الإزاحة والشتات الفلسطيني في «أرض البرتقال الحزين» لغسان كنفاني / سعاد العنزي

سعاد العنزي ( الكويت ) – الثلاثاء 07/11/2023 م …




يقول غسان كنفاني: «لقد خدعتنا البلاغات ثم خدعتنا الحقيقة بكل مرارتها… وأخذ الوجوم يعود إلى الوجوه من جديد…». إن خصوصية الأدب الفلسطيني تتضح معالمها في أدب مرحلة ما بعد النكبة الفلسطينية؛ إذْ، كما هو معروف، كان الأدبُ الفلسطيني قبل النكبة يتشابه كثيراً مع الأدب في أجزاء أخرى من العالم الناطق بالعربية من حيث الموضوعات التي ركز عليها، والتي عكست عناصر الثقافة والدين واللغة المشتركة. يؤكد هذا الرأيَ الروائي الفلسطيني غسان كنفاني، وهو أحد رواد الأدب الفلسطيني: «إن الأدبَ الفلسطيني، وصولاً إلى هذه النكسة المأساوية، كان جزءاً من التيار الرئيس للحركة الأدبية العربية التي ازدهرت إبان النصف الأول من القرن. لقد حصل على مصادره من الكتاب المصريين والسوريين واللبنانيين، الذين قادوا الحركة الأدبية آنذاك، بالإضافة إلى تأثره بهم». إنما، بعد عام 1948، وُلدت حركة جديدة في الأدب العربي تأثرت بشدة بالكتاب الفلسطينيين وغيرهم. يسلط كنفاني الضوء أيضاً على المسألة الشائكة المتمثلة في المركز مقابل الهامش في الأدب العربي، إذ يُنظر إلى الكتاب الذين ينتمون إلى ثقافات معينة، ولاسيما مصرَ ولبنانَ، بأنهم متفوقون من الناحية الأدبية.
يقدم خالد مطاوع الأسباب الداعية إلى عد الأدب الفلسطيني أدباً ثانوياً بالمعنى الإيجابي الذي يتبناه الفيلسوفان الفرنسيان دولوز وغوتاري Deleuze and Guattari. إنهما يجادلان في أن أدبَ الأقليات المكتوب من الهوامش سياسي، بل هو ثوري، ويتحدث مؤلفوه باسم الوعي القومي، وهم أفراد يتحدثون بصوت جماعي، أو حسب تعبيرهما: «يصبح الاهتمام الفردي، نتيجةً لذلك، ضرورياً للغاية، ولا غنى عنه، مضخماً، بسبب وجود قصة كاملة أخرى تتذبذب فيه».

لا شك في أن تجربة الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني بكاملها، وفق أدب المقاومة الفلسطيني، هي فعل مقاومة بالكامل وتعرية للاحتلال الإسرائيلي، فكانت حياته وكتاباته فعل مقاومة، واغتياله حدث مهم في الذاكرة الفلسطينية غير قابل للمحو والنسيان. يطرح إدوارد سعيد مثالاً على تحول النثر الأدبي العربي بعد النكبة، أقصوصة «رجال في الشمس» لغسان كنفاني، بحثاً عن دليل على تحول المشاهد الأدبية من كونها محدودة في تصوير المشكلة، أو إثبات الوجود التاريخي إلى تحقيق المعاصرة في أكثر بُناها إشكاليةً. ويشير سعيد إلى أنه، ومن سخرية القدر، بينما سعى الرجال الثلاثة إلى مغادرة فلسطين للعيش في الكويت، فقد تُركوا في نهاية الرواية القصيرة ليموتوا. يمكن قراءة المشهد، في هذه الحالة، كعمل تحريضي: «إن المشهد بالنسبة إلى كنفاني، على نحو أساس، هو المواءمة التي يتم منحها للكاتب من قِبل التقليد الروائي العام، إن ما يستخدمه هو لأجل تقديم هذا الفعل، كنتيجة لذلك، هو أداة، بمعزل عن التقليد الذي يمكن أن يعدها من المسلمات، تعلق على نحو ساخر على النضال البدائي الذي يواجه الفلسطيني».
تعد رواية «رجال في الشمس» رائعة من روائعه، شرح فيها تأثير النكبة في حياة ثلاثة أجيال متعاقبة من الفلسطينيين، كانوا هاربين من الجحيم إلى جحيم آخر ينتظرهم، من الموت استشهاداً إلى الموت مصادفةً وهم يبحثون عن سبيل للحياة. تعرض النوفيلا القصيرة حادثة هرب ثلاثة رجال إلى الكويت، من ثلاثة أجيال متعاقبة، تمثل أجيال النكبة الفلسطينية، يعمل على تهريبهم رجل يدعى أبو الخيزران في خزان مياه، وهو ليس غير رمز لأرض فلسطين. ربما يمثل أبو الخيزران السلطة الفلسطينية الفاسدة. يخبر أبو الخيزران الرجال الثلاثة بعدم الطرق على جدار خزان المياه عند المرور عبر الحدود كي لا ينكشف أمرهم. ولَما مروا عبر الحدود اختنقوا بسبب انقطاع الهواء عنهم، ولم يُقدموا على الطرق على جدار الخزان، فماتوا نتيجة لذلك. حينما يعلم أبو الخيزران بما جرى، يتساءل لماذا لم يطرقوا على جدار الخزان، بكل بساطة، وبصورة نمطية. حقيقةً، مَن يقرأ أعمال غسان كنفاني، يشعر كأنها تتحدث إلى الأجيال كلها، فتخاطبنا اليوم مثلما كانت تخاطب أبناء أمس، وكما تخاطب قراء المستقبل. إنها أعمال ربما تكون سبقت زمانها، أو نحن مَن تأخر عنها كثيراً. كلما قرأت نصاً من نصوص المجموعة القصصية، رأيتُ تصوراً أحسبه جديداً، فإذا بغسان كنفاني قد صاغه منذ زمن، إنه أديب سبق زمانه الثقافي كثيراً، وعبر عن خيباتنا المتوالية بدقة متناهية، ورحل قبل الأوان بأوان.

الوجع الفلسطيني

إن المتصفح لمجموعة «أرض البرتقال الحزين» للروائي الفلسطيني غسان كنفاني، يجد تفاصيل الوجع الفلسطيني مسيطرة على المكان والزمان وعالم الأشياء، وتفاصيل التغريبة الفلسطينية تحل في كل مكان. في كل قصة، هناك رحيل من مكان إلى مكان، بحثاً عن الأمن والأمان، وللوقوف على أرض ثابتة في عالم متغير. إنه في أغلب القصص يصور حالة الفرار الجماعي من مكان غير آمن إلى مكان أشد قسوةً ومرارةً من المكان الذي سبقه. في قصصه ورواياته، تجد ملامح النكبة تكسو كامل تفاصيل حياة الأجيال الفلسطينية من النساء والرجال؛ أم سعد، وأبطال «ثلاث أوراق من فلسطين». وفي قصة أخرى ذات مغزى كبير، يواجه الجندي غولاً في الصحراء فيقتله الغول، ويدفنه في الوادي، ثم بعد ذلك يخرج مسخاً. يذكرنا بفكرة أن الحق لا يموت، فلا بد أن يخرج مَن يطالب به ولو بعد حين. ثم نصل إلى سارد قصة «أرض البرتقال الحزين» الطفل الذي ابتلع مرارة العالم وفهمها قبل الأوان. إن هذا الفقد، والإزاحة من الوطن، كما اتضح في القصة، ليست حالة طارئة واستثنائية في الأدب الفلسطيني، بل هي موجودة في كل بيت فلسطيني، فغسان كنفاني عاش تفاصيلَ مشابهة لما عاشه بطل «أرض البرتقال الحزين» بعد أن انتقل مع أسرته إلى لبنان، ومن ثم عمل في الكويت. صورة الطفولة وهي تفقد المكان تمثل جزءاً مهماً من ذاكرة الكتاب الفلسطينيين، تمثلت في قصة «أرض البرتقال الحزين».

مَن يقرأ أعمال غسان كنفاني، يشعر كأنها تتحدث إلى الأجيال كلها، فتخاطبنا اليوم مثلما كانت تخاطب أبناء أمس، وكما تخاطب قراء المستقبل. إنها أعمال ربما تكون سبقت زمانها، أو نحن مَن تأخر عنها كثيراً. كلما قرأت نصاً من نصوص المجموعة القصصية، رأيتُ تصوراً أحسبه جديداً، فإذا بغسان كنفاني قد صاغه منذ زمن، إنه أديب سبق زمانه الثقافي كثيراً، وعبر عن خيباتنا المتوالية بدقة متناهية، ورحل قبل الأوان بأوان.

إنه ينطلق في هذه القصة من وضعية مماثلة لمجموعة من الكتاب الفلسطينيين، مثل إدوارد سعيد في مذكراته «خارج المكان» ومحمود درويش «يوميات الحزن العادي» ومريد البرغوثي «رأيت رام الله»… إن نقطة البداية في رواية سعيد للصدمة هي إدراكه الملامح الصادمة في حياته الأسرية، مستخدماً تقنية الارتجاع الفني في مذكراته، إذ استرجع الأحداث التي كان قد شهدها طفلاً، ولم يكُ قادراً وقتها على استيعابها، حتى أصبح قادراً على ذلك في حياته اللاحقة، مع الإدراك المتأخر لدى البالغين على إدراك أهمية هذه الأحداث، والنظر إليها بأنها مظاهر الصدمة الفلسطينية المستمرة. في العموم، الأحداث الصادمة غالباً ما تُروى بعد فترة من الزمن، وهذا ما حدث مع رواية سعيد التي بدأ يسردها بعد ثلاثين عاماً من النكبة تقريباً.
يربط سعيد صدمته الشخصية بالصدمة الجمعية للفلسطينيين في المقام الأول. أحد المؤشرات الواضحة على ذلك هو ربط سعيد تاريخ ميلاده بتاريخ وعد بلفور الشهير، الذي أكد دعم الحكومة البريطانية إنشاء «وطن قومي» للشعب اليهودي في فلسطين، مشيراً إليه بِـ«أحلك أيام تاريخنا سواداً». إنما، على نحو مثير للاهتمام، لا يوجد أي تطابق في الحقيقة بين تاريخ ميلاد سعيد، 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1935، والتاريخ الذي كتب فيه بلفور إلى لورد روتشيل، زعيم الجالية اليهودية البريطانية في ذلك الوقت، 7 نوفمبر 1917، ما يُظهر أن سعيداً ربما كان يفكر في مصطلحات أكثر رمزية حول دخوله الشخصي في العالم، وفي المصير التاريخي لفلسطين.

المصير التاريخي

يقيم سعيد روابط إضافية بين قصته الشخصية كفلسطيني، والاكتساح الواسع للأحداث الصادمة في التاريخ العربي، بما فيها الهزائم السياسية الكبرى، مثل نكبة 1948، وحرب الأيام الستة عام 1967… وحكاية محاولات أسرته المتكررة في السعي إلى تحقيق الاستقرار والأمن، تقدم أيضاً تفكيراً عميقاً أثر الحرب في الحياة، في فترة كانت غاية في الاضطراب في تاريخ الشرق الأوسط. يشير سعيد إلى أن الصراع كان الستار الخلفي الدائم لطفولته ومراهقته، بدءاً من الحرب العالمية الثانية، وأحداث 1948، وتأسيس كيان إسرائيل، والثورة المصرية، وسقوط الملك فاروق عام 1952، وفي السنة عينها الانقلاب على الحكم في لبنان، الذي أصبح معروفاً باسم ثورة (الماورد). وهذا ما جعله يشعر بأن جميع أفراد أسرته في خطر دائم، وهذه الذكرى بقيت في مذكرات سعيد عن تلك الفترة.
بالعودة إلى قصة «أرض البرتقال الحزين» تعتمد القصة على بنية الحدث الصادم المأساوي، حيث الصدمة أول ما تواجه القارئ، بالهرب من المدينة وسط ذهول وصدمة السارد، الطفل وبقية الأبطال، حدث الرحيل الفاجع حيث يتطاير الأطفال مع بقية الأشياء، بخلاف الصور الطبيعية المقدمة في أي مشهد من مشاهد الرحيل للسفر والنزهة. منذ البداية، تقول لنا القصة إن الأطفال هم المحاربون والرقم الخاسر في هذه المعادلة الظالمة من خلال أكثر من حادثة تبدأ في حذفهم مثل بقية المتاع، ومن ثم تجويعهم وصولاً إلى محاولة قتلهم في لحظة يأس وخيبة أمل.
إن الذهول والصدمة لم يكونا مُرافقين للأطفال فحسب، بل كانا مرافقين للجميع: الأب، الأم، والأطفال. ظل الأب مثل بقية الفلسطينيين مقتنعاً بأنهم في معركة مؤقتة، وسوف يأتي الجنود العرب لتحريرهم، وما إن أتى الجنود، تبدو مظاهر خيبة الأمل على وجه الأب، ويبدأ يستوعب أنه حقاً قد فقد الوطن: «وبدأ والدك يجد صعوبة هائلة في التحدث عن فلسطين، وفي التكلم عن الماضي السعيد في بياراته، وفي بيوته…». يظهر أن الغضب والصراخ والعنف اللغوي، وكذلك الجسدي، كانت التعبير الوحيد الذي رافق الأب. حدث التهجير. هذا يظهر في أحد أهم أعمال درويش، وهو «يوميَات الحزن العادي» وهو سيرة ذاتية نثرية ـ شعرية، تسجل كثيراً من التفاصيل عن حياته الأسرية المبكرة، وتلامس تجارب فلسطينية أُخَر، مثل التهجير والصدمة في هذا العمل، الذي كتبه إبان فترته الشعرية الثانية، ونشر في بيروت 1973. يتذكر قصة تهجير أسرته من قريتهم، ويرثي مرارة اضطرارهم إلى مغادرة منزلهم، ولاسيما بالنظر إلى جده، وإلى الأب في قصة كنفاني. أكثر جوانب النكبة صدمة لأسرته ولجميع الفلسطينيين كان الاعتراف النهائي باستحالة العودة إلى منازلهم أو قراهم. في سلسلة من الارتجاع الفني يصف درويش الصدمة التي عانى منها جده. «لـما أدرك جدي أن وجودنا في لبنان ليس سفراً ولا نزهة، وأن الحرب انتهت بسقوط كل شيء، أدرك أن الكروم التي غرسها يأكلها اليهود، وهي تتحول في يده إلى بطاقة إغاثة، بدأ يشعر أن الخروج خطأ. صار يعي الغربة والنفي، فلجأ إلى استرداد الآمال المعلقة على الجيوش [العربية] بضرورة استرداد انتمائه الواقعي إلى أرضه بحضور عملي. الصدمة التي خلفتها الهزيمة بسبب الاعتماد على الآخرين والعدل كسلاح الفرد الوحيد».

رأيت رام الله

في مذكراته شديدة الوضوح، «رأيتُ رام الله» (1997) ينقل مريد البرغوثي مرارة وألم كونه فلسطينياً في المنفى، من خلال الكشف عن تفاصيل الحيوات السياسية والاجتماعية والنفسية والاقتصادية لأبناء وطنه أثناء كتابته عن تجاربه الخاصة من وجهة نظره الشخصية. كما يسلط الضوء على مشكلات أُخَر نتجت عن أن تكون فلسطينياً، بما في ذلك الإزاحة، ونفي الشتات، والانفصال عن أحبائهم. يشير العنوان إلى رغبة البرغوثي السابقة في زيارة رام الله، قبل زيارته لها بعد ثلاثين عاماً، وهو ما يمثل رمزاً لـ«تحقيق المستحيل» لأن هذا في الواقع لن يحدث، نظراً لأن منح الإذن من قِبل السلطات الإسرائيلية أمرٌ نادر الحدوث. ويوضح هذا أيضاً خصوصية الوضع الفلسطيني الذي تتخذ فيه زيارة مدينة تقع على مسافة جغرافية قصيرة فقط أهمية رمزية لرحلة ملحمية إلى موقع أسطوري ممتلئ بالرغبة والتوق. إن الفقد والصدمة، صدمة الإزاحة، والتهجير من الوطن الأم، تتضح في قصة «أرض البرتقال الحزين» التي تحمل عنوان المجموعة القصصية، يقدم لنا السارد عدداً من المظاهر الناتجة عن الصدمة، صدمة الحرب، ومرارة الاحتلال، وخيبة الأمل، وضياع الوطن إلى الأبد. بالإضافة إلى لحظة الرحيل الصادمة، نجد عدداً من التفاصيل التي امتلأ بها فضاء النص:

اغتيال الطفولة

إن الأطفال هنا، وهم رمز للمستقبل الفلسطيني، عانوا معاناة متعددة الأبعاد من الجوع الذي مسخهم تماماً إلى أن تحولوا إلى صورة ثانية لا تعرف ملامحهم. إضافة إلى هذا، تعرض الأطفال لخطر الموت، حيث راودت الأب رغبة مجنونة في قتل الأبناء والانتهاء من هذه المعاناة لعدم قدرته على إطعامهم. في حياة جديدة تغيرت فيها منظومة الأخلاق والقيم، أدرك السارد الطفل أن طفولتهم قد سُرقت منهم، وبدؤوا يتعرفون واقعاً جديداً أكبر منهم، فالوعي الحاد سرق براءتهم ولحظتهم الزمنية، مثلما يوضح السارد: «كنا نحن نشكل جدران المأساة الضخمة التي تملك حياته الجديدة، وكنا نحن أيضاً أولئك الملاعين الذين يكتشفون بسهولة شديدة أن الصعود إلى الجبل في الصباح الباكر، بناءً على أوامر والدك، معناه إلهاؤنا عن طلب الفطور».
البرتقال الحزين:
قدم دال البرتقال في القصة مدلولات عدة تضيف إيحاءات كثيرة تحيط بالنكبة الفلسطينية. ذُكر البرتقال في القصة في مواضع كثيرة، وشهدت تنويعات دلالية شكلت في نهاية المطاف معادلاً موضوعياً لمعاناة الفلسطينيين منذ بداية النكبة، وصولاً إلى نهاية القصة بحيث تشكل أيقونة البرتقالة الكلية معاناة الفلسطيني المصدوم، الذي يتحول من الامتلاء إلى الجفاف واليباس. كان الرجل ينظر إلى البرتقال، في بداية القصة، نظرة وداع حزين، تتفاوت ما بين اليأس والشك في العودة من جديد. أما البرتقالة التي احتفظ بها معه إلى النهاية، فمتحولة ومتبدلة، مثلما تبدلت به الحال. امرأة أخرى تأخذ برتقالة أخرى تريد أن تأكلها. إن البرتقال لن يبقى كما هو عليه، لأن الأيدي التي ترعاه وتسقيه وتهتم به قد تغيرت، مثله مثل المياه التي تعكرت في قصة أخرى وأصبحت ملوثة، إشارةً إلى اختلاط الشعب الفلسطيني باليهود رغماً عنه.
تبدأ القصة بمشهد البرتقال النضر الجميل: «وبدا لي ساعتذاك أن البرتقال شيء حبيب.. وأن هذه الحبات الكبيرة النظيفة هي شيء عزيز علينا». وتنتهي القصة إلى برتقالة جافة حزينة أخذها الأب معه من مدينته إلى منفاه الجديد. إن البرتقالة، هنا، ليست غير معادلٍ موضوعي للفلسطيني الذي بات يذبل ويجف مثل البرتقالة الجميلة في بداية القصة: «لقد دخلت الغرفة متسللاً كأنني المنبوذ… ولَما لامست نظراتي وجه أبيك يرتجف بغضب ذبيح.. رأيت في الوقت نفسه المسدس الأسود على الطاولة الواطئة.. وإلى جواره برتقالة.. وكانت البرتقالة جافة يابسة».

انحراف القيم

في منتصف القصة اتضح أن التحول في المكان والزمان صاحبه أيضاً تحول في القيم والمبادئ ومواقف الشخصيات، وأن الأخلاق تغيرت ولم تعد كما كانت عليه في الماضي. مثل موقف العم، إذْ يوضح السارد فكرة تحول الأخلاق عنده قائلاً: «لم يكن عمك يؤمن كثيراً بالأخلاق، لكنه عندما وجد نفسه على الرصيف، مثلنا، لم يعُد يؤمن إطلاقاً». في هذه القصة القصيرة «أرض البرتقال الحزين» استطاع كنفاني ببلاغة شديدة أن يرسمَ معالم الوجع الفلسطيني، مُبرزاً طبقات من العنف الواقع على المجتمع الفلسطيني، مثلما يحدد إدوارد سعيد: «عنف اقتلاعنا من جذورنا وتدمير مجتمعاتنا عام 1948، والعنف الذي أصابنا من قِبل أعدائنا، والعنف الذي نلحقه بالآخرين، أو، الأكثر فظاعة، العنف الذي ألحقه بعضُنا ببعض».

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.