باب الوادي الجزائرية مدينة شاهدة على أن المستوطن راحل لا محالة

الأردن العربي –  الأحد 12/11/2023 م …




لو يعود الزمان بالناس إلى آذار/مارس 1962 في حي باب الوادي الشهير بقلب العاصمة الجزائرية، سيشهدون وقائع درس تاريخي عظيم، يؤكد أن المستوطنين مهما استماتوا في الدفاع عن مواقعهم، سيرحلون لا محالة، فالأرض التي ليست لهم ستلفظهم وستعيدهم من حيث أتوا حتى ولو مكثوا فيها أكثر من مئة عام.

قد تكون قصة باب الوادي الجزائرية الأكثر تعبيرا في هذه الأيام التي تعيش فيها فلسطين تجديدا لنفس الانتفاضة من أجل تحرير الأرض بعد عملية «طوفان الأقصى» وما يصحب ذلك من هلع في قلوب المستوطنين الذين هرعوا للمطارات من أجل الهرب ومنهم من يستميت في البقاء معاكسا حركة التاريخ التي غالبا ما تعيد الحق لأصحابه.
في باب الوادي، وهي مدينة كبيرة بدأ المحتل الفرنسي في تشييدها قبالة البحر المتوسط في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أي بعد دخولهم الجزائر بنحو 20 سنة، كان يسكن غلاة الأقدام السوداء (تسمية المستوطنين في الجزائر) وهم خليط من الفرنسيين والإيطاليين والمالطيين والإسبان الذين وفدوا مع الاحتلال الفرنسي، وكانوا يشكلون الطبقة العاملة في المصانع والمناجم وأصحاب الحرف وصغار التجار، في وقت كان يقطن المعمرون من الفئات الغنية في أحياء راقية في مدينة الجزائر.
وبعد أن استطاع الثوار الجزائريون أن يحسموا المعركة على الأرض خلال سنوات الثورة التحريرية، اضطر الاستعمار الفرنسي للتفاوض سنة 1962 مع جبهة التحرير الوطني من أجل ترتيبات تقرير المصير والاستقلال، وهو ما أثمر التوقيع على اتفاقيات إيفيان الشهيرة التي أعقبها إعلان لوقف إطلاق النار تمهيدا لوضع ما اتفق عليه حيز التنفيذ، لكن هذا بقدر ما أقنع مستوطنين بنهاية وجودهم في الجزائر، بقدر ما جعل آخرين يرقصون رقصة الديك الأخيرة، لدرجة قتال حتى الجيش الفرنسي من أجل البقاء في الجزائر.
كان من بين هؤلاء المستميتين، سكان باب الوادي الذين انضموا بشكل واسع لمنظمة الجيش السري الإرهابية «أو أي آس» التي تشكلت من أجل الإبقاء على الجزائر فرنسية، خلافا للمسار التفاوضي الذي اضطر إليه الجنرال شارل دوغول بعد تأكده من استحالة بقاء فرنسا في الجزائر، ونفذت بذلك عمليات قتل وحشية في حق المدنيين الجزائريين الأبرياء لإجبار السلطات الفرنسية عن التراجع.

«معركة» باب الوادي

وضمن هذا السياق العام، تذكر المراجع التاريخية «معركة باب الوادي» وهي قد تكون المعركة الوحيدة في تاريخ الثورة الجزائرية التي لم تجر بين مجاهدي جبهة التحرير الوطني وبين قوات الجيش الفرنسي، بل جرت بين سكان باب الوادي من الأقدام السوداء والقوات الفرنسية، فحدث التقاتل بين الطرفين، مؤذنا بقرب نهاية الاستعمار الذي بدأ يأكل بعضه بعضا.
وفي الوقائع التي ما زالت عالقة في الأذهان لدى من عايشوا تلك الفترة، وجّه الجنرال راؤول سالان قائد منظمة الجيش السري، مباشرة بعد إعلان وقف إطلاق النار في 19 آذار/مارس 1962 خطابًا إذاعيًا إلى مناصري «الجزائر فرنسية» دعاهم فيه إلى التمرد على الدولة الفرنسية. وورد في ذلك النداء: «هنا راديو فرنسا، صوت الجزائر الفرنسية. أيها الفرنسيون، أيتها الفرنسيات، تم التوصل إلى وقف إطلاق النار يسلم للعدو أراض فرنسية. إنها جريمة ضد تاريخ أمتنا. أعطي أمرًا لمقاتلينا بمواجهة جميع مواقع العدو في المدن الكبرى للجزائر».
وفي تبعات ذلك، قُتل في 22 اذار/مارس 1962 18 من أفراد الدرك الفرنسي المتنقل في كمين. وفي اليوم الموالي أُعدم سبعة من المجندين الذين رفضوا تسليم أسلحتهم لمنظمة الجيش السري. وهكذا، أصبح الاشتباك بين الجيش الفرنسي ومنظمة الجيش السري أمرًا لا مفر منه، وجرى التفكير حتى في دك باب الوادي بالمدفعية عبر البحر.
في الأسبوعين التاليين، فرض الجيش الفرنسي حصارًا على الحي، بالإضافة إلى حظر التجوال، مع منح السكان ساعة واحدة في اليوم للتسوق. وتخلل ذلك إجراء عمليات تفتيش واسعة النطاق شملت 7000 شقة، بينما اعتقل 3000 شخص، وتم حجز ما يقرب من 700 مسدس وبندقية، وفق ما تذكر مراجع تاريخية.
وبعد حصار الجيش لباب الوادي، أطلقت منظمة الجيش السري نداءً للتظاهر جماهيريًا في 26 اذار/مارس إلى السكان الأوروبيين في الجزائر، بهدف كسر الحصار. انتهت هذه المظاهرة بمأساة بإطلاق النار في شارع إيزلي المعروف بشارع العربي بن مهيدي اليوم أسفر عن مقتل 62 شخصًا. وهكذا، كتب لمعركة باب الوادي أن تكون آخر المعارك وتشكل نقطة تحول في مسار الحرب، فقد أدت الهزيمة إلى تدهور شعبية منظمة الجيش السري الإرهابية، ما عجّل بانهيارها، لتتبخر أحلام المستوطنين إلى الأبد في البقاء.

رحيل المستوطنين

«يا لها من خسارة!» يقول أحد المستوطنين على موقع للأقدام السوداء وهي بالعشرات على الإنترنت، متحدثا سنوات بعد الرحيل عن رغد العيش في باب الوادي حيث الحياة الشعبية المفعمة بتوابل المتوسط ولطافة الجو وزرقة البحر والشواطئ. يصف كل ذلك بكلمات توحي بأن ساكني باب الوادي كانوا يعتقدون أنهم سيظلون هنا إلى الأبد: «لقد كانت باب الوادي عنوانا للفرح، الفولكلور المبهج.. كنا نسير أسرع من أي مكان آخر، كنا نتحدث بصوت أعلى، كنا نغني بمتعة، كنا نضحك بصدق، كنا نقدم التحية بعظمة رومانية، كنا نتشاجر بصوت عالٍ. باختصار، كان عليك فقط الجلوس والنظر إلى حياتنا».
لكن هذه الحياة مهما بدت مغرية، كانت في واقعها مصطنعة، مبنية على أرض لم تكن يوما للفرنسيين. ولما حانت ساعة الحقيقة، تحول هذا الحي مثلما يصفه الكاتب مهدي بوخالفة في مؤلفه «كانتيرا.. كان يا مكان باب الواد» إلى مكان خال من السكان بعد الاستقلال، ليعوضهم من جديد مواطنون جزائريون قدموا من عدة ولايات أبرزها جيجل شرقا وبسكرة جنوبا ومن منطقة القبائل إضافة إلى سكان العاصمة، فعاد النبض من جديد إلى هذا الحي بإيقاع جزائري خالص وأصبح في ظرف وجيز الحي الشعبي الأكبر ليس فقط في العاصمة بل في كل الجزائر الشاسعة.
واليوم لا يزال يحتفظ الحي بنفس التقاسيم التي تركها عليه الفرنسيون، ورغم أن بعض البنايات أزيلت وبعضها يبدو رثا بفعل عوامل الزمن، إلا أن المكان لمن يعود إليه بعد مئة سنة من الغياب، سيعرفه على الفور من معالمه الكبرى وشوارعه الرئيسية وأزقته وأسواقه ومساجده، بل حتى كنيس اليهود الذي كان موجودا هنا يدل عليه سور تعلوه نجمة داوود بعد أن غادر اليهود الجزائر.
أما بنايات باب الوادي، فتمتاز بكون بعضها يشبه الطراز «الأوصماني» الذي تشتهر به باريس، ويزداد جمال تلك العمارات في حواف الشوارع وأطرافها حيث الشرفات الدائرية المطرزة بنقوش جميلة. وفي الأجزاء الأكثر شعبية التي سكنتها الطبقة الفقيرة من المعمرين، كانت البنايات عادية لم تراع فيها كثيرا الجوانب الجمالية وهي اليوم الأكثر عرضة للتداعي.
وقد يكون أسوأ ما مر على الحي الطوفان الذي ضربه سنة 2001 في صورة مصغرة لما حدث في درنة الليبية قبل أشهر، مُهلكا أكثر من ألف من ساكنيه، وهي الكارثة التي زادت من تعلق الجزائريين به وتضامنهم معه. وقد كان ذلك مقدمة لإعادة تهيئة كبرى في الحي، خاصة في أجزائه الشمالية، حيث تم توسيع الساحة المطلة على البحر، ووضع كاسرات الأمواج على طول الكورنيش، ويجري حاليا تهيئة شاطئي كيتاني والرميلة وإنشاء مسابح قبالتهما، ضمن مخطط عام لتجديد خليج الجزائر.
ومنذ أصبح الوصول إلى الحي سهلا بعد افتتاح خطوط الترامواي والميترو التي تصل شرق العاصمة بغربها، ازداد الطلب على باب الوادي الذي يناديه أهل العاصمة «باب الواد» وهي تسمية قديمة احتفظ بها الفرنسيون، وتشير إلى واحدة من ستة أبواب في الجزائر العاصمة هي: باب جديد، باب سيدي رمضان، باب عزون، باب الواد، باب البحر، باب الجزائر.
وحاليا، هذا الحي هو الأكثر اكتظاظا بين كل أركان العاصمة، تزوره بشكل خاص في الصباح الباكر ربات البيوت القادمات من الأحياء المجاورة مثل وادي قريش وزغارة وبولوغين والقصبة والجزائر الوسطى، لاقتناء أجود أنواع الخضر والفواكه والأجبان والأسماك بأسعار تحطم كل منافسة وتباع في أسواق منظمة وبعضها فوضوي تحولت مع الوقت إلى ديكور تطّبع معه الجميع لما يوفره من خدمة.
ويزداد الإقبال على الحي بشكل لافت في شهر رمضان لأنه يوفر خيارات لا متناهية أمام الزبون، كما أن فيه محلات للحلوى التقليدية الرمضانية لا توجد في مكان آخر. ومن أشهرها محل «عبد الحميد» لصناعة قلب اللوز وهو نوع من الحلوى يشبه الكنافة، يصنع من السميد ويحشى باللوز وباقي المكسرات، وتجد الطوابير على المحل من بداية الصباح الباكر.

معالم شهيرة

ومن أشهر معالم التسوق في باب الوادي، ساحة الساعات الثلاث التي تعد قلب الحي النابض، وهي نقطة تقاطع شوارع رئيسية به أبرزها شارع العقيد لطفي أحد كبار شهداء الثورة الجزائرية. هذه الساعات الثلاث المنصبة في اتجاهات مختلفة، لا يعبأ المارون كثيرا باتجاه عداداتها، فالوقت هنا تحدده أشعة الشمس التي تبدأ تحت دفئها أصوات فتح أبواب المحلات وتستمر كذلك إلى ساعات الليل. تمتاز هذه المنطقة بالأسواق الغنية بالفواكه والخضروات، كما توجد بها مطاعم شعبية، تقدم وجبات لذيذة من أكلة الكارنتيكا الشهيرة (الحمص المطحون) وساندويشات البطاطاس والكبد والمرقاز (النقانق) وغيرها.
وليس المجيء إلى باب الوادي فقط لغاية التبضع، فموقعه المفتوح على البحر ونمط حياة سكانه وقدرتهم على التعبير بلغة شعبية جزائرية بسيطة وتوسطه مواقع العاصمة الكبرى، كلها عوامل تضمن الفرجة والمتعة والفائدة للزائر.
ومن أشهر المعالم الموجودة غير بعيد عن ساحة الساعات الثلاث، حديقة «براغ» أو مارينجو سابقا، والتي أقيمت عام 1839 أي بعد تسع سنوات على بدء الاحتلال الفرنسي للجزائر، وتبلغ مساحتها هكتارين كاملين يحويان أشجارا يفوق عمرها 150 سنة ونباتات نادرة وفريدة أتت من مختلف أرجاء العالم، وقد صممت على طراز حديقة إنكليزية تضم مسارات منحنية وأشكالا غير منتظمة.
وفي قلب الحي، تمثل ثانوية الأمير عبد القادر (المعروفة سابقًا بمدرسة بوجو) والتي تأسست في تشرين الأول/أكتوبر 1868 واحدة من أعرق المدارس الجزائرية. بدأ العمل في إنشائها في عام 1863 وتخرج منها طلاب كبار أثروا في مجالات متنوعة مثل السياسة والأدب والسينما والفلسفة والبحث، منهم صاحب جائزة نوبل في الأدب ألبير كامو والروائي الجزائري مولود معمري ووزير الخارجية الذي ساهم في الصلح الإيراني العراقي ومات بإسقاط طائرته محمد الصديق بن يحيى، وعميد مسجد باريس السابق دليل بوبكر والممثل الفرنسي الشهير روجي حنين وهو يهودي الأصل طلب أن تدفن رفاته بمقبرة اليهود في أعالي باب الوادي.

عنوان للوطنية الجزائرية

ولأنه حي شعبي متشرب للوطنية الجزائرية، كان باب الوادي دائما في صدارة المحطات الوطنية الكبرى، فمن هذا المكان توسعت مظاهرات 5 تشرين الأول/أكتوبر 1988 التي دفع فيها الكثير من شباب الحي أرواحهم معبدين الطريق لظهور التعددية السياسية في الجزائر وتخليص البلاد من نظام الحزب الواحد، وهم الشباب الذين لا يزال ينادى عليهم إلى اليوم في الهتاف الشهير «باب الواد الشهداااء» ومنه أيضا بعد أكثر من ثلاثين سنة كانت تخرج المسيرات العارمة التي أطاحت بنظام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة سنة 2019 والتي مهد لها شباب الحي برسائلهم السياسية التي كانت تلقى في كل مناسبة يلعب فيها فريقاهما المفضلان «مولودية الجزائر» و«اتحاد العاصمة». ورغم ضيق الحال والمحن التي مرت على الحي خاصة في فترة الأزمة الأمنية وهجرة الكثير من شبابه نحو الخارج وترحيل بعض سكانه نحو ضواحي العاصمة، يبقى تعلق سكانه به شديدا، فهو ليس مجرد مكان ميلاد بل رمز لاستعادة الأرض وإعادة بنائها على أساس الهوية الجزائرية بكل أبعادها الرمزية.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.