البرامج الحوارية والفضاء العام / د. حياة الحويك عطية
د. حياة الحويك عطية ( لبنان ) الأربعاء 12/10/2016 م …
لا تستطيع الأفكار أن تصبح موضوع جدل نقدي وموضوعي مدعم طالما أن المشاهد لا يستطيع تجميد الكلام، وقفه بشكل ملموس، مدة تكفي لتحليله، لمقارنته، ولنقده. وعليه يصبح خاضعاً لسلطة شبه سحرية لا يحمل منها إلا ذاكرة قصيرة يفلت منها العقلاني ويثبت العاطفي.
البرامج الحوارية ظاهرة غير متوفرة في الفضاء العام، فهل ستساهم في تشكيله؟ سؤال إشكالي طرحته عنواناً لفصل في كتابي الصادر بالفرنسية عام 2011 وبالعربية عام 2012، بشأن الفضائيات العربية.
يومها كان الأمل ما يزال حياً بتشكل الفضاء العام ومن ثم الرأي العام، بالمعنى العلمي لهذين المصطلحين. حيث أن توفر الجدل العام هو الشرط الأساسي لذلك. فهو الذي يفرض المحاججة المنطقية المسندة فيوفر للمتلقي بناء العقل النقدي والخيار الفردي الحر، ما يؤدي في الممارسة المتصلة الى بناء انتماءات عقلانية حرة تتسق في تيارات فكرية عامة تضمن وجود الفرد الحر والدولة الحرة .
اليوم أجدني أتساءل ما إذا كان الأمل بتشكل الفضاء العام ترفاً فكرياً، بعد أن غاب أبسط تجليات العقل النقدي والانتماءات الحرة وتسيّدت الإنتماءات الفئوية حد الالغاء والتكفير والذبح؟
هل ما تزال أمام وسائل الاعلام فرصة للمساهمة في عملية تغيير لا تعني الدم والإقصاء، وإنما تعني تغيير العقليات باتجاه طرح الحقائق وإثارة الجدل وتوفير حرية الاختيار؟
نظرياً يفترض أن تكون البرامج الحوارية مجالاً لإثارة جدليات فكرية منتجة، تبلور الاختلاف وتعقلنه وتقننه وصولاً إلى تشكيل فضاء عام يتمكن الفرد فيه من ممارسة خياراته الحرة، ومن المساهمة في تشكيل الاتجاهات الفكرية بما يمليه دوره كمواطن. ولكن متابعة معظم هذه البرامج على الفضائيات العربية تقود إلى تخوف واقعي من كونها لا تشكل الا فضاء عاماً افتراضياً، لا تتوفر فيه شروط جدلية حقيقية، ولا عقلانية نقدية تتجاوز الغرائز والمسلمات العاطفية المسبقة. تخوف يعززه غياب هذه الشروط عن الساحة العامة، وغيابها تالياً عن ساحة المحطات المرسلة نفسها، التي باتت جزءاً من الاصطفاف اللاعقلاني الملغي للآخر.
ولكن، هل باتت المحطات كذلك أم أنها كذلك منذ تأسيسها، بحيث شكل إطلاقها بحد ذاته آلية عولمية حديثة لنشر التشويش؟
في مرحلة ما، بدا أن ثمة مسافة بين الشاشات التي تحاول أن تقدم الرأي والرأي الآخر وبين الساحات العامة التي لا توفر ذلك. لكن المتابع اليقظ لتلك الفترة لا بد وأن يجد فيها بذور الفترة الحالية. لقد شكلت تلك المرحلة (ما بين نشوء الفضائيات وبداية الحراك العربي في تونس) مرحلة أيهام ليبرالي لمصلحة أنظمة غير ديمقراطية وغير وطنية وغير مدنية، أدت إلى ظاهرة استحواذ على مفهوم الحرية واكتساب صدقية عريضة. هذه الصدقية عززها عطش الإنسان العربي إلى أي نافذة تفتح له للصراخ وإطلاق المكبوتات، كما للتعبيرعن الرأي بشأن القضايا الوطنية والاجتماعية. هذا الاستحواذ مكّن هذه الشاشات من التلاعب بديناميكية التغيير في المجتمعات العربية لحرف هذه العملية عن أهدافها الديمقراطية الحقيقية، بما فيها من تحرر لا ينفصل عن الأهداف القومية في مواجهة مشروع الهيمنة الصهيو–أميركي، وتوجيه المجتمعات المستهدفة نحو فوضى ترضي المكبوت وتستحضر كل عناصر التدمير الذاتي في خدمة المشروع المذكور. لم ينتبه الكثيرون يومها إلى خطورة هذا الاستحواذ وحتى إلى خطورة وسائل الاتصال التي جعلت منها العولمة الأميركية واحدة من قوائمها الثلاث. حتى إذا آن الأوان أُطلقت الغارات من حاملات الطائرات التلفزيونية، كان تاثيرها أكبر من تاثير السلاح.
في ما يخص البرامج تحديداً، لوحظ مثلاً ان قنوات كانت تحتل المواقع الأولى يومها قد ألغت جميع برامجها الحوارية، الى أن عادت مع بدء الأزمة السورية الى برامج للتحريض وإثارة ما هو فئوي وتجزيئي ومدمر، خاصة المذهبيات والاتنيات، وإلى لعب شيطاني على الغرائز وإلغاء لكل خطاب عقلاني. في سياق ذلك تضيع المهنية بأبسط قواعدها التي تبدأ من إلتزام المذيع التهذيب والحياد والإلتزام بدور مدير الحوار.
علماً بأن هذا الإلتزام لا يحدّ من التاثير بناء على قاعدتين في فن الاتصال: الاولى تتعلق بالإرسال والثانية بالتلقي. في الارسال، يستطيع القائم بالإتصال أن يوجه رسالته عبر اختياره لضيوفه، وترتيبه لطرح مواضيعه، من دون أن يقع في فخ تنكب الانحياز على الشاشة. أما الثانية فاكثر خطورة، حيث أنه من المعروف أن هناك مدرستين للتلقي، مدرسة الإتصال الخطي المعروفة باسم شانون، التي تقول إن الرسالة تسير بشكل خطي من المرسل الى المتلقي، والمدرسة الاخرى التي نقضت الأولى نقضاً كاملاً وقالت إن المتلقي يعيد صياغة الرسالة ويحولها كما يريد بناء على معايير فردية وجمعية، سوسيولوجية، أنتروبولوجية، سياسية، ثقافية الخ… وفي كلا الحالين تبدو صياغة البرامج الحوارية بالغة الخطورة، لأن ما يبدو للشريحة المحدودة من المختصين أو ذوي المنطق النقدي، غير موضوعي وغير مهني ومرفوض ولو جزئياً، قد لا يبدو كذلك للعموم، خاصة إذا كانت استراتيجية المرسل قد درست كل الخصائص المذكورة للمتلقي وتوجهت إلى إثارته أو استفزازه أو إشعاره بالتهديد ومخاطبة مكبوتاته لا عقله. فاذا به يستسلم إلى ردات الفعل التي تعززها ثلاثة عوامل رئيسة:
أولها جو التوتر الجنوني الذي يتجاوز الفردي إلى شمولية المحيط بحسب تعبير هانس سيلي، هذا المحيط الذي يبدو قاب قوسين من الانفجار ضدك أنت شخصياً كمشاهد.
ثانيها طبيعة الشفوية نفسها التي يعتبر مارشال ماكلوهان أنها تؤدي الى “العودة الى القبلية”، فيما يفصله عالم الاتصال بول عطا الله بقوله:
“الشفوية لا تسمح للمجتمعات بأن تقف على مسافة من نفسها، لا تستطيع الأفكار أن تصبح موضوع جدل نقدي وموضوعي مدعم طالما أن المشاهد لا يستطيع تجميد الكلام، وقفه بشكل ملموس، مدة تكفي لتحليله، لمقارنته، ولنقده. وعليه يصبح خاضعا لسلطة شبه سحرية لا يحمل منها إلا ذاكرة قصيرة يفلت منها العقلاني ويثبت العاطفي”.
يزيد على ذلك وجود الشريط المتحرك أسفل الشاشة خلال الحوار، ما يشتتت التركيز أكثر.
أما ثالثها فهو تبعية معظم القنوات الفضائية، بسبب التمويل والملكية الى دوائر ودول تنفذ مشروعاً يعي جيداً أهمية الإعلام ويخطط له بما يضمن تبعية الجمهور اللاعقلانية.
من دون أن تغفل هذه القراءة بعض النماذج الإيجابية التي تسمح لنا بالمقارنة وبالسؤال: هل ما تزال هناك من فرصة للبرامج الحوارية اليوم للخروج من هذه الدائرة إلى إطلاق جدليات عامة تصنع فضاءً عاماً؟
هذا ما سنتناوله تطبيقياً في مقال لاحق.
التعليقات مغلقة.