توسع الغزو التركي .. خريطة جديدة في الشمال السوري

 

الإثنين 17/10/2016 م …

الأردن العربي …

خريطةٌ جديدةٌ على وشك الارتسام في الشمال السوري تُشكلّ انقلاباً جذرياً على الخريطة السابقة التي كان تنظيم «داعش» يحتلُّ موقعَ الصدارة فيها.

بعد سلسلةٍ من المعارك الهادئة والصامتة استمرّت على مدى شهرين، غابت رايات التكفير السوداء عن غالبية ريف حلب الشمالي، لتُرفرف فوقَه أعلامُ الغزو التركي، في استبدالٍ تحومُ حولَه العديدُ من الشبهات والشكوك، خاصةً في ظلّ الانسحابات المريبة لـ «داعش» من عشرات البلدات والقرى، من دون أن يطلق رصاصةً واحدة.

وحتى بلدة دابق وسهولها الشاسعة التي طالما تغنّى التنظيم في أدبياته بأهميتها ورمزيتها الدينية، لم تستحق منه أن يبذل قطرة دمٍ واحدة قبل أن يتخلى عنها، لتجتاحها جحافل من يصفهم بـ «الصحوات» وحكومة «الناتو» العلمانية.

غير أن هذا الانسحاب بكل ما يحيط به من ملابساتٍ مريبة، لا يُغير من حقيقة الأمر شيئاً، وهو أن خريطةً جديدةً تكادُ تكتملُ خطوطُها في ريفِ حلب الشمالي، ستُسفِر حالَ اكتمالِها عن مشهدٍ جديدٍ في المنطقة يكون للتركي فيه حضورٌ وازن، كما ستؤدي إلى خلقِ واقعٍ جديد، سواء بين الجيش التركي والجيش السوري، أو بين الجيش التركي و «قوات سوريا الديموقراطية». ويتوقف ذلك على معرفة ماذا بعد دابق ومحيطِها، فهل سيتوقف الغزوُ التركي عند هذا الحدّ، أم سيواصل التقدم، وفي هذه الحالة إلى أين: منبج أم الباب؟

وقد استبعد مصدر كردي تحدث لـ «السفير» أن تتجرأ تركيا على التقدم نحو مدينة منبج وذلك لـ «أسباب عدة» بحسب ما قال، منها أن هناك تفاهماً أميركياً – تركياً على استبعاد منبج من خريطة التقدم التركية، مقابل انسحاب عناصر «قوات سوريا الديموقراطية» كافة منها. وأكد المصدر أن جنوداً تابعين لـ «التحالف الدولي» يتمركزون في منبج لمراقبة الالتزام بهذا التفاهم. وحول الاتهامات التركية بعدم انسحاب قوات «سوريا الديموقراطية» من منبج، نفى المصدر صحة هذه الاتهامات، مؤكداً تسليم المدينة لمن أسماهم «مجالس منبج العسكرية والمدنية». لكن المصدر أقرّ في الوقت ذاته بأن التفاهم الأميركي – التركي نصّ أيضاً على منع «سوريا الديموقراطية» من الاقتراب من مدينة الباب، مؤكداً أن الأخيرة ستلتزم بهذا البند. وأشار في هذا السياق إلى أن جميع قوات «سوريا الديموقراطية» أصبحت شرق نهر الفرات، وهي تُخطِّط منذ الآن لمعركة الرقة ومعارك أخرى، بحسب قوله.

هذا يعني أن احتمال توجه «درع الفرات» نحو مدينة الباب الخاضعة لسيطرة «داعش» أصبح أكثر رجحاناً من أجل استكمال الخمسة آلاف كيلومتر التي تحدث عنها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والتي يفترض أن تقوم فيها المنطقة الآمنة التي طالما سعى إليها. ولم يعد يفصل «قوات درع الفرات» عن مدينة الباب سوى خمسة عشر كيلومتراً انطلاقاً من أقرب تمركز لها في مزارع العلا. كما أصبحت هذه القوات تملكُ أكثرَ من محورٍ للهجوم على الباب في حال قررت ذلك من الشمال (محور مارع) ومن الشرق (محور سنبل).

وتأتي خطورةُ هذا الاحتمال من أنه سيؤدي في حال تحققه إلى حصول أول تماسٍ من نوعه بين القوات التركية الغازية وحلفائها على الأرض، وبين قوات الجيش السوري التي ترابط جنوب مدينة الباب منذ سيطرتها على مطار كويرس وتمددها في المنطقة. ورغم أن بعض التقارير تحدثت عن تسابق بين الجيشَين للوصول إلى مدينة الباب وانتزاعها من تنظيم «داعش» والتربع على موقعها الاستراتيجي، إلا أنه لم يصدر عن الجيش السوري ما يؤكد وجود نيةٍ لديه لاتخاذ مثل هذه الخطوة. وما يقود إلى استبعاد انخراط الجيش السوري في السباق نحو الباب هو انشغاله في تحرير أحياء حلب الشرقية التي تتطلب منه توجيه جهوده كافة لاختراق هذه الأحياء، وسط تصاعد الاحتجاجات الدولية الرافضة لذلك.

وأكد عددٌ من قيادات «درع الفرات» في تصريحات صحافية أمس بعد سيطرتهم على دابق، أن «الخطوة المقبلة ستكون نحو مدينة الباب، ومن ثم العمل على فكّ الحصار عن مدينة حلب»، في إشارةٍ إلى فتح جبهة ضد الجيش السوري ومحاولة الدخول إلى مدينة حلب من المحور الشمالي، المنطقة الصناعية تحديداً. وقال وزير الخارجية التركي مولود جاويش اوغلو خلال مؤتمر صحافي مع نظيره الإماراتي عبدالله بن زايد في أنقرة إن هدف عملية «درع الفرات» هو الوصول إلى مدينة الباب.

ومثلُ هذا السيناريو واردٌ جداً، خصوصاً أنه لا يمكن التكهن بموقف «داعش» من تقدم «درع الفرات» نحو معقله في الباب، وما إذا كان سيسارع إلى الانسحاب أم سيقاتل بشكل جدي. وقد تكون محاولةُ فكّ الحصار عن حلب انطلاقاً من الباب بعد انسحاب «داعش» منها، واحدةً من الخطط الموضوعةِ بتوافقٍ بين بعض الدول من أجل تفريغ انتصار الجيش السوري في حلب من مضمونه. وقد يكون الدعمُ العسكري الذي قدمته الولايات المتحدة إلى «درع الفرات» أحد المؤشرات المهمة على ذلك. وتجلى الدعم الأميركي في اوجهٍ عدة، منها رفعُ أعداد الجنود الأميركيين في بلدة الراعي إلى 75 تحت مسمى «مستشارين»، كما تحدثت بعض المصادر الإعلامية المعارِضة عن دخول رتلٍ إلى مدينة مارع قبل حوالي أسبوع قيل إنه يحوي ضباطاً أميركيين وأتراكا. كذلك ظهرت مؤخراً في مناطق العمليات في شمال حلب عربات «همفي» حديثة وسيارات رباعية الدفع مزودة برشاشات حديثة أميركية الصنع مع عدد من تشكيلات «درع الفرات»، أبرزها «فرقة الحمزة» و «لواء المعتصم».

ورغم خطورة هذا السيناريو، إلا أنه من المستبعد أن تقف روسيا وسوريا وحلفاؤهما مكتوفي الأيدي حياله، لأنه سيهدد بضياع الانجازات كافة التي حققوها في حلب في الفترة الأخيرة، وقد يعيد المدينة إلى مربع البداية.

وقد سيطرت، أمس، قوات «درع الفرات» التي تقودها وتشارك فيها وحدات من القوات الخاصة التركية على عدد من القرى في ريف حلب الشمالي، أبرزها دابق واحتيملات وصوران وتلالين وحوار النهر والعيون واسنبل والحميدية والمسعودية. وتمّت هذه السيطرة دون حدوث معركة حقيقية بين الطرفين، حيث سارع عناصر «داعش» إلى الانسحاب من هذه القرى متجهين نحو مدينة الباب وريفها، وسط ذهول المراقبين الذين كانوا يتوقعون رؤية معركةٍ دامية، خصوصاً في بلدة دابق التي كان التنظيم يُروجُّ بأنها ستشهد معركة آخر الزمان بناءً على أحاديث نبوية (مشكوك في صحتها). وما عززّ من هذه التوقعات بعضُ التسريبات التي خرجت أمس، وتحدثت عن استقدام التنظيم لحوالي ألف مقاتل من تلعفر في نينوى إلى دابق للدفاع عنها.

غير أن التنظيم كان قد مهّد مسبقاً لإمكان خسارة بلدة دابق بهدف تهيئة عناصره وأنصاره لتقبل الصدمة. إذ نشر في العدد الأخير من مجلته التي تحمل الاسم ذاته وتصدر باللغة الانكليزية، مقالاً يُميزُ بين «معركة دابق الصغرى» و «معركة دابق الكبرى»، مشيراً إلى أن المعركة الحالية ليست هي الملحمة المنشودة في أدبياته.

وفي مطلق الأحوال، وحتى لو قرر تنظيم «داعش» القتال دفاعاً عن دابق أو غيرها من القرى التي تقدمت إليها «درع الفرات» مثل صوران واحتيملات، فلم تكن لديه أي آمالٍ في الحفاظ عليها، لأن هذه القرى كانت محاصرةً من ثلاث جهات، وبالتالي كان التنظيم أمام احتمالَين، إما الرضوخ لحصار مطبق أو الانسحاب، كما أن طبيعة المنطقة في دابق ومحيطها هي طبيعة سهلية تجعل من السهل استهدافها بالطيران والمدفعية، لذلك فإن المعركة كانت خاسرة بجميع المقاييس.

وقد أدّت السيطرة على دابق وحوار النهر إلى فكّ الحصار النسبي الذي كان يفرضه التنظيم على مدينة مارع، وحاول مراراً تحويله إلى حصار كامل، وكانت آخر هذه المحاولات في أيار الماضي بالتزامن مع معركة منبج، غير أن الحصار لم يدم سوى اسبوع واحد، وبذلك يكون الطريق بين مارع وجرابلس قد أصبح مفتوحاً أمام الفصائل المسلحة بالإضافة إلى طريق إعزاز، وهو ما يمنح هذه الفصائل عمقاً استراتيجياً مفتوحاً على الحدود التركية من معابر عدة.

وبهذا التقدم أيضاً، تكون تركيا قد سيطرت تقريباً على حوالي ألفي كيلومتر مربع من مساحة المنطقة الآمنة التي تنوي إقامتها على الشريط الحدودي مع سوريا، والتي تبلغ خمسة آلاف كيلومتر مربع بحسب التصريحات الأخيرة للمسؤولين الأتراك.

 

وقال وزير الدفاع التركي فكري ايشيق، أمس، إن عملية «درع الفرات» تمكنت حتى الآن من تطهير منطقة بطول 90 كيلومتراً وعمق 20 كيلومتراً من تنظيم «داعش» على طول الحدود التركية مع سوريا. وأضاف أن تركيا «في مواجهة التهديدات الخارجية، عازمة على إقامة منطقة آمنة بطول 90 كيلومترا، وعمق 45 كيلومترا، وأنه لم يعد من السهل بعد الآن إطلاق الصواريخ نحو تركيا انطلاقًا من الأراضي السورية».

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.