نضالات عُمّالية “بعض دروس موجة الإضرابات بالولايات المتحدة” / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الأربعاء 22/11/2023 م …
يُحَابي قانون العمل الأمريكي أصحاب العمل ويُعسِّرُ تأسيس النقابات، ما جعل 6% فقط من العاملين في القطاع الخاص يَنْضَمُّون إلى النقابات، رغم استفادة العاملين المنتمين إلى النقابات من ظروف عمل أفضل ويفُوق راتبهم في المتوسط 33% أكثر من نظرائهم غير المنتمين إلى نقابات، وذلك في مناصب ومؤهلات ومواقع جغرافية مماثلة، وعلى نحو مماثل، يرتبط ركود الأجور المتوسطة والدُّنْيا ارتباطاً وثيقاً بانهيار معدل الكثافة النقابية، ما يجعل الغالبية العظمى من الأميركيين تعمل دون الاستفادة من اتفاقيات عقود العمل الجماعية التي تضمن الحد الأدنى للرواتب والرعاية الصّحّية والتّأمين الإجتماعي وجرايات التّقاعد…
يُمثّل إنشاء فرع نقابي مسارًا تتخلّله العديد من العقبات، إذْ يجب تقديم عريضة تحتوي على توقيعات ثلث موظفي الموقع، ولما تعترف السلطات المحلّيّة باستيفاء الشروط وبصلاحية الالتماس، يتعين على الشركة ( رب العمل) تنظيم استفتاء في غضون 45 إلى 90 يومًا، فإذا صَوَّتَتْ أغلبية العاملين لصالح إنشاء النقابة يتم انتخاب مكتب نقابي والسماح له بالتفاوض على اتفاقية الراتب في غضون اثني عشر شهرًا، ويجب تكرار هذه العملية في كل موقع إنتاج وفي كل شركة فرعية، وهو الأمر الذي عَرْقَلَتْهُ شركة مقاهي ستاربكس أو شركة أمازون أو وولمارت أو ماكدونالدز وكوكاكولا وغيرها من الشركات العابرة للقارات ذات المَنْشَأ الأمريكي، وتستعين هذه الشركات – وأرباب العمل بشكل عام – بمستشارين خاصين لثني العاملين عن الانضمام إلى النقابات.
يخضع الحق في الإضراب لنظام صارم، وتمنع العديد من اتفاقيات الشركات الإضرابات خارج فترات التفاوض على الرواتب المقررة كل أربع أو خمس سنوات، وبعبارة أخرى، تكون النقابات عاجزة عن تنظيم أي إضراب احتجاجا على قرار إغلاق مصنع أو تسريح العمال، أو إعادة تنظيم العمل والإنتاج، ولشن إضراب بعد فشل مفاوضات الرواتب، يجب على النقابات الحصول على تصريح مسبق من خلال مطالبة أعضائها بالتصويت في الاستفتاء، وتقتصر معظم النقابات الأمريكية على شركة واحدة أو على قطاع، ما يُيَسِّرُ شراء وإفساد القيادات النّقابية، وتُفَسِّرُ هذه العراقيل القانونية والإجْرائية عدم وجود مركز اتحادي كبير أو كونفدرالية كبيرة مثل ما يحصل في معظم بلدان العالم.
ازدادت ظروف العمل تَدَهْوُرًا منذ ركود 2007-2009 وتسببت أزمة “كوفيد” والإغلاق في تعميق الأزمة الهيكلية للرّأسمالية، وكذلك في زيادة الوعي بين الطبقات العاملة الأمريكية التي اضطر جزء كبير منها إلى العمل وسط مخاطر العدوى والموت، فيما عانى جزء كبير آخر من الطبقة العاملة من فقدان الوظائف ومن البطالة، فيما تضخ الحكومة الإتحادية مبالغ ضخمة في الحسابات المصرفية للشركات، قبل انتعاش 2021 الذي دعم أرباح الشركات، ما جعل النقابات تطرح مطالب الزيادة في الأجور، وتتجه نحو تأسيس نقابات في شركات كان العمل النقابي بها شبه محظور، وتمكنت النقابات، منذ صائفة 2021، من تنظيم إضرابات واسعة النطاق، واستغلت النّقابات الإنتعاش الاقتصادي الذي زاد من حاجة الشركات للعمالة، كما طالبت النقابات يزيادة الأجور لتدارك التضخم الذي ارتفعت نسبته منذ سنة 2022، واعتبرت إن الظروف مهيأة لتعبئة كبيرة، بعد إعلان الشركات الأميركية الكبرى تحقيق أرباح قياسية، بالتوازي مع تدهور ظروف عمل ورواتب العاملين بها، واستنتجت إن موازين القوى مُواتية لشن الإضرابات…
شن اتحاد عُمال السيارات ( عُمّال السيارات المتحدين – UAW ) إضرابه الأخير في هذا المناخ من ارتفاع درجة حرارة النشاط النقابي والإضرابات، ما وَفَّرَ ظروف النّجاج للإضراب الذي شنه الإتحاد باسم 146 ألف عامل في الشركات الثّلاث الكُبْرى لصناعة السيارات الأمريكية (جنرال موتورز وفورد وستيلانتس)، ومنذ خمس أو ست سنوات، أنتعش اليسار الأمريكي بظهور القيادات النقابية الشابة والراديكالية التي أطاحت بالقيادات الفاسدة والمُرتشية ( منها قيادات اتحاد عمال السيارات في انتخابات بداية سنة 2023 ) قادت موجة الإضرابات الأخيرة التي دعمتها الصحافة المستقلة والراديكالية وأكثر من 70% من الرأي العام الأمريكي وفق استطلاعات الرأي التي أنجزتها مؤسسات رأسمالية تقليدية، وشكّل هذا الإضراب استمرارًا لانتعاش الحركة العُمّالية الأمريكية، مع التنبيه إلى عدم تضخيم هذه الحركة لأنها لا تتجاوز العمل النقابي الإصلاحي، غير إن هذا الإنتعاش يستمد أهمّيته من حدوثه في قلب الإمبريالية وفي موطن قيادة الرأسمالية النيوليبرالية العالمية.
يُضاف الانتصار الأخير الذي حققه 146 ألف من أعضاء نقابة السيارات ( UAW ) في إضرابهم ضد “الثلاثة الكبار” (فورد، وجنرال موتورز، وستيلانتس) إلى قائمة طويلة من الإضرابات الناجحة في الولايات المتحدة، ومن إنشاء فروع نقابية في القطاعات التي كانت تُعْتَبَرُ من المستحيل تعبئتها، وركزت النضالات والمَطالب – بالإضافة إلى زيادة الرواتب وتحسين ظروف العمل – على إدارة الإنتاج وعلى مكافحة الفقر، ما قد يُشَكِّلُ نقطة تحول في التاريخ الاجتماعي للبلاد ومُنعرجًا خلقة مسار طويل من النضالات، ومنها إضراب المُدَرِّسِين في شيكاغو سنة 2012، حيث تمت الإطاحة بالقيادة النقابية القديمة من قبل القاعدة التي انتخبت قيادة جديدة وشن عشرون ألف مُدرّس إضرابًا أدّى إلى إغلاق جميع المدارس في مقاطعة شيكاغو لفترة أسبوع، لمنع خصخصة المدارس العامة والحصول على زيادات في الرواتب والموارد، وتكرر هذا العمل سنَتَيْ 2017 و2018 في العديد من الولايات (فيرجينيا الغربية وأوكلاهوما وغيرها) حيث أغلقت جميع المدارس أبوابها لمدة أسبوع أو أكثر، ثم أطلق 45 ألف مُدرّس إضرابًا في مقاطعة لوس أنجلوس أدّى إلى إغلاق جميع المدارس لمدة خمسة أيام قبل تحقيق مطالبهم، وأضرب مُدرّسو “دنفر” وولايات وأكاديميات أخرى، وحظيت جميع هذه الحركات بدعم أولياء الأمور، الذين غالبًا ما كانوا حاضرين في اعتصامات الإضراب…
تسلّم عاملو القطاع الخاص المشعل، وأطلقت النقابات إضرابات في قطاعات الطيران المدني والصناعة سنة 2019 (جنرال موتورز وجون ديري)، وبعد كوفيد، صمدَ العاملون من أجل تأسيس نقابات في مواقع العديد من العلامات التجارية ( مثل Starbucks وAmazon وTrader Joe ) واعتبارًا من سنة 2022 شن نحو 340 ألف من عُمّال التّوْصِيل والسّائِقِين بشركة ( UPS ) إضرابًا في ظروف صعبة، لكنه حاز تأييد الرّأي العام، وحصل العاملون على زيادة في الرواتب تتراوح بين 15% و 40% وعلى تحسين ظروف العمل، كما حصل طيارو الخطوط الجوية على زيادة تتراوح بين 30% و46% على مدى 4 سنوات، وحصل العاملون في جامعة كاليفورنيا العامة (طلاب الدكتوراه، باحثو ما بعد الدكتوراه، المساعدون، عمال المختبرات، المشرفون، الإداريون) على زيادة تصل إلى 50% بعد إغلاق 11 حرمًا جامعيًا لمدة 6 أسابيع، وضغطت الحكومة الإتحادية ورئيسها والكونغرس على عمال السكك الحديدية البالغ عددهم 130 ألفًا، والذين لم يحصلوا على كل مطالبهم وإنما على أغلبيتها، كما حصل أربعون ألف من عُمّال وموظفي شركة “كايزرز” شبه الطبية، على زيادات في الرواتب وتعيين المزيد من الموظفين، كما شَنَّ إحدى عشر ألف من أعضاء نقابة كتاب السيناريو في هوليوود إضرابًا ناجحًا استمر 146 يومًا أدى إلى إيقاف إنتاج الأفلام والتحق بهم 160 ألف من بقية العاملين في استديوهات هوليود، وانتهى الإضراب بحصول المُضربين على مطالبهم، وكان إضراب عُمّال السيارات ( UAW ) بمصانع الشركات “الثلاثة الكبار” تتويجًا لهذه الموجة من النضالات العُمّالية التي لم تشهد الولايات المتحدة مثلها منذ عُقُود.
استخدمت النقابات ما ادّخرته من أموال لإدارة الإضراب وتسديد جزء من رواتب العُمال المضربين، كما استفادت من الدّعم المالي وتبرعات المواطنين والنقابات الأخرى وتضامن العاملين في قطاعات أخرى، وعلى سبيل المثال، رفض سائقو الشاحنات الأعضاء في نقابة سائقي الشاحنات التوصيل إلى المواقع الصناعية التي أضرب العاملون بها، وذلك لتسهيل وقف الإنتاج والضغط على الشركات…
كانت أهم الإنتصارات النقابية في مواقع العمل التي أنجزت بها النقابات عَمَلاً ميدانيًّا ( عمال السيارات وكتاب السيناريو والمُدرّسين ونضالات أخرى لم نأت على ذكرها مثل عمال الرعاية الصحية…) مَكّن من تعبئة جميع العاملين ما هَيَّأ الظّروف لتحقيق النصر، وتمكّنت نقابة عُمال السيارات من دحض فكرة “ضرورة التضحية بالوظائف بفعل حتمية التغييرات التي فرضتها التقنيات الجديدة”، وأثبت نضال عُمال السيارات إن التحول في مجال إنتاج الطاقة لن يكون على حساب العمال والوظائف في العالم، كما نجح كتاب السيناريو والممثلون في هوليوود في احتواء ثورة “الذكاء الاصطناعي” واستخدام صور الممثلين في الأفلام دون الحاجة إلى حضورهم إلى موقع التصوير، ومن كتابة نصوص السينما أو المسلسلات بواسطة برامج متخصصة، بل تمكّن العاملون في هوليوود من إنشاء آليات تعويض مالي لاستعادة جزء من الأرباح التي حققتها منصات البث المباشر، ما أنقذَ الوظائف التي كانت مُهَدَّدَة بالاختفاء… وبذلك شكّلت هذه النضالات نقطة ضوء، في الولايات المتحدة وفي العالم، رغم انخفاض مُعدّل الإنتماء إلى النّقابات بفعل انتشار العمل الهش والعقود قصيرة الأمد والعمل بدوام جزئي، لكن من دَوْر (ومن واجب) النقابيين والمناضلين الثوريين استنباط الوسائل الكفيلة بإعادة الأمل للعاملين والمُعطلين عن العمل والمُحبطين والفُقراء…
التعليقات مغلقة.