في ذكرى انهيار جدار برلين (09/11/1989) / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الخميس 09/11/2023 م …




تَخَلَّت معظم الأحزاب التي كانت تُسَمَّى (اعتباطًا) “شيوعية” عن أسمائها وعناوينها وعن شعاراتها وتبرّأت عَلَنًا من الفكر الإشتراكي (كانت مُتَبَرِّئَةً منه دون أن تُجْهِرَ بِذلك) بمجرد انتهاء “المُساعدات” السوفييتية عند انهيار الإتحاد السوفيتي منذ فترة حكم “ميخائيل غورباتشيف” ثم “بوريس يلتسين” (الذي قَصَفَ البرلمان بالرّاجِمات لأنه لم يُؤَيِّدْ انقِلابَه المدعوم أمريكيًّا)، وغابت صور المنجل والمطرقة كما غاب شعار “ياعُمّال العالم اتحدوا” أو “ياعمال العالم وشعوبَهُ المُضْطَهَدَة اتّحِدُوا” من معظم العناوين الصحفية التي كانت ناطقة باسم أحزاب تَدَّعي الإشتراكية أو حتى الشيوعية، وأصبحت هذه الأحزاب ترفع شعارات تهدف إصلاح النظام الرّأسمالي (وهو ليس شرًّا كُلُّه كما تَدَّعِي) بدل العدالة والمساواة، وأصبحت برامج هذه الأحزاب (خصوصًا في أوروبا) برامج ليبرالية لا تطالب بإعادة النظر في أُسس الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، بل تؤمن بتغيير طفيف للسياسات عبر صناديق الإقتراع، وفق قوانين ومقاييس البرجوازية التي انتصرت إيديولوجيًّا – في هذه المرحلة على الأقل- ليرتفع عدد العاطلين والفقراء وعدد فاقدي المأوى والعاجزين عن تسديد ثمن العلاج وتكاليف دراسة أبنائهم… تُشير البيانات بشأن الثورة الإشتراكية في روسيا (ثم الإتحاد السوفييتي لاحِقًا) إلى انتقال اقتصاد الإتحاد السوفييتي خلال أقل من أربعة عقود من اقتصاد زراعي متخلف، حيث يعاني السكان من الجوع والفقر، إلى اقتصاد متطور ينافس الولايات المتحدة (حتى منتصف عقد الستينيات من القرن العشرين) في فترة قياسية (أقل من أربعة عقود) وتميز بمنحى العدالة في توزيع الثروة، ومجانية الخدمات الأساسية وفتح كافة المجالات أمام كافة مُكونات الشعب السوفييتي (التعليم والعلاج والنقل والسّكَن والثقافة والترفيه والرياضة…)، وباحتساب هذه الخدمات المجانية ضمن مستوى الدخل الفردي، يكون دخل الفرد مُوازيًا لدخل الفرد في أوروبا الغربية، مع فارقين جوهريين يتمثل أولهما في تراكم رأس المال في أوروبا بسبب سرقة ونهب ثروات شعوب افريقيا وآسيا، وأمريكا الجنوبية (بالنسبة لإسبانيا)، وثانيهما في توزيع الثروة بشكل يُضَيِّق من الهوة الطبقية في الإتحاد السوفييتي ويوسِّعُها في أوروبا الغربية واليابان وفي أمريكا الشمالية، ولم يعرف الإتحاد السوفييتي المضاربة العقارية، حيث يستهلك إيجار المسكن في المدن الأوروبية حوالي نصف الأجر، إضافة إلى نفقات الخدمات (الماء والكهرباء والصرف الصحي) والضرائب المَحَلِّية (الرسوم البلدية) ولم تهتم حكومات الدول الأوروبية ببناء مساكن شعبية منذ حوالي ثلاثة عقود، فيما حصل حوالي 100 مليون مواطن في مُدُنِ الإتحاد السوفييتي على مساكن جديدة خلال عقدين… لم يكن الإتحاد السوفييتي جَنَّةً، ولم يكن خاليًا من الشّوائب، ولكن لقياداته أعذارها: الحصار منذ انتصار الثورة ثم الحرب الأهلية المدعومة من القوى الإمبريالية، والتي أنتجت بدورها مجاعة دامت سنوات، ثم جاءت الحرب العالمية الثانية والإحتلال النّازي، بمباركة الإمبرياليتين الفرنسية والبريطانية، إضافة إلى الحرب الإيديولوجية المستمرة والدّعايات وترويج الأراجيف، وغير ذلك من العوامل التي ساهمت في تعطيل إنجاز المشروع الإشتراكي، ومع ذلك كان المشروع الإشتراكي ولا يزال يُمَثِّلُ “ثقافة الحياة”، والأمل في حياة أفضل، مقابل ثقافة الموت التي تنشرها الإمبريالية بحروبها على الجبهات العسكرية ضد بلدان وشعوب العالم، وعلى الجبهة الطبقية في الدّاخل، أو ما تُسَمِّيه المدرسة الإيديولوجية الإستعمارية الفرنسية “العدُو الدّاخلي”، وتم تطبيق “تعليمات” هذه المدرسة القمعية في تشيلي والأرجنتين وبلدان أمريكا الجنوبية الأخرى التي انقلب فيها الجيش على الحكومات المَدَنِيّة وكانت النتيجة قتل عشرات الآلاف من المواطنين، إضافة إلى أعداد لا تُحْصَى ممن “اختفوا” قَسْرِيًّا بعد اختطافهم ومن سُجِنُوا ومن استطاعوا الهروب بجلدهم نحو مختلف المنافي… الرأسمالية عدوة الإنسان وعدوة الطبيعة والمُحيط، وتَطَوُّرُها يُسبِّبُ الخراب، ولتجنب هذا الخراب وجب إرساء بديل ذي بُعْدٍ إنساني يهتم بحياة ورفاهة البشر، بدل تكديس الثروة بين أيدي قِلّة من الأشخاص أو الأُسَر أو الشركات، عبر تكثيف وتيرة استغلال العُمّال والمُنْتِجين…

انهار جدار “برلين” يوم التاسع من تشرين الثاني/نوفمبر 1989، لكن إعلان “إعادة توحيد ألمانيا” لم يتم سوى يوم الثالث من تشرين الأول/اكتوبر 1990، ولم يكن توحيدًا بين طرفَيْن بل هيمنة ألمانيا الغربية على الشرقية، وإدماجًا قَسْرِيًّا لسكان ألمانيا الشرقية الذين لا يمثلون سوى 20% من إجمالي سكان ألمانيا “الموحَّدَة”، من خلال ما سُمِّيَ رسميًّا “عقد اندماج الولايات الجديدة في جمهورية ألمانيا الاتحادية”، وفرض إلْحاق قسْري مع “تَشْرِيع” (قَوْنَنَة) المَيْز الإقتصادي وعدم المُساواة في الرواتب حيث يفرض القانون خَفْضَ دخل الأجير في ألمانيا الشرقية (أصبحت “الولايات الشرقية”) عن زميله في الغرب بنسبة 25% فيما فَقَد العديد من الموظفين والباحثين والعُلماء وظائفهم لصالح موظفين من الغرب يحصلون على منحة إضافية (منحة غُرْبَة، وكأنهم في بلد أجنبي)، وأدّى هذا التمْيِيز “الديمقراطي” الواضح إلى ارتفاع أَسْهُم التيارات اليمينية المُتطرِّفَة في الشرق التي استغلّت الوضع لتبسيط الخطاب السياسي وتحميل “المهاجرين” مسؤولية هذا “الإستعمار” وتَرَدِّي الوضع، واستغل اليمين المُتطرف عمق الفجوة التي ما فَتِئَتْ تَتَّسِعُ بين شطْري ألمانيا لتحويلها إلى أصوات ونتائج انتخابية لصالحه في الجزء الشرقي المحروم… يشمل الميز والهيمنة الغربية كافة مجالات الحياة فلا يوجد سوى أربعة مدراء من شرق البلاد على رأس مؤسسات صناعية مُدْرَجَة في بورصة “فرانكفورت” من إجمالي أكثر من مائتي مدير ولا يوجد في المحكمة الدستورية “الوِلائية” سوى قاضي ألماني شرقي واحد من إجمالي 16 قاضيًا، ولا يوجد أي عميد من ألمانيا الشرقية من إجمالي 89 من عمداء الجامعات، ويُهَيْمِنُ كبار الموظفين الغربيين على كافة مجالات الحياة في ألمانيا الشرقية، ولا يتجاوز نصيب سكان الشطر الشرقي من البلاد 7% من إجمالي ثلاثة ملايين وظيفة أُنْشِئت في ألمانيا، بينما كانت 87% من فُرَصِ العمل في الولايات الغربية… كانت الإنتخابات فرصة لارتفاع بعض الأصوات القليلة (منها أصوات باحثين اقتصاديين) بشأن موضوع غياب العدالة الاجتماعية وانتشار الفقر الذي يطال جزءاً هامًّا من المواطنين، منهم العمال وكبار السن الذين لا يحصلون على ما يكفي للعيش، ويدّعي الإئتلاف الحاكم بزعامة “أنغيلا ميركل” (منذ 2005) إن الألمان يعيشون أفضل عيشة في أوروبا، فيما ترد المعارضة أي الحزب الإشتراكي الديمقراطي (الذي ساهم في عهد المستشار “غيرهاردت شرودر” في تخريب الإقتصاد) إن البلد في حاجة إلى العدالة الإجتماعية… نشر الباحثان الاقتصاديان مانويلا باريتشيك وأندرياس بايشل نتائج بحث لهما دام أكثر من سنة كاملة، وشملت الدراسة الفترة ما بين 1950 و 2014، واستنتج الباحثان أن معدل الرواتب لم يرتفع سوى بنسبة 1,3% سنويا بين 1991 (سنة تنفيذ الوحدة بين شَطْرَيْ ألمانيا) وسنة 2014، ولم يستفد من النمو الإقتصادي سوى حوالي 40% من أصحاب الدخل المُتَدَنِّي، فيما ساءت حال 60% منهم، خصوصًا في الولايات الشرقية (ألمانيا الديمقراطية سابقًا) رغم العلاوات المالية والاجتماعية والتحويلات المالية الحكومية التي يحصل عليها أصحاب الدخل المحدود والعاطلون والأطفال والمتقاعدون، كما استنتجت الدراسة ارتفاع من بلغوا حافة الفقر خلال العقد الأخير -رغم النّمو الاقتصادي الإستثنائي- بفعل ارتفاع حالات البطالة والفقر في شرق البلد، بعد إقفال المصانع والشركات والمؤسسات وبسبب عدم المساواة في الدخل في البلد الموحد…

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.