المسافة صفر / زاهي وهبي
زاهي وهبي ( لبنان ) – الثلاثاء 28/11/2023 م …
لنتذكَّر دائماً، حين يصمت هدير الطائرات ويهدأ دوي المدافع، أن الشعب الفلسطيني ما يزال تحت الاحتلال عرضة للظلم والقهر والاضطهاد، وأنه يقاوم بكل ما أوتي من عزم وإرادة.
أردد دائماً أن من غير الجائز ربط مناصرتنا اليومية للقضية الفلسطينية بمنسوب الدم الفلسطيني. علينا أن نتذكّر ونُذكِّر بوجود الاحتلال الإسرائيلي وممارساته العدوانية والعنصرية بمعزل عن الحروب التي يشنها والمجازر التي يرتكبها بحق الأبرياء والمدنيين من أبناء الشعب الفلسطيني.
لا يُعقل ألّا تحضر فلسطين في دائرة الاهتمام الثقافي والسياسي والإعلامي إلّا حين يرتكب الاحتلال المذابح والمجازر، وكأننا بذلك نقول لأبناء فلسطين: عليكم أن تموتوا كل يوم كي تحضر قضيتكم في أذهاننا ودائرة اهتماماتنا!
الفعل العدواني للاحتلال حاصل كل يوم وكل لحظة. ما دام الاحتلال موجوداً، فإنَّ العدوان حاصل، أولاً لكونه احتلالاً ترفضه وتدينه كل الشرائع والقوانين، ومن ثم بفعل ممارساته اليومية من اعتقال وتنكيل وقمع واقتحامات وتدمير للمنازل وحصارٍ وحواجز حوّلت حياة الفلسطينيين إلى جحيم يومي.
واحدة من أهم نتائج عملية “طوفان الأقصى” أنها أعادت قضية فلسطين إلى دائرة الاهتمام اليومي، وهذا ما يتجلى في التظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات التي تملأ شوارع العواصم والمدن، ولا سيما الأوروبية والأميركية منها، إذ وفرت حكومات تلك البلدان الغطاء السياسي لحرب الإبادة التي ترتكبها “دولة” الاحتلال في غزة، مثلما وفرت لها الدعم العسكري والمالي كي تتمادى في غيها وعدوانها.
ولولا الشعوب التي رفعت صوتها في الشوارع والميادين، لكانت البشرية قد سقطت في امتحان إنسانيتها، بفعل النفاق السياسي والإعلامي والثقافي الذي مارسته الحكومات الغربية وتمارسه حيال فلسطين وقضية شعبها المكافح لأجل الحرية والاستقلال منذ قرابة قرن من الزمن.
75 عاماً من الاحتلال والظلم والاضطهاد استطاعت خلالها الحكومات الغربية أن تخفي عن شعوبها حقيقة ما جرى ويجري في فلسطين. لقد صوّرت تلك الحكومات بواسطة ماكيناتها الإعلامية الضخمة، وآلتها الدعائية الهائلة التي لم توفِّر الأدب والفنّ، مثل السينما والدراما التلفزيونية وسائر وسائل التأثير (في مقابل غياب أي جهد عربي حقيقي لمخاطبة تلك الشعوب)، فلسطين كأنها أرض بور جعلها الصهاينة واحة خصبة نشروا فيها التحضّر والديمقراطية (كذا)، وجعلوا من “دولة” الاحتلال “الديمقراطية الوحيدة” في الشرق الأوسط، والمهدَّدة من غيلان التطرف والإرهاب (!).
طوال الوقت، وعلى مرّ العقود، كانت “دولة” الاحتلال ترتكب المجازر والمذابح، وتشرِّد أبناء الشعب الفلسطيني في رياح الأرض الأربع، وتنكّل بمن بقيَ منهم في أرضه ووطنه، وتمارس بحقهم أبشع أنواع التمييز والعنصرية، وتقضم المزيد من الأرض، وتبني المزيد من المستوطنات، وتتملّص من كل القرارات الدولية التي تطالبها بالانسحاب من هذا الجزء أو ذاك من الأرض المحتلة. حتى عندما طرح النظام الرسمي العربي مبادرة “الأرض مقابل السلام”، أجاب الإرهابي أرييل شارون على المبادرة: بلّوها واشربوا ماءها (!).
في هذه الأثناء، وعلى مدى العقود السالفة، كان الشعب الفلسطيني يواجه باللحم الحي آلة التوحش الاسرائيلي، ويقاوم بكل ما استطاع إليه سبيلاً لأجل استعادة حريته واستقلاله. وحين تخلى عنه الجميع، إلا مَن رحم الله، وقالوا له: اذهب أنت وربّك فقاتلا، ظلّ يبذل الغالي والنفيس متمسكاً بأرضه وبحقه في الحياة الحرة الكريمة أسوة بكل شعوب الأرض.
لنتذكَّر دائماً، حين يصمت هدير الطائرات ويهدأ دوي المدافع، أن الشعب الفلسطيني ما يزال تحت الاحتلال عرضة للظلم والقهر والاضطهاد، وأنه يقاوم بكل ما أوتي من عزم وإرادة، ولنتذكَّر أن أبناء هذا الشعب الأبي يقاتلون يومياً من المسافة صفر؛ على الحواجز المسافة صفر، عند المعابر المسافة صفر، في المعتقلات المسافة صفر، أثناء التحقيق المسافة صفر، في المواجهات المسافة صفر. وما البطولات التي يسطّرها المقاومون في غزة من المسافة صفر سوى برهان إضافي على تمرّس هؤلاء الشجعان منذ ولادتهم في “المسافة صفر” التي كلما اشتدّ أُوارها تقلّصت المسافة نحو التحرير الكامل والاستقلال المنشود والحرية الأكيدة…
التعليقات مغلقة.