متابعات، نشرة أسبوعية – العدد الثاني والأربعون / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – السبت 21/10/2023 م …
يحتوي العدد الثاني والأربعون لنشرة متابعات على فقرات تتناول بعض تأثيرات العدوان الصهيوني على اقتصاد دولة الإستيطان، وفقرة للتذكير بأسباب هيمنة الدّولار وبمحاولات وضْع حدٍّ لها، مثل محاولات مجموعة “بريكس”، وأخرى تتناول بعض هوامش وفقرة عن بعض تطورات المشروع الصِّيني “الحزام والطّريق” على الجبهة الشرقية، في بلدان الإتحاد السوفييتي السابق، أو ما سُمِّيَ “أوراسيا”، فضلا عن فقرة خاصة بالنسوية النّخبوية كنقيض للمساواة التامة بين المرأة والرّجل.
في جبهة الأعداء – من تبعات العدوان
اضطر الكيان الصهيوني إلى إخلاء مُستعمرات (مستوطنات ) غزة سنة 2005 ونقَل المُسْتَوْطِنين إلى الضّفّة الغربية حيث تكثّفت عمليات مصادرة الأراضي والإعتداء المباشر على الفلاحين الفلسطينيين، ومنذ ذلك الحين يعيش فلسطينيُّو غزة حصارًا وقَصْفًا مُتصاعدًا ومستمرًّا ومُكثّفًا، خصوصًا منذ سنة 2008، وما العدوان الحالي المتواصل منذ السابع من تشرين الأول/اكتوبر 2023 (حتى كتابة هذه الفقرات يوم 18/10/2023) سوى استمرارًا لعدوان 2008/2009، بل لعدوان 1947/1948، ومحاولة تهجير الفلسطينيين وإخلاء المكان من أهْلِهِ ليتسنّى الإحتلال العسكري المباشر لقطاع غزة ومصادرة واستغلال الإحتياطيات البحرية للغاز الطبيعي الفلسطيني الذي تم اكتشاف حجمه الضّخم منذ سنة 2002، كما حصل لحقل ليفياثان ( 83 ألف كيلومتر مربع ) وحقل “تمار”، بمساعدة وإشراف الشركة الأمريكية “نوبل إنيرجي” التي بدأت عملية المَسْح والبحث منذ أكثر من ثلاثة عُقُود (قبل “مُفاهمات” أُوسلو) وفرّطت سلطة ياسر عرفات (ثم محمود عباس) في ثروة الشعب الفلسطيني من خلال توقيع اتفاقية (تشرين الثاني/نوفمبر 1999) ضمنت حقوق التنقيب عن الغاز والنفط لمدة 25 عامًا لشركة بريتيش غاز – التي قدّرت احتياطي غاز غزة بما لا يقل عن 1,4 تريليون قدم مكعب – وشريكتها شركة اتحاد المقاولين الدولية (مقرها أثينا )، وفق صحيفة “إندبندنت” البريطانية ( 19 آب/أغسطس 2003 ) والصحيفة الصهيونية “هآرتس” 21 تشرين الأول/أكتوبر 2007
كان الغاز موضوع مناقشات بين حكومة الكيان الصّهيوني وشركة بريتش غاز منذ سنوات، قبل عدوان 2008، ويُشارك النظام المصري وسلطة الحكم الذّاتي الإداري ( أوسلو) في عملية نهب محروقات فلسطين المحتلة من خلال استيراد وتصفية الغاز في مصر قبل تصديره إلى أوروبا، ضمن ترتيب إقليمي جديد يضم الكيان الصهيوني ومصر واليونان وقبرص وإيطاليا، بالتّوازي مع تشديد الحصار البري والبحري، بمشاركة الولايات المتحدة والأساطيل الحربية البحرية للعديد من الدّول الأوروبية، من بينها بريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها، وجميعها أعضاء في حلف شمال الأطلسي، لتكتملَ عَسْكَرَة ساحل غزة وتحديد حركة قوارب الصّيد، في إطار تجويع الشعب الفلسطيني…
إن سيطرة الكيان الصهيوني على حقول غاز غزة تُمَكّنه من ربطها مع المنشآت البحرية المجاورة في حَقْلَيْ ليفيثان وتمار وَوَصْلِها بممر نقل الطاقة الذي يمتد من ميناء أم الرّشراش، إلى ميناء عسقلان، وإلى حيفا شمال فلسطين، ثم إلى ميناء جيهان التركي لاحِقًا، حيث محطة خط الأنابيب العابر لبحر قزوين باكو- تبليسي- جيهان…
بعد أسبوع من العدوان الصهيوني على فلسْطِينِيِّي غزة، لم تظهر تأثيرات ضخمة على الأسواق، لكن تراجعت عُمْلة الإحتلال (الشيكل) بشكل حاد، إضافةً إلى ارتفاع المَخَاطِر على الإقتصاد العالمي وعلى الأسواق المالية، خصوصًا إذا ما تَوَسَّعَ نطاق الحرب مما قد يرفع أسعار المحروقات، حيث تراجعت أسعار الأسْهُم وارتفع سعر الدّولار وسعر الذهب الذي يُعْتَبَرُ مَلاَذًا، وارتفعت أسعار النفط نحو 6% يوم الجمعة 13 تشرين الأول/اكتوبر 2023، بفعل خوف الرأسماليين ( المستثمرين ) من تأثير الصراع على الإمدادات القادمة من أكبر المنطقة منتجة للنفط في العالم، وخوفًا من تَوَقُّفِ إنْتَاجِ النفطِ فَجْأَةً أو تَعَطُّلِ نَقْلِهِ، وعلى سبيل المثال، أعلنت شركة شيفرون وَقْفَ صادرات الغاز الطبيعي عبر خط أنابيب رئيسي يمر تحت البحر بين فلسطين المحتلة ومصر، وقد تؤثر هذه البيانات على ارتفاع نسبة التضخم وعلى رَفْعِ أسعار الفائدة في جميع أنحاء العالم، وقد تستفيد الولايات المتحدة من هذا الوضع، لأن المستثمرين الأجانب يضخون أموالهم في ما يعتبرونه ملاذا آمنا أثناء الصراعات العالمية، وفق وكالة “رويترز” بتاريخ الإثنين 16 تشرين الأول/اكتوبر 2023…
من جهة أخرى جعلت الشركات العالمية (ومعظمها أمريكية) من فلسطين المحتلة إحدى أهم الوجهات الرائدة للاستثمار في مجال التكنولوجيا، ففي عام 2021، جمعت الشركات الناشئة الصهيونية استثمارات من “رأس المال المُخاطِر” بقيمة 27 مليار دولار، غير إن هذا القطاع، ويضم الإلكترونيات والإتصالات والتجسس (وهو أمريكي في الأساس، ومُعظم شركاته مُدْرَجَة في بورصة ناسداك الأمريكية) الذي اسْتطاع على مدار السنوات الماضية مواصلة النُّمُوّ، تأثَّرَ كثيرًا بالعدوان الحالي، إذْ عمليات المُقاومة عدم نجاعة أو جَدْوَى أجهزة التّجسّس والرّقابة الإلكترونية الصّهيونية، مما أثَّرَ على مركز الأعمال بتل أبيب، حيث تَمّ إلغاء ما لا يقل عن ثلاثة مؤتمرات تقنية رفيعة المستوى للذكاء الاصطناعي، كما تَوَقَّفَت الزيارات إلى فلسطين المحتلة بشكل مفاجئ، ولا تزال أعمال العديد من الشركات متوقفة، ولا يمكن القيام ببعض الأعمال الحيوية للنشاط الاقتصادي التكنولوجي عن بعد، وتعود أسباب التّوقّف إمّا “لأسباب أمنية” أو لأن جيش العدو استدعى نحو 300 ألف جندي احتياط، ومن بينهم نحو 10% من موظفي هذه الشركات وحوالي 30% من الشركات الأخرى للمُشارَكَة في العدوان، وأعلن محافظ المصرف المركزي للعدُوّ، يوم الأحد 15 تشرين الأول/اكتوبر 2023 ” ستَكُونُ للحرب التي نخوضها في غزة آثار على الميزانية…”
أظهر العدوان الصهيوني، الذي بدأ يوم السابع من تشرين الأول/اكتوبر 2023، نذالة معظم الحُكّام العرب، وبالأخص حكام الخليج الذين انتهجوا سياسات أدّت إلى تذويب العُنصر العربي برفض تشغيل العرب واستيراد الملايين من العُمّال المهاجرين الآسيويين، ما جعل العرب أقلية، وأظْهَرَ حُكّام دُوَيْلات الخليج انحطاطًا سياسيا وعمالة وتبعية لا سابق لها، خلال العدوان الصّهيوني على الشعب الفلسطيني في غزة، (تشرين الأول/اكتوبر 2023) وهي مجتمعات صغيرة وهجينة فقدت هويتها الثقافية العربية، بفعل ارتفاع حجم الوجود غير العربي إلى نحو 16 مليون آسيوي في مَشْيَخات مجلس التعاون الخليجي، خصوصًا في قَطَر والإمارات، حيث يُمثّل الآسيويون نحو 90% من العدد الإجمالي للسكان، وقد يتضاعف عدد الآسيويين سنة 2025، ما يُهَدِّدُ مُقوّمات العروبة، كاللغة والثقافة وحتى الهوية العربية…
روسيا “صديق” مَشْبُوه
لا يزال العديد من التّقدّميّين العرب يعتبرون روسيا صديقا لنا، وهذا خطأ في التّقدير، لأن روسيا لا تهتم سوى بالدّفاع عن مصالحها، وهو أمر مشروع، لكن ذلك يتم ضد – أو “على حساب” – مصالح سوريا أو مصالح الشعب الفلسطيني، رغم الضّرر الذي ألحَقَهُ الكيان الصّهيوني بمصالح روسيا في جورجيا وأوكرانيا وشرقي المتوسط…
ينطلق تقييمنا لعلاقاتنا مع الدّول وتصنيفنا للأصدقاء والأعداء من الدّفاع عن مصالحنا، وفي مقدّمتها مصلحة الشّعب الفلسطيني وحقّه في وطنه الذي طُرِدَ منه بالقُوّة ليحتلّهُ المُستعمرون، ومن بينهم أكثر من مليون روسي، من ذوي الكفاءة والخبرة، جاؤوا عند انهيار الإتحاد السُّوفييتي لِيُعَزِّزُوا الإحتلال الإستيطاني واقتلاع ما تبقى من الشعب الفلسطيني في مناطق الإحتلال الأول (أراضي 1948)، ويعتبر نظام روسيا الحالي هؤلاء المستوطنين “مجموعة تأثير” (لُوبي) تخدم مصالحه، ولذلك يُفضّل تحسين العلاقات مع الكيان الصهيوني ( وكذلك مع تركيا الأطلسية) على العلاقات مع سوريا أو غيرها من الأنظمة في المشرق العربي، ورفضت روسيا تسليم أسلحة تُمكّن سوريا من الدّفاع على أراضيها ضد الهجمات الصّهيونية…
إلى ذلك، فإن من عوامل التعقيد الأخرى المثل الشائع «إتبع المال». منذ التسعينيات، كانت أموال روسية هائلة تنتقل إلى إسرائيل. اليوم، يعود قسم كبير منها إلى روسيا، ولم تعد إسرائيل بالأهمية نفسها.
وهنا نستحضر القضية المعروفة للملياردير الأوليغارشي ميخائيل فريدمان الذي انتقل من المملكة المتحدة إلى إسرائيل، قبل أسبوع من بدء طوفان الأقصى الذي دفعه إلى حمل جواز سفره الروسي على عجل والسفر إلى أمان موسكو.
فريدمان، أحد الأوليغارشيين الناجين من الأزمة المالية عام 1998، والذي يرأس مجموعة ألفا التي تملك مصالح كبيرة في مجالات الاتصالات والمصارف والتجزئة والتأمين، مشتبه به في «التبرع» بما يصل إلى 150 مليون دولار لنظام كييف.
رد فعل فياتشيسلاف فولودين، رئيس مجلس الدوما، كان شديد الحدّة: «أي شخص غادر البلاد وشارك في أعمال تستحق الشجب، واحتفل بإطلاق النار على الأراضي الروسية، وتمنى النصر لنظام كييف النازي، يجب أن يدرك أنه ليس فقط غير مرحب بهم هنا، ولكن إذا عادوا، فإن ماجادان (مدينة في شمال روسيا أنشئت فيها في عهد ستالين شبكة معتقلات لتزويد المناجم بالعمالة المجانية) في انتظارهم».
اعتبر العديد من التقدميين العرب إن موقف روسيا الحالي من العُدْوان الصهيوني “مُتوازن” في مقابل الدّعم “الغربي” العلني، وغير المحدود للعدوان، وقدّمت روسيا مشروع قرار بمجلس الأمن، يدعو إلى “وقف إطلاق النّار” وليس لإدانة العدوان – وإن كانت الإدانة لا تتجاوز اللفظ – وعارضت الدّول الأطلسية التي تتمتع بحق النقض (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ) وكذلك اليابان مشروع القرار الروسي، في خطوة تُعبِّرُ عن الدّعم العَلَني للدّول الإستعمارية التي تُشجع الكيان الصهيوني وتُسلّحُهُ لتدمير ما تبقى من غزة وارتكاب المزيد من المجازر
تدّعي روسيا “الحياد”، رغم قصف السلاح الصهيوني طائرةً روسية (أيلول/سبتمبر 2018) وقَتْل 15 جنديًّا وضابطًا روسيا في سوريا، بل يُشارك نظام روسيا الحالي بزعامة “فلاديمير بوتين” في التّآمر ضدّ سوريا، من خلال إعداد دستور مناهض للعروبة ويهدف تقسيم البلاد، وضد فلسطين من خلال “الحياد” الزائف، ومن خلال تفضيل العلاقات مع الكيان الصهيوني وتركيا على دعم القضايا العربية…
…
أنا إن سقطت فخُذ مكاني يا رفيقي في الكفاح
واحمل سلاحي لا يُخفكَ دمي يسيل من الجراح
وانظر إلى شَفَتَيِّ أطبقتا على وهج الرياح
أنا لم أمت أنا لم أزل أدعوك من خلف الجراح
لم يَخُض الكيان الصّهيوني أيًّا من حُرُوبه العدوانية ضدنا (فلسطينيين وعربًا) بمفرده، بل بدعم عسكري واقتصادي وسياسي وإعلامي من الإمبريالية الأمريكية والأوروبية وفروعها، من كندا إلى أستراليا. أما الأنظمة العربية فهي توابع من درجة دُنْيَا، لا يمكنها البقاء في السلطة بدون دعم خارجي من قِبَل نفس الإمبريالية.
لذا فإن جوهر القضية الفلسطينية هو تحرير فلسطين كجزء من تحرير الوطن العربي ضد هيمنة الثالوث المُتمثل في الإمبريالية والصّهيونية والرجعية العربية، ولا تختار الجماهير العربية (ولا غيرها) طريقة التحرير بل تفرضها طبيعة العَدُو – الخارجي والدّاخلي – وأساليبه، فالإمبريالية الأمريكية والأوروبية لا تتوانى في تقديم السلاح والعتاد والمرتزقة لمحاربة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية وشعوب العالم، ولا يُمكن مُقاومة الغزو والعدوان العنيف بالوسائل السّلمية والتّوسّلات واللّوائح.
تنازلت قيادات منظمة التحرير الفلسطينية وتنازلت الأنظمة العربية عن الجزء المُحتل سنة 1948، لكن العدو الصهيوني رفض التّنازلات ومضى في تطبيق مخططه القاضي بالهيمنة على السيطرة على فلسطين برُمّتِها وعلى الوطن العربي وعرقلة وِحدة أراضيه وشُعُوبه، ولا يمكن مُقارعته سوى بالعمل المُستمر – الذي يتجاوز الفلسطينيين – على تحرير كامل فلسطين والأراضي العربية المحتلة، واقتلاع الكيان الصهيوني من الوطن العربي، ما يعني الإستعداد لمقاومة الثالوث المذكور.
هوامش الإجتماع السّنَوِي لمؤسسات “بريتن وودز” المالية
بَدَت الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي في المغرب هذا العام ( 2023 ) كمواجهة بيْن الهيمنة أحادية القُطب (الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي) والصين ومجموعة بريكس + والدّول التي تريد بناء عالم مُتَعَدّد الأقطاب، لكن من يعمل على رَفْعِ مُستوى معيشة مواطني البلدان الفقيرة؟
يفرض صندوق النقد الدولي والبنك العالمي شُرُوطًا قاسية – مقابل قُرُوض ربوِيّة – تتضمّن سياسة التقشف المُعَرْقِلَة للنُّمُوّ والمناهضة لسيادة ولاستقلالية البلدان وتتضمّن خصخصة القطاع العام وخَفْض قيمة العُمْلة المَحَلِّيّة وإلغاء دعم السلع والخدمات الأساسية وما إلى ذلك من شُرُوط تطالب الولايات المتحدة (التي تتمتّع بحق النّقض داخل المؤسسات المالية الدّولية) بتشديدها في إطار فَرْض وتعميم النيوليبرالية.
تسعى دول مجموعة بريكس + إلى تجنب الإقتراض صندوق النقد الدولي، بسبب ارتفاع حجم “خدمة الدّيون” الخارجية، وخوفا من التعرض لسياسات التقشف كما تسعى إلى التخلص من اعتماد اقتصاداتها ومعاملاتها المالية على الدولار لتجنّب الحروب الإقتصادية والتجارية والتّهديدات والعقوبات الأمريكية، مثل مصادرة احتياطيات المصارف المركزية وودائع الدّولار ( مبالغ مُودَعَة في المصارف الأجنبية بهدف استخدامها في تسديد صفقات التّوريد ) كما فعلت مع احتياطيات إيران وفنزويلا وروسيا، كعقاب على سعيها لتحقيق الاكتفاء الذاتي، وتسعى هذه الدّول لاستخدام عملات أخرى – غير الدّولار – لتسوية معاملاتها التجارية والاستثمارية، وتطمح إلى تأسيس نظام عالمي جديد، وفق تحليل نشرته صحيفة فايننشال تايمز 12 تشرين الأول/اكتوبر 2023
تقوم السُّلُطات الأميركية بوضع القواعد المُسَيِّرَة لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي، ما سمح للصندوق بمعاملة نظام أوكرانيا بشكل تَفْضِيلي يُخالف القواعد المُعْتادَة حيث حصل نظام أوكرانيا المُوالي للإمبريالية الأمريكية على قروض تفوق سبعة أمثال حصتها، وأصبح صندوق النقد الدولي يعمل بشكل علني كوكيل لوزارة الخارجية الأمريكية والمؤسسة العسكرية الأميركية لتمويل الحرب الأمريكية-الأطلسية ضد روسيا ومن ورائها الصين، وبذلك ينتهك صندوق النقد الدّولي (بأَمْرِ وإشْراف الولايات المتحدة) قواعد وقيود الإقتراض المفروضة على الدول الأعضاء، ومن بينها حَظْر إقراض دولة في حالة حرب، وإقراض دولة غير قادرة على سداد القرض، غير إن المصالح الأمريكية مضمونة في حالة أوكرانيا، حيث تستحوذ الشركات العابرة للقارات ذات المَنْشَأ الأمريكي على ألأراضي الزراعية والمناجم والثّروات، ما يُحَوِّلُ القُروضَ إلى سلاح لتعزيز النّفوذ الأمريكي والليبرالية الجديدة التي تستخدمها الولايات المتحدة للإبتزاز وللحصول على ما تُريد من مواقف سياسية مُوالية لها ومن ثَرَوات طبيعية.
أما البدائل التي يُقدّمها منافسو الولايات المتحدة فتتلخّص في مبادرة الحزام والطّريق وهي خطّة صينية، ثم مجموعة البريكس + وهي لا تزال في خطواتها الأولى، فضلا عن حرص أصْحاب البَدِيلَيْن على عدم تجاوز قواعد النظام الرأسمالي، ما يجعل من مثل هذه المشاريع حلولاً مَغْشُوشَة لا تُولي بالاً لمشاكل الشُّعُوب المُضْطَهَدَة ولا للطبقات المُسْتَغَلَّة.
متى تنتهي هيمنة الدّولار؟
بحث أعضاء مجموعة بريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا)، المجتمعون في الفترة من الثلاثاء 22 آب/أغسطس إلى الخميس 24 آب/أغسطس 2023 في جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا، إمكانيات توسيع المجموعة وفك ارتباط الدولار رمز الهيمنة الأمريكية. إنه هدف طموح ولكن تطبيقه معقد.
كانت العقوبات الغربية المفروضة على روسيا (تجميد احتياطيات المصرف المركزي من الدولارات المودعة بالخارج واستبعاد المصارف الروسية من شبكة التحويلات والإتصالات الدولية بين المصارف “سويفت” وحظر واردات النفط من روسيا، وما إلى ذلك) سبباً في إثارة اهتمام العديد من البلدان الناشئة بـ “التخلص من الدولرة”، وسَعت بعض الدول إلى الحد من استخدام الدولار في اقتصاداتها لحماية نفسها من الاضطرابات المالية الدولية، فيما ترغب دول أخرى عدم الوقوع تحت طائلة القرارات التّعسُّفِيّة الأمريكية وقوانينها العابرة للقارات التي تطبقها خارج الحدود الأمريكية من خلال فرض الحظر والعقوبات والغرامات عند استخدام الدّولار في التعامل مع روسيا أو كوبا أو فنزويلا أو كوريا الشمالية أو إيران وسوريا وغيرها…
يعتقد العديد من الخبراء، بالإضافة إلى أعضاء مجموعة بريكس، أن الهيمنة العالمية للدولار الأمريكي، والتي استمرت لما يقرب من ثمانين عاما، تقترب من النهاية، ويُمكن أن تُؤدِّي عدة عوامل، مثل الأزمات الاقتصادية أو الوضع الجيوسياسي، إلى انهيار العملة الأمريكية، ولكن ليس على المدى القصير، لأن الهيمنة الكاملة والعميقة للدولار على نظام الصرف الدولي وعلى الصفقات العامة والأسواق التجارية والمعاملات المالية والتجارية الخاصة، تدفع المصارف المركزية والشركات (خاصة المستوردة) للإحتفاظ بالدولار، بالإضافة إلى أسواق السلع الأولية العالمية المقومة بالدولار. إن هيمنة الدولار على المنظومة المالية الدولية تُعَسِّرُ وتُبْطِئُ تقليص الفجوة الهائلة التي تفصل الدولار عن العملات الأخرى مثل اليورو أو الين الياباني أو اليوان الصيني أو الروبل الروسي.
أصبح الدّولار عملةً ضرورية للتبادل ووحدة حسابية خارج الولايات المتحدة، وتضطر العديد من الحكومات والسّلطات النّقدية إلى استخدام الدولار للتدخل في أسواق الصرف الأجنبي، وإلى الاحتفاظ بالدّولار كاحتياطي رسمي لتوريد السلع الضرورية، كما تستخد الشركات الخاصة الدّولار لشراء السلع من الأسواق العالمية ولتقويم الأسعار ولإعداد الفواتير وتسوية العمليات التجارية، وكذلك للاستثمار في مختلف بلدان العالم… إن التفاعل بين هذه العوامل المختلفة هو الذي دفع الدولار إلى موقعه المهيمن، بدعم من القوة العسكرية الأميركية، ومن الهيمنة الأمريكية على دُويلات الخليج المنتجة للنفط المُقَوّم بالدّولار…
الحزام والطّريق
يتوقع أن يكون الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ضيْفًا مُبَجَّلاً، ضمن الحاضرين بالمنتدى الثالث لمبادرة “الحزام والطريق” في أول زيارة خارجية له إلى دولة كبرى منذ بدء أزمة أوكرانيا العام الماضي، وهو المنتدى الذي تستضيفه الصين يوم الإثنين 16 تشرين الأول/اكتوبر 2023، ويضُمُّ ممثلين لأكثر من مائة دولة، احتفالا بمرور عشرة أعوام على المبادرة الاستثمارية الضخمة، التي تهدف تعزيز النفوذ الدولي للصّين، وخصوصًا في منطقة “أوراسيا” التي عملت على تعزيز التعاون معها “على أساس المساواة والمنفعة المشتركة في جميع أنحاء منطقة أوراسيا والعالم”، وتُشَكّل الصين وروسيا أهم ركائز مبادرة “الحزام والطّريق”، وبلغ التبادل التجاري بينهما سنة 2023، مستويات مرتفعا بفعل زيادة حجم المحروقات التي تستوردها الصين من روسيا، في إطار زيادة التعاون بينهما لمجابهة الحصار والعقوبات الأمريكية، وفي إطار بناء عالم متعدد الأقطاب.
أعلن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” إن الإستثمارات في دول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي (روسيا وبيلاروس وكازاخستان وأرمينيا وقرغيزستان) بلغت نحو 24 مليار دولارا من خلال العمل المشترك في إطار مبادرة “حزام واحد، طريق واحد” التي مكّنت من رفع الحجم المُتَوَقَّع للتبادل التجاري بين روسيا والصين من مائة مليار دولارا سنة 2018 إلى مستوى 200 مليار دولار بحلول نهاية العام2023، فضلا عن العمل على زيادة إمدادات الغاز الطبيعي من روسيا إلى الصين، من خلال توقيع اتفاقيات جديدة…
النسوية النّخبَوية نقيض المُساواة الحقيقية
ساهمت المناضلات الشيوعيات، منذ بدايات القرن العشرين، في تأسيس الحركة النّسوية بأوروبا وأمريكا الشمالية، وساهمت النساء العاملات والنساء المُضْرِبات في تأسيس الحركة العُمّالية الثّورية، منتصف القرن التّاسع عشر، وتأسيس الأممية الأولى (1864 – 1876)، غير أن الرأسمالية تمكّنت من السيطرة على قسم من الحركات النّسوية الحديثة التي أصبحت لا تعير اهتمامًا للنساء العاملات والفقيرات، بل تميّزت الحركة النّسوية (في معظمها) بغيابها التّام عن نضالات العاملين والعاملات، سواء بأمريكا الشمالية أو أوروبا، بل تعمل بعض المنظمات النسائية على التّركيز على مسائل النّوع (الجنْدَر) وما يُسمى “سياسات المُساواة”، وفَصْل الحركة النسائية عن المنظمات العمّالية التي تُطالب بتثبيت العُمّال المؤقّتين (وتشكل النساء نسبة مرتفعة منهم) وزيادة الرواتب وتحسين ظروف العمل والوقاية والرعاية الصحية، ما أدّى إلى غياب الحركة النّسوية عن النساء العاملات، بل تمكّنت الرأسمالية من احتواء العديد من المُناضلات والجمعيات وإدماجهن في المؤسّسات الرّسمية، في مناصب السلطة، وزيادة عدد النّساء في مجالس إدارة الشركات وفي قوات الأمن أو في القضاء، ولا يعني ذلك إن النساء أصبحن يتمتّعْنَ بحماية أفضل ضد عدم المساواة أو ضد الأيديولوجية الأبوية، أو ضدّ العنف القائم على النوع الاجتماعي…
أكّدت إضرابات السنَتَيْن الماضِيَتَيْن بأوروبا وأمريكا الشمالية إن النّسْوِيّة لا تعني تحرير المرأة بل تصالح قِسْم من الحركة النّسوية مع المُؤَسّسات الرّسمية التي تُدير وتُنَظِّمُ أُسُسَ اضطهاد المرأة، والمرأة العاملة بشكل خاص، فرغم كثرة الحديث عن المساواة بين المرأة والرجل، لم يتم اتخاذ تدابير تُنْصِف النّساء الفقيرات والعاملات في قطاعات الصناعة والفلاحة والخَدَمات، بل أصبحت الشعارات النّسوية وسيلة دعائية (إشهارية) لتسويق السلع، ومنها السّلع الفاخرة، مرتفعة الثّمن، ما يُفْرِغُ مُصْطلحات النّسوية والمُساواة من محتواها، وتحويلها إلى وسيلة لزيادة أرباح الشركات، وفق منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي يعترف أحد تقاريرها “إن المساواة هي أحد عوامل النمو، وزيادة كفاءة الشركات”، كما تُبَيِّنُ تقارير شركة الاستشارات “ماكينزي” إن الشركات التي تُدْرِجُ المساواة ضمن مخططاتها وحملاتها الإشهارية هي الأكثر ربحية، وتُعتَبَرُ هذه التّقارير جُزْءًا من “تسليع المساواة” ولا تُعَبِّرُ عن قناعة بضرورة المُساواة كحق أساسي وكمبدأ سياسي واقتصادي واجتماعي فالمساواة الحقيقية والفِعْلِيّة ليست مشروطة بالأداء الاقتصادي الذي ينْتَكِسُ ويتراجع خلال فترة الأَزَمات.
من جهة أخرى تكثّف حضور المنظمات المُسمّاة “غير حكومية” في بلدان “الجنوب” وفي البلدان التي تتعرض إلى الإحتلال والعدوان الإمبريالي، لتطرح هذه المنظمات برامج بعيدة عن كفاح الشعوب (ونصفها من النساء) من أجل التّحرّر، وتتضمن هذه البرامج دورات التركيز على “التدريب على القيادة والثقة بالنفس والتحدث أمام الجمهور…” ودورات أخرى في مجال “ريادة الأعمال وتأسيس الشركات الناشئة والمشاريع منتهاية الصّغر” بقروض من البنك العالمي وفروعه والمؤسسات المالية المتعاقدة معه وشريكته في استغلال ثروات الشعوب.
تدّعي العديد من الشركات العابرة للقارات، مثل مايكروسوفت وبوبليسيس وأوبر وماكدونالدز، وبعض المؤسسات المالية والمصارف الكبرى تطبيق المُساواة، من خلال اتفاقيات مهنية تُمَكّن بعض النّساء الأفراد من الإرتقاء بعض الدّرجات في السّلّم الطّبقي، وتُمكّن هذه الشركات من الحصول على علامات جَيِّدة في مؤشر المساواة الخاص بالشركات، وهذا لا يمنع من تعرّض النساء للميز، خصوصًا أثناء فترات الحيض أو الحمل، ومن التّعرّض للتّحرّش الجنسي والطّرد التّعسُّفي…
يندرج إجراء بعض الشركات الكبرى في باب “المساواة النخبوية” المتمثلة في تدابير تجعل المُساواة أو التكافؤ مُقتصرًا على من هن في القمّة، دون تغييرات هيكلية تضع حدًّا للهشاشة والعمل بدوام جزئي وبرواتب مُتَدَنِّيَة، ودون تغيير وضع النساء الريفيات الكادحات.
لقد وعدت الشركات العابرة للقارات بمكافحة التمييز وبمشاركة النساء في عملية صنع القرار، أو ما يُسمى “التمكين”، وهو مُصطلح فضفاض، لكن جوهَرَهُ لا يتجاوز تحقيق بعض الطموحات الفردية وحصول بعض النساء (فُرادى) على المزيد من السلطة في إدارة المُؤَسّسات والشّركات، ما يدعم تيارات “النسوية النيوليبرالية” بعيدًا عن نضالات النساء الكادحات والفقيرات من أجل تحسين ظروف الحياة والمعيشة.
التعليقات مغلقة.