطالب المضربين بوضع العمال وظروف العمل والرواتب، التي انخفضت بشكل كبير بسبب التضخم في حين أن ارتفعت أرباح الشركات بشكل كبير.

تم تمديد الإضراب في مصانع جنرال موتورز وستيلانتس، في الثاني والعشرين من أيلول/سبتمبر 2023، بما في ذلك مراكز التوزيع وإنتاج قطع الغيار، في حين تم استثناء مصانع شركة فورد التي قبلت بعض المطالب ولا يزال التفاوض جاريا بشأن مطالب أخرى.

تُعَدُّ هذه حركة الإضرابات جزءًا من ديناميكية نقابية متنامية في الولايات المتحدة على مدى العامين الماضيين وشملت عدة قطاعات، بما في ذلك كتاب السيناريو وممثلي هوليود، ما أكد الإنطباع السائد باستعادة الحركة النقابية وزنها السياسي، بعد كسوف، تحت ضغط السياسات النيوليبرالية، وفي 26 أيلول/سبتمبر 2023، ظَهَر رئيس الولايات المتحدة جوزيف بايدن في خط اعتصام ( تجمّع عُمّالي لتعطيل العمل وإقناع غير المضربين بالإلتحاق بزملائهم المضربين) في ميشيغان لدعم الحركة، وهي المرة الأولى التي يدعم فيها رئيس لا يزال يُمارس السلطة العمال المضربين، وأعلن بايدن إنه يؤيد المطلب الرئيسي للنقابات: زيادة الرواتب بنسبة 40%، وقال: “إن وَضْعَ شركات السيارات جيد للغاية، ويجب أن يكون العُمّال في وضع جيد للغاية أيضًا”، لكن الرئيس وحوبه يمارسان سياسة مُخالفة لتصريحاته، بل لا تختلف سياستهما عن الحزب المنافس، سوى في بعض التفاصيل، غير إن الظّرفَ يُشعِرُ الرئيسَ جوزيف بايدن بأنه مُلْزَمٌ سياسيا بدعم المضربين.

ما هي خصوصية هذا الإضراب؟

إنه إضراب تاريخي تمت الدعوة إليه في مصانع الشركات الثلاث الكبرى لصناعة السيارات في نفس الوقت، في ثلاث ولايات مختلفة: أوهايو وميشيغان وميسوري، وهو إضراب لم يسبق له مثيل من قبل، وشاركَ في هذه الموجة الأولى من الإضراب 13 ألف عامل، قبل أن يتسع الإضراب في الثاني والعشرين من أيلول/سبتمبر 2023، ليشمل 38 مصنعًا لقطع غيار شركَتَيْ جنرال موتورز و ستيلانتس ( Stellantis )، وإضراب خمسة آلاف عامل إضافي.

تتمثل إستراتيجية اتحاد عمال السيارات ( UAW ) في تقديم إشعار في اللحظة الأخيرة بمكان الإضراب، بما في ذلك للعمال أنفسهم، وتوضح بعض الشهادات أن العمال تلقوا رسالة نصية قبل ساعتين من بدء الإضراب لإبلاغهم بأن دورهم قد جاء، وهذا يخلق شكلاً من أشكال المحاكاة الجماعية بين المصانع والنقابات المحلية، كما يخلق أيضًا عنصر المفاجأة بين أوساط أصحاب العمل، الذين لا يعرفون أين سيحدث الإضراب، بل ويتم خداعهم أحيانًا بنشر الشائعات من قبل النقابات، والتحذير من حدوث حركة في مصنع معين، بينما يتم تنفيذ الإضراب في أماكن أخرى، لمنع أصحاب العمل من اتخاذ إجراءات وقائية لتعطيل الإضراب، ويُعتبر هذا الأثسلوب النقابي شكلا من أشكال “حرب العصابات النقابية” (بحسب تعبير الصحفية أليكس بريس) يؤدي إلى كابوس لوجستي يُعَرّضُ سلسلة التوريد الخاصة بالمصنعين للخطر.

أما العنصر الثالث الجديد فيتعلق بالخطاب والمطالبات الهجومية إلى حد ما فيما يتعلق بالأجور، والتي تقوم على نمو الأرباح، وكذلك فيما يتعلق بتخفيض ساعات العمل إلى 32 ساعة أسبوعيا، دون تخفيض في الراتب، كما يطالب اتحاد عمال السيارات ( UAW ) أيضًا بتثبيت جميع العمال والإحتفاظ بهم في مناصبهم وإنهاء هذه الحالة من الأوضاع المختلفة التي تُفرّق بين العُمّال الذي يُؤَدُّون نفس العمل، والتي تم إرساؤها منذ أزمة 2008.

كانت حركة الإضراب هذه مصحوبة بخطاب طبقي واضح للغاية ألقاه الرئيس الجديد لاتحاد العمال المتحدين، شون فاين، وأعلن أنه يريد تدمير اقتصاد الأثرياء، المليارديرات، الذين يستغلون العمال، ويصبحون أثرياء على حسابنا (بفعل استغلالهم لنا) ويدمرون الكوكب. إنه لأمر غير مسبوق أن نسمع مثل هذا الخطاب الواضح عن الصراع الطبقي، والذي تبثه إحدى النقابات الرئيسية في البلاد في صناعة كانت لفترة طويلة الصناعة الرائدة في أسطورة “الحلم الأمريكي” وفي رأسمالية القرن العشرين.

تعد حركة الإضراب هذه جزءًا من سياق اجتماعي لفترة ما بعد كوفيد الذي أودى بحياة أكثر من مليون مواطن أمريكي، في حين لم يتمتع العمال الذين تم إرغامهم على مواصلة العمل في ما يسمى بالقطاعات الأساسية، بالحماية أو المكافأة، كما هي جزء من سياق الاحتجاجات ضد اغتيال جورج فلويد على يد ضباط الشرطة البيض، وجزء من سياق التضخم الذي أدى إلى انخفاض القيمة الحقيقية للأجور، وأسْفَرَ هذا السياق – مرة أخرى منذ أزمة سنة 2008 – عن ارتفاع حدة التفاوتات الاجتماعية في الولايات المتحدة وفي الدول الرأسمالية المتقدمة.

لقد أصبحت الإضرابات أفضل تنظيما والمطالب أكثر وضوحا في الولايات المتحدة منذ العام 2011 وخاصة منذ إضراب المُدَرِّسِين في شيكاغو سنة 2012، مما أكْسَبَ الشفافية والدّعم الجماهيري لممارسة الإضراب، ولكن لا تزال الفجوة كبيرة بين شعبية النقابات وتراجع الإنتساب للنقابات، حيث لا يتجاوز معدل الانضمام إلى نقابات الأُجَراء نحو 10% من السكان النشطين، سنة 2022، ويعود ذلك لارتفاع عدد العاملين بعقود هشّة (أو بدون عقود) وبدوام جزئي وفي قطاعات الخدمات والمؤسسات الصغيرة، ما أدّى إلى تفكيك التّجمعات الكبرى للعُمّال.

يُتَوَقَّعُ أن تُحَدِّدَ نتيجة الإضراب الحالي مصير اتحاد عمال السيارات ( UAW )، بعد عملية إعادة الهيكلة الضخمة لصناعة السيارات في الولايات المتحدة خلال العقود الأربعة الماضية، وأن يترك الإضراب أثَرًا مُهِمًّا (بالسّلب أو بالإيجاب) في الحركة النقابية والعمالية الأمريكية، خصوصًا في القطاع الخاص، بعد فشل إضراب عُمّال نقل وتسليم البضائع بشركة ( UPS ) التي حاربت (مثل مؤسسات كبرى أخرى) تأسيس النقابات

أدت إعادة هيكلة قطاع صناعة السيارات التي كانت على وشك الإفلاس خلال أزمة 2008/ 2009، إلى إغلاق الشركات الثلاث الكبرى 65 مصنعاً على مدى السنوات العشرين الماضية، وإلى تدمير ظروف عمل عمال السيارات وخاصة النقابيين منهم، قبل إضراب نحو خمسين ألف عامل بقطاع السيارات، سنة 2019 لمدة ستة أسابيع، غير أن القيادات النقابية قدّمت تنازلات كبيرة، ما أدّى إلى عَزْلها وانتخاب قيادة جديدة مُقاوِمَة، سنة 2023، تُطالب برفع رواتب العُمّال بنسبة 40% وهي نسبة مُعدّل ارتفاع رواتب المُديرين، خلال السنوات الأربع الماضية، ورفع قيمة المعاش التقاعدي والمزايا الطبية للمتقاعدين وتثبيت العمال المؤقتين…

لا تزال المركبات الأكثر ربحية لدى شركات صناعة السيارات، وهي شاحنات البيك أب كاملة الحجم، غير متأثرة بالإضراب، حتى كتابة هذه الفقرات (يوم 04 تشرين الأول/اكتوبر 2023) كما لم يتوقف العمل بَعْدُ بالمصانع التي سيكون لها أكبر التأثيرات على سلاسل التوريد.

كانت هناك حملات نقابية في قطاعات غير معتادة على النضالات والإضرابات، مثل الخدمات وتجارة التجزئة والبيع عن بعد والوجبات السريعة، وما إلى ذلك. لقد ناضل العمال من عدة قطاعات (التعليم والصحة والعمل الاجتماعي والميكانيكا إلخ)، منذ سنة 2019 (النضالات التي أوقَفَها وباء كوفيد-19) من أجل الكرامة ومن أجل ظروف عمل ومعيشة لائقة، قبل موجة الإضرابات العمالية التي بدأت سنة 2021، والتي امتدّت لتشمل كتاب السيناريو والممثلين والممثلات في هوليوود سنة 2023، وهي القطاعات التي لم ترتبط تقليديا بالنضالات وبتنفيذ الإضرابات، لكن تزايدَ عدد المواطنين الغاضبين من معدلات الربح القياسية التي يُحققها الأثرياء، بينما يضطر جزء من السكان إلى العيش بصعوبة، وتدبير ما يحتاجونه يومًا بعد يوم.

هذه بعض العوامل التي تفسر ارتفاع عدد الإضرابات خلال صيف 2023 التي فاقت الرقم القياسي لإضرابات سنة 2022 بأكملها، رغم حملات الترهيب والاستفزاز والإجراءات القانونية والممارسات المعادية للنقابات التي تنفذها الشركات الرأسمالية بمساعدة المحامين ومكاتب الإستشارات، وأشارت دراسة أجراها (سنة 2019) معهد السياسات الاقتصادية إلى أن 40% من الشركات لم تلتزم بالقانون الاتحادي فيما يتعلق بالسماح بتأسيس النقابات وتنظيم الحملات النقابية… ومع ذلك يزعم جوزيف بايدن وقيادات الحزب الديمقراطي أنهم يدعمون العمال، لكنهم لا يقترحون قوانين اتحادية تحمي العمال وتضمن حقهم في الانضمام إلى النقابات (وهو أَضْعَف الإيمان) بل يهتم الحزب الديمقراطي بحماية مصالح الشركات الكبرى – التي تدعم وتمول حملاته الإنتخابية – والفئات العليا من البرجوازية الصغيرة والمتوسطة، والفئات المهيمنة إعلاميا وأكاديميا، أكثر من اهتمامه بالطبقة العاملة.

تمثل موجة الإضرابات التي بدأت سنة 2016 في الولايات المتحدة فرصة لليسار والحركة النقابية لإدخال أشكال جديدة من الخطاب والعمل السياسي، لتقديم بدائل للوضع القائم والمُتَمَيِّز بعدم المساواة الاجتماعية وبظروف المعيشة والعمل السيئة لغالبية السكان.

يتعين كسر “الشراكة الثنائية” وتداول السلطة بين حزبين رأسماليين يستبعدان مصالح العمال والفقراء الذين يشكلون غالبية سكان الولايات المتحدة، وفي بقية بلدان العالم لا بد من فرض استقلالية الطبقة العاملة وحلفائها من الكادحين، لإرساء سلطة تنبذ الإستغلال والإضطهاد والإستعمار والإمبريالية في جميع أنحاء العالم.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.