الدين والتدين عند المتصوف والأشاعرة والفلاسفة (الحلقة الثانية والأخيرة – الدين والتدين عند المتصوفة) / د. عدنان عويّد
د. عدنان عويّد ( سورية ) – السبت 7/10/2023 م …
يرى الأشاعرة أن العالم مركب من ذرات لا امتداد لها, يفصل بينها الخلاء. وإن المكان والزمان والحركات ذات بنية ذريّة أيضاً. وعلى هذا, فالزمان يتألف من آنات منفصلة, (ذرات زمنيّة). ليس بينها أية رابطة, فالآن ليس مشروطاً بسابقه أبداً.
والله عند الأشعريّة هو العلة الوحيدة لكل ما في العالم, ولما يجري فيه من أحداث وظواهر. فكل شيء في هذا الوجود مخلوق له.
لقد أنكر الأشاعرة خلود العالم الماديّ وقانونيته ونظامه. وإن الله لم يخلق العالم فحسب, بل وَيَحْضُرُ فيه دوماً, ويؤثر في ظواهره كافة. لذلك يقر الأشاعرة بأنه, ليس للأشياء خصائص ثابتة, بل تتجدد دوماً من قبل الله الذي (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْن), وهو الذي يخلع على الجواهر خصائصها الايجابيّة والسلبيّة. أي يخلع عليها الحياة والموت والحركة والسكون.
إن علم الكلام عند الشاعرة بعمومهم, هو شكل خاص من أشكال الفلسفة, الذي تميزت به الحياة الروحيّة للمجتمع الإسلاميّ منذ فرمان الخليفة المتوكل باعتماد النقل بدلاً عن العقل عام (232) للهجرة. أي توظيف الفكر (العقل) الباحث والمنقب لخدمة اللاهوت وتثبيته لا الحكم عليه. فرجال الشاعرة من “أبي حسن الشعري” إلى اليوم, لم يقدموا أي جديد في الفكر الفلسفيّ يذكر, وذلك كونهم لم يتطلعوا إلى البحث عن الحقيقة, بل عن وسائل البرهان على صحة العقائد الدينيّة. إن الفكر أو العقل عندهم لم يعن بالبحث عن دلالات جديدة في النص الدينيّ, بل التسليم بما بحثه فقهاء ومتكلمو أهل القرون الهجريّة الثلاثة الأوائل. أي لم يأت استخدام العقل إلا لتأكيدها, وهذا ما قال به أبو حسن الشعري: نحن لا نستخدم العقل للحكم على النص, بل لتأكيده. وعل هذا الأساس كان لا بد للفلسفة أن تسير على دروب الانحطاط, في ظروف بدأ فيها العلم يعزز مواقعه في تاريخنا المعاصر, ويتحول إلى ميدان البحث المستقل عن أي تأثيرات دينيّة إلى حد كبير, عدا تأثير استخدامات العلم على الإنسان من الناحية الأخلاقيّة. (8).
في حلقة على قناة نور الشام السورية تاريخ / 2/10/ 2017. يقدمها الشيخ البوطي حيث تحدث فيها قائلاً: يجب الابتعاد عن كل ما لم يأت ذكره في القرآن أو الحديث من علوم, معتبراً أن الدخول في مثل هذه المسائل هو تضيعه للوقت وابتعاد عن أوامر الله.).
هكذا نرى أن الدين عند الأشاعرة بأن كل شيء مخلوق لله, ولا دور للإنسان في تقرير مصيره, وإن استخدم عقله يأتي في مجال النص, يأتي لتثبيت النص وليس للحكم عليه. أي لإقرار بما جاء في هذا النص والالتزام به والاستسلام له. والدين عندهم هو دين الفطرة والموعظة الحسنة. وإن الله هو الذي يخلع على الجواهر خصائصها الايجابيّة والسلبيّة. أي يخلع عليها الحياة والموت والحركة والسكون.
أما التدين عند الأشاعرة, فهو الالتزام بما أقره السلف الصالح., وهم أقرب إلى المتصوفة في مسألة الفضيلة. أي هم لا ينظروا إلى الأسباب الواقعية التي تنتج الفساد والعمل على إزالتها, بل هم يدعون الناس إلى التمسك بالفضيلة والسير على هديها فحسب, وهم لا يتدخلون في السياسة ويطالبون الناس الالتزام بالخضوع للسلطان حتى لو كان فاجراً وفاسداً المهم أن لا يدعوهم إلى الكفر, وذلك من منطلق الحفاظ على المن والاستقرار حتى لا تكون هناك فتنة.
الدين والتدين عند الفلاسفة:
ابن رشد:
وهو من اتباع تيار الفلسفة المشائيّة الشرقيّة, وقد بلغت عنده أشدها. وهي فلسفة ظهرت ما بين القرنيين (التاسع والحادي عشر ميلادي), ومن اتباعها الكندي والفارابي والبيروني وابن سينا, وكلهم تأثروا بأرسطو. وتأثر قسم كبير منهم بنظرية الفيض التي تقول بأن العالم ليس مخلوقاً لله, بل صدر عنه عبر وسائط طبيعيّة بطريق الفيض. أي ليس مباشرة بل بتوسط عدد من العقول. والله لا يستطيع أن يخلق شيئاً لا إمكانيّة له. والطبيعة تولد الظواهر, فلولا وجودها لما وجدت التربة والمياه, وبالتالي ظهر البشر.
إن نظرية الفيض زعزعت جذور النظرية اللاهوتيّة الغيبيّة في الخلق. ونظرتها ماديّة للحياة.
لقد كان ابن رشد فيلسوفاً وفقيهاً وطبيباً. اشتهر بشروحه لأرسطو الذي سماه المعلم الأول. ومن أهم آراء ابن رشد: إن العالم مادي نهائي في الزمان ولكنه محدود مكانيّاً. وهو لا يؤمن بالنظرة اللاهوتيّة القائلة بخلق العالم من لا شيء, فالله والطبيعة موجودان منذ الأزل, ( وحدة الوجود). والمادة هي الأساس الأول للوجود, والمصدر الأزلي للإمكان. والمادة والصورة متلازمان لا توجد إحداهما دون الأخرى, ولا يمكن فصلهما إلا ذهنيّاً. ولكون الصورة والمادة تؤلفان وحدة, فإن الإمكان والواقع يؤلفان وحدة أيضاً. إن المادة هي المصدر الكلي والأزلي للحركة. والحركة أزليّه , خالدة, مستمرة. وكل حركة جديدة تصدر عن سابقتها.
من نزعاته المثاليّة:
يقول إن الوجود يتشكل من مراتب يتربع على قمتها الله, العلة الأخيرة للوجود. والعقل الذي يعقل بذاته.
قال بالحقيقتين, أو الحقيقة المزدوجة: وهي الحقيقة الدينيّة والحقيقة الفلسفيّة. ولا تناقض بينهما. فالدين يرشد الناس إلى السلوك القويم في الحياة العمليّة. بينما الفلسفة فتصل الناس إلى إدراك الحقيقة المطلقة.
لذلك قال بالعقل الكليّ للنوع الإنسانيّ بعامة, وهذا العقل الكليّ هو وحده المعبر عن الاستمراريّة والتوارث في الحياة الروحيّة للبشريّة. وهو خالد لا يفنى. أما العقل البشري الفردي فزائل يفنى بزوال الإنسان.
وهو يقول: ان ما يوجد في الواقع هي الأشياء العيانيّة فقط, اما الكليات فليست سوى تسميات للأشياء التي تقوم على أساس واقعي وإلا لكانت كاذبة.
علم المنطق عنده يساعد على الانتقال بالمعرفة من التصورات والادراكات الحسيّة إلى حقائق مدركة بالعقل. والحقيقة المطلقة يمكن الوصول إليها تدريجياً. أي هي نسبية في وجودها
لم يرفض الدين وإنما اعتبر الفلسفة للنظر والدين للعمل.(9).
ومن أجمل ما قاله الفارابي في مجال التدين:
الحَسَن ما حَسَّنه العقل. والقبيح ما قبَّحَه العقل. الله لا يمكن أن يعطينا عقولاً ويعطينا شرائع مخالفة لها. اللحية لا تصنع الفيلسوف. لو سكت من لا يعرف لقلّ الخلاف. من َتأنّى نالَ ما تمنى. أكبر عدو للإسلام جاهل يكفّر الناس. التجارة بالأديان هي التجارة الرائجة في المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل. مجالسة الصالحين تحولك من ستة إلى ستة، من الشك إلى اليقين، من الرّياء إلى الإخلاص، من الغفلة إلى الذكر، من الرغبة في الدنيا إلى الرغبة في الآخرة، من الكبر إلى التواضع، من سوء النية إلى النصيحة. إن الحكمة هي النظر في الأشياء بحسب ما تقتضيه طبيعة البرهان. (10).
الفيلسوف الفارابي:
دعونا نأخذ أيضاً الفيلسوف “الفارابي” أنموذجاُ فلسفيّا عن هذه النماذج الفلسفيّة العربيّة العقلانيّة النقديّة التي مارست التدين وفق ما توصلت إليه معرفيّا أو فلسفياً لهذا الدين.
لم ينكر الفارابي الفلسفة ولم يكفرها أو يزندق دعاتها, وقد عرف الفلسفة بقوله: (هي العلم بالموجودات بما هي موجودة, لاختصاصها بالنظر في ماهيات الموجودات, من خلال تتبع مساراتها وصولاً إلى الامساك بجذورها, أو ما اعتبرها ارسطو عقلها ومبادئها الأولى).
فالفلسفة عنده تقوم على الاقرار بدور العقل النقدي القادر على كشف الظواهر في الطبيعة والمجتمع, من خلال تتبع سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين, بهدف معرفة سر وجودها. فالفارابي هنا إذن, تجاوز حدود الاستسلام للمطلق بالنسبة لوجود الظواهر, أي القول بأنها تخلق من خارج الوجود الأنطولوجي المحيط بنا, ومنحها الاستقلاليّة في هذا الوجود, بناءً على وجود سنن أو قوانين داخليّة أو محيطة بها منحها هذا الوجود, مثلما منح الإنسان القدرة الذاتية على البحث في وجودها وآليّة عملها وبالتالي تسخيرها لمصلحته.
إن الوعي الفلسفي وفق هذا المنطق في تعبيرنا المعاصر, هي قسم من الثقافة الروحيّة للبشريّة, وشكل من أشكال الوعي البشريّ (الاجتماعيّ), حيث تكمن وظيفتها المتميزة في وضع نظرية قادرة على خلق فهم معلل نظريّاً ومنهجيّاً لأكثر القوانين عموميّة في الطبيعة والمجتمع والتفكير الإنساني. وتكمن أصولها في الممارسة الاجتماعيّة الواقعيّة, و تعكس على نحو متميز قضايا وتناقضات الممارسة الاجتماعيّة وقضايا عمليّة معرفة الواقع وتحويله, وتؤثر بالإضافة إلى ذلك على تطور المجتمع والتاريخ وعلى تطور الإنسان ومعرفته, وذلك انطلاقاً من أن الوجود بشقيه الاجتماعي والطبيعي مشروطاً بقوانين موضوعيّة يسري مفعولها في التاريخ الطبيعي والبشري بغض النظر عن إرادة الناس ورغباتهم.
إن المهمة الأساس في الفلسفة إذن, تكمن في العمل على جعل الوعي العقلانيّ (النقديّ) على علاقة موضوعيّة بالواقع الاجتماعيّ عن طريق توجيه هذا الفكر لدراسة التناقضات والسنن والميول الموضوعيّة للتطور التاريخي البشري.
وهذا الموقف الفكريّ من الوعي والممارسة معاً يختلف عمن يطالب الناس اعتبار الدين في صيغته اللاهوتية هو المنطلق الأساس في الفكر والممارسة الإنسانيّة كونه مجموعة العقائد والمبادئ والأفكار والرؤى والرموز والطقوس المقدسة والثابتة والمطلقة المتعالية عن الواقع, والتي على المتدينين الذين يؤمنون بها أن يعملون على تطبيقها فكراً وممارسة في حياتهم اليوميّة المباشرة, على اعتبارها تتضمن حلول مشاكل الناس وتحقيق سعادتهم.
ملاك القول: إن العقل النقدي عند كل من ابن رشد والفارابي يظل حجة, له منزلته العالية وقوته التي تمارس نفوذها على سائر القوى الأخرى. هذا العقل الذي يظهر عند الفرد مثلما يظهر عند الكتل الاجتماعيّة, وإذا كان العقل الفردي عقل ظني, يظل يحمل بين ثناياه الصح والخطأ كما يقول الفقهاء, إلا أن العقل الجمعي هو الأقرب لضمان اليقين والاقتراب من الحقائق في نسبيتها, وعلى هذا الأساس تكون الحقيقة دينيّة أو غيره دينيّة أكثر قوة وحضوراً عندما يقرها العقل النقدي الجمعي. ومن تجليات هذا العقل النقدي الجمعي تأتي الشورى.
إن العقل النقدي عقل شكاك, يؤمن بالحركة والتطور والتبدل, ويؤمن بالضرورة ممثلة بالقوانين التي تتحكم بسير حركة الوجود برمته, يرفض الإطلاق ويؤمن بالنسبيّة, أما الزمان والمكان عنده فهما تاريخيان, أي لهما وجودهما وتسلسلهما التاريخيّ, والحقيقة الممثلة بهذه الظواهر تقوم على معرفة ناقصة. مثلما يؤمن بالحريّة على اعتبار الإنسان سيد مصيره, حيث يستطيع بما يملك من قدرات عقلية وجوارح ناشطة في هذا الكون, من أعادة بناء نفسه وما يحيط به وفقاً لإرادته.. فهو في المحصلة خليفة الله على هذه الأرض إذا ما نظرنا إليه من منطلق أن الدين ليس كله خطأ, ففيه الكثير من الجوانب العقلانيّة وخاصة في مقاصده على اعتباره جزءاً من التراث البشري الذي تعامل مع الإنسان وقضاياه, وعلى اعتبار أن العقل النقدي لا ينكر وجود عوالم في هذا الكون لم تُكتشف كينونتها بعد, فالمعرفة تسير دائماً نحو الأمام وفي كل يوم يكتشف الجديد الذي يقبله العقل, في الوقت الذي يتخلى فيه كل يوم هذا العقل عن الكثير من القضايا القائمة معرفتها على الذاتيّة والحدسيّة والتخيل والظن. (11 ).
كاتب وباحث من سوريّة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
8- للاستزادة في معرفة الأبعاد المعرفيّة والسلوكيّة للأشاعرة – راجع دراستنا – الأشاعرة أعداء العقل والحريّة). موقع حوار نيوز.
9- موجز تاريخ الفلسفة – مجموعة من الباحثين السوفييت – تعريب توفيق سلوم, ومراجعة – د. خضر زكريا – دار الجماهير الشعبيّة – دمشق – 1971- ص 151 وما بعد.
و(للاستزادة في معرفة الأفكار الفلسفيّة حول الدين والتدين للفيلسوف ابن رشد- رجع كل من موقع (مصراوي) دراسة بعنوان – ابن رشد وأفكاره التي لا يبليها الزمن – د. عمار علي حسن). وكذلك مراجعة موقع سطور.)
10- موقع موضوع. من أقوال ابن رشد.
11- راجع دراستنا عن الفارابي بعنوان (الفلسفة والدين في الخطاب الإسلامي). موقع ساحة التحرير.)
التعليقات مغلقة.