هذه المرّة، سنحتاج في باب طوفان الصور إلى سوزان سونتاغ ورولان بارت وجيل دولوز في آنٍ واحد؛ أولئك الذين عملوا على تفكيك الصورة وحراثة طبقاتها بوصفها مرجعاً لتوثيق الذاكرة، سواء أكانت أرشيفاً شخصياً أم تثبيتاً للحظة جمعية.
لكننا في لحظة غزة الملتهبة، سيصعب علينا تأطير صورة محددة كمرجعية نهائية للعنف الإسرائيلي وقوة الانتهاك ومحاولات المحو المتكرّر للمكان، فهذا المستطيل الجغرافي الذي يبدو كما لو أنه سفينة جانحة على شاطئ البحر، أربك المشهد العالمي في الإرسال والتلقي، ذلك أننا أمام صورة متحركة لا تخضع لتظهير نهائي، فغرفة تحميض 7 تشرين الأول/أكتوبر وما بعده لا تتوقف عن بثّ صور أكثر عنفاً.
وتالياً، نحن أمام مقترحات متتالية تضعنا في مقام الحيرة في توقيع هذه الصورة أو تلك، فلكلّ منّا صورته التي لا تغادر المخيّلة وما يقع في ألبوم التاريخ، وكأن عصابات الهاغاناه استيقظت ثانية لجهة التهجير ومحو المكان الفلسطيني، ولكن بتقنيات الصورة الملوّنة، لا الأبيض والأسود الذي وسم أرشيف النكبة الأولى.
هنا لا نحتاج إلى تقنية الفوتوشوب في تزييف الصورة الأصلية، ذلك أن ما هو مرئي -وعلى الهواء مباشرة- يتدفق بغزارة كما الدم الفلسطيني تماماً، يومض ويختفي، إلا أن ما لم تستطع الصورة تسجيله ببراعة هو كيفية المقارنة بين صنبور الدم المتدفق من جهة، وشحّ صنابير المياه من جهةٍ ثانية.
في قافلة المساعدات المتأخرة بما يكفي لموتى إضافيين، سيلفتنا أن قائمة المعونات الأممية تشتمل على توريد الأكفان! وهذه لفتة إنسانية مبهرة، فالفلسطيني الجيّد وفقاً لمعايير الأمم المتحضّرة هو الذي ينتهي بكفن، إذ لا يجوز دفنه عارياً، وفقاً لشعائر دفن الموتى.
هكذا ضاقت مساحة الأبنية المهدّمة بقوة البطش، وازداد حجم المقابر، في محرقة أكثر فتكاً من أفران الغاز النازية التي تقوم عليها أسطورة الهولوكوست تاريخياً.
سنتذكّر هنا صورة الطفلة الفيتنامية فان ثي كيم فوك وهي تركض بأقصى سرعتها في شارع رئيسي، عارية بيدين مفتوحتين في اتجاه الكاميرا، بعدما تعرضت لقذيفة نابالم أميركية أحرقت ثيابها وجلدها، فالتقط صورتها المراسل الصحافي الأميركي نك يوت، ونشرت في صدر الصفحة الأولى من صحيفة “نيويورك تايمز” كدمغة إدانة للهمجية الأميركية. الآن هناك مئات الصور المشابهة من جحيم غزة، والتي يصعب اختزالها كنموذج للإجرام الإسرائيلي.
هذه المرّة أيضاً، سنفتقد صوت الروائي الراحل خوسيه ساراماغو الذي صُدم أثناء زيارته فلسطين قبل سنوات من حجم الجحيم الذي يعيشه الفلسطينيون في أرضهم المحاصرة من كل الجهات، فاختزل المشهد بأنه “إبادة” حقيقية، واستغرب قوة “العمى” التي تحجب الصورة الحقيقية لمكابدات الفلسطينيين عن الضمير الإنساني في غيبوبته المتواطئة مع سرديات العدو غير عابئ بما سيخسره، إذ رأى أن العالم يسير إلى الهاوية “كمجموعة انتحارية من القوارض”.
واللافت في هذه اللحظة الملتهبة انتشار ظاهرة “المثقف الخلد”؛ هذا الكائن الأعمى بصراً وبصيرة، خشية انهيار صورته المُتوَهمة لدى الآخر، ففلسطين بالنسبة إليه هي مجرد ماكيت مهترئ لا يصلح للإعاشة والتصدير والترجمة!
التعليقات مغلقة.