المجتمع المدني – ” دراسة مترجمة ” / د. عدنان عويّد

 د. عدنان عويّد ( سرية ) – الخميس 30/11/2023 م …




المجتمع المدني

Civil society 

From Wikipedia, the free encyclopedia  

ترجمة : د. عدنان عويّد

في المفهوم :                                                    

     يشتمل المجتمع المدني في سياقه العام على العديد من المنظمات والمؤسسات المدنيّة والاجتماعيّة, والتجاريّة, والسياسيّة, والثقافيّة, التي تشكل أسس الوظيفة الاجتماعيّة في مواجهة أو مقابلة المنظمات المدعومة من قبل الدولة, دون أي اعتبار للنظام السياسي الذي تعتمده الدولة.

     وإضافة للمفهوم الذي تقدمنا به أعلاه, يمكننا القول أيضا إن هناك مئات التعاريف للمجتمع المدني في قاموس الحداثة المعاصرة, أو ما يسمى بـ  “ما بعد الحداثة “, ومن هذه التعاريف العديدة جاء مثلا في مدرسة ” المركز الاقتصادي الانكليزي لنشاط “المجتمع المدني”, أن المجتمع المدني يشير إلى ميدان العمل الجماعي الطوعي, وفقا لاهتمامات وأهداف وقيم القوى الاجتماعيّة المساهمة في هذا العمل. ففي النطاق النظري, نجد هنا أن الصيغ المؤسساتية للمجتمع المدني تتميز عن تلك الخاصة بالدولة, أو الخاصة بالمرجعيات التقليديّة للمجتمع ( عشيرة , قبيلة, طائفة), بينما نجد في النطاق العملي لهذه المؤسسات, أن الحدود بين مؤسسات الدولة والعائلة والسوق والمجتمع المدني, غالبا ما تكون متداخلة ومشوشة وتفاوضية أيضا, بل إن المجتمع المدني ممثلا بمؤسساته, غالبا ما يعانق تنوع الأمكنة, والممثلين, والصيغ, وتنوعه هذا يتجلى في درجاته, ومراسيمه, وقوته, واستقلاله الذاتي.

     إن المجتمعات المدنيّة, كثيراً ما تعبئ السكان في منظمات غير حكوميّة, ذات طابع اجتماعي, مثل المنظمات الخيريّة ذات الأسس الدينيّة, (الروابط الأخويّة), وكذلك المنظمات النسائيّة أو المهنيّة, والاتحادات التجاريّة, ومجموعات المساعدات الذاتيّة, وجمعيات رجال الأعمال, والدفاع عن حقوق الإنسان, والتضامن .. الخ .

أصول المجتمع المدني :

     ظل مفهوم المجتمع المدني حتى في الفترة المعاصرة مرتبطا بمفهومه الكلاسيكي, وهو من صلب أدبيات عصر التنوير في القرن الثامن عشر, بل ربما يعود في معطياته إلى تاريخ أقدم من حيث ارتباطه مع تاريخ الفكر السياسي. ومع ذلك نقول إن المجتمع المدني في الفترة الكلاسيكيّة كان يستخدم كتعبير مرادف لـ”المجتمع الجديد” , حيث بدأ قريباً من الدولة أو شبيها بدورها.

     على العموم , لقد أصبح المجتمع المدني في تاريخه المعاصر يشير إلى المشاركة السياسيّة, لحل الصراعات الاجتماعيّة عبر فرض القوانين التي تضبط علاقات المواطنين خوفا من إيذاء بعضهم بعضاً, وذلك على اعتبار أن الصراعات الاجتماعيّة داخل المجتمعات يفضل أن تحل عبر النقاش والحوار العام, ذي الصفة العقلانية, من أجل كشف الحقيقة, وهذا الحوار العقلاني بدوره سيعمل على تحقيق المواطنة والحياة الجيدة للمجتمع, (ويؤسس لأنظمة دستوريّة وقانونيّة تعمل على استقرار المجتمع والحفاظ على استقراره وأمنه وعدالته – المترجم). 

     يرى بعض المهتمين بالفكر السياسي, أن الدولة المثاليّة هي التي تكوّن مجتمعاً عادلاً, حيث يكرس فيها المواطنون أنفسهم للتعاون مع بعضهم, مثلما يكرسون الفضائل المدنيّة العمليّة, مثل:  الحكمة, والشجاعة, والعدالة, وروح المعاصرة, كما يؤدون الدور الوظيفي المنوط بهم,  والذي من خلاله يحققون الوضع الاجتماعي المناسب لهم.

     إن الفلاسفة والمفكرين في المرحلة الكلاسيكيّة لم يشيروا أو يؤكدوا أي تمايز ما بين الدولة والمجتمع, بل على الأغلب هم تمسكوا بمقولة أن الدولة مثلت الصيغة المدنيّة للمجتمع, وأن المدنيّة مثلت أيضا متطلبات المواطنة الجيدة. وأكثر من ذلك فقد تمسكوا بفكرة أن الكائنات الإنسانيّة هي بحد ذاتها عقلانيّة, وتستطيع في اجتماعها تشكيل طبيعة المجتمع الإنساني الذي تنتمي إليه, مثلما تمتلك كذلك, قابلية التجمع والمشاركة وحفظ السلام للجميع داخل المجتمع بشكل إرادي. وبذلك نستطيع القول: إن المفكرين السياسيين الكلاسيكيين, قد صادقوا على بداية نشوء, أو انطلاق مفهوم المجتمع المدني في وعيهم العام. ولكن علينا هنا أن نشير إلى مسألة ذات أهمية خاصة وهي: إن الترتيبات السياسيّة لإقطاع العصور الوسطى, تعتبر حالة استثنائية, حيث أن أعمال المفكرين الكلاسيكيين كان قد سحب من تحتها البساط خلال تلك الفترة التي كانت قد ازدادت فيها سلطة الكنيسة والإقطاع (النبلاء) قوةً.

     على أيّة حال , إن حالات التقدم التي تمت في بعض مناطق أو أقسام أوربا منذ القرن الرابع عشر, كانت قد نبهت إلى حد بعيد عن حالة انتعاش وإحياء مفهوم العقلانيّة الإنسانيّة, (الحركة الأنسيّة – المترجم), وهذا أثر في تحقيق التوسع الهائل لتشكيل الصلات السياسيّة الايجابيّة حتى نهاية عصر النهضة.

     إن  حرب الثلاثين عاما, ومعاهدة ” وستفاليا ” عام / 1648/  بشرا في ولادة نظام الدولة الحديثة. فالدول التي صادقت على المعاهدة كوحدات إقليميّة سياسيّة, حازت على سلطاتها المطلقة, وكنتيجة لذلك كان الملوك يسمحون بممارسة السلطة الوطنيّة من خلال إضعاف سلطة اللوردات والنبلاء الإقطاعيين, وإيقاف الاعتماد عليهم في تأمين وتدريب القوى المسلحة. يضاف إلى ذلك أن الملوك استطاعوا آنذاك تشكيل الجيوش الوطنيّة الخاصة بهم, ونشر الوظائف والأعمال البيروقراطيّة المرتبطة بالدولة, ومن خلال هذه الأساليب أمّنَ الملوك السلطة المباشرة والمطلقة معاً على مواطنيهم, ولكي يؤمن الملوك المستلزمات الماليّة والإداريّة أيضاً,  اعتمدوا على السلطة الاقتصادية – أي – على الطبقة الرأسماليّة الوليدة التي وجدت في الملك حليفاً قويّاً لها لمواجهة سلطة الكنيسة والنبلاء معا, وهذا التناغم ما بين الملك والسلطة الاقتصاديّة أي البرجوازيّة, ساعد هنا على ولادة ما سمي بسلطة (المستبد العادل), وهي سلطة مطلقة خير من عبر عنها ” لويس الرابع عشر بقوله : ( أنا الدولة والدولة أنا ) .

      مع أواخر القرن الثامن عشر كان النظام المطلق قد أصبح الطابع المميز لأوربا, هذا وقد حدث خلاف لدى المفكرين التنويريين حول الطبيعة المطلقة للدولة في عصر التنوير, كنتيجة لطبيعة النهضة ذاتها التي تطور فيها العلم, والنزعة الإنسانيّة, حيث راح المفكرون النهضويون (التنويريون) آنذاك يطرحون أسئلة أساسيّة أو جوهريّة عن مشروعيّة الموروث المعطى, وأسس الحكومات, والتساؤل عن أسباب امتلاك بعض الناس الحقوق الأصيلة, وفقدان الآخرين لها, وغير ذلك من التساؤلات الكثيرة التي تتعلق بالإنسان وحريته ومكانته الطبيعية.. الخ . وللحق نقول: إن هذه الأسئلة قادتهم لعمل الكثير من الافتراضات الحقيقيّة حول طبيعة التفكير الإنساني, واتجاه مصادر السلطة السياسيّة والأخلاقيّة, ثم الأسباب الكامنة وراء السلطة الاستبداديّة المطلقة  وكيفيّة تجاوزها. لقد اعتقد المفكرون التنويريون بالطيبة المتأصلة في العقل الإنساني, وعارضوا التحالف بين الدولة والكنيسة كتحالف معادي للتقدم والرفاه الإنساني والرغبة الشعبيّة , وذلك لما تفرضه الدولة من وسائل إلزاميّة لكبح الحريّة الفرديّة, وشرعنة  النظام الملكي من خلال التنظير أو التشريع لنظرية (الحق الإلهي)

     لقد كان للأعمال الوحشية التي نتجت عن حرب الثلاثين عاما في أوربا تأثير واضح, حيث اقتنع فلاسفة تلك المرحلة بأن العلاقات الاجتماعيّة يفضل أن تكون منظمة في طرق أو أساليب ليست مختلفة عن تلك المرتبطة بالقانون الطبيعي, لذلك راح بعضهم ينظر لنظرية ” العقد الاجتماعي ” , وهي نظريّة مثلت في الحقيقة العلاقات الاجتماعيّة القائمة على التوافق مع الطبيعة الإنسانيّة, وهذا ما دفعهم إلى التأكيد على أن الطبيعة الإنسانيّة يمكن أن تُفهم من خلال تحليل ظروف الوقائع الموضوعيّة, والقوانين الطبيعيّة, لذلك هم صادقوا على أن طبيعة الكائنات الإنسانيّة يفضل أن تكون متضامنة أو متحالفة مع خط الدولة, ومؤسسة للقوانين الوضعيّة معا.

     إن الخوف من ذاك التدمير الهائل الذي أحدثته حرب الثلاثين عاما, دفعت المفكر والفيلسوف “توماس هوبس” التأكيد على أهمية الحاجة لقوة الدولة  للحفاظ على الحياة المدنيّة في المجتمع, لاسيما وأن “هوبس” يرى أن الكائنات الإنسانيّة غالبا ما تتحرك بدوافع المصلحة الخاصة, بل أكثر من ذلك هو يرى أن هذه المصالح غالبا ما تكون متناقضة في الواقع, الأمر الذي كان يخلق حالة من حرب الكل ضد الكل, وبسبب هذا الموقف كانت الحياة برأيه: (فقيرة, بغيضة, موحشة, منعزلة, قصيرة, وتسودها الفوضى. لذلك من هنا أصبحت الكائنات الإنسانيّة مدركة تقريباً أهمية الحاجة لآليّة عمل تحمي بها نفسها.). هذا وإلى حد بعيد كان  “هوبس” متفهما عقلانيّة ومصالح الناس الخاصة, وبأنهم أصبحوا على قناعة بضرورة اللقاء على اتفاق يسلموا فيه بأن الحكم يجب أن يكون في يد قوة مشتركة, دعاها ” هوبس ” الدولة أو القوى العظمىleviathan)).

      إن نظرية ( العقد الاجتماعي ) لـ “توماس هوبس” طرحت أنموذجين من العلاقات: الأول : وهو (عمودي) في علاقته ما بين الشعب والقوة العظمى, أي الدولة, والشعب, ففي هذا الأنموذج يرهنون أنفسهم في النهاية لسلطة الدولة, الـ (leviathan). والثاني: وهو يقوم على علاقات (أفقية) ما بين الشعب والدولة, وفي هذا الأنموذج , يكون الشعب تحت مراقبة وإشراف قوة الدولة الرهيبة ذاتها, والشعب مجبر هنا بوضع حقوقه الطبيعيّة على الطريق الذي لا يتعارض أو يؤذي حقوق الآخرين.  

     إن الأنموذج الأول, يمثل في المحصلة سلطة الدولة المطلقة. أما الثاني, فيمثل هنا المجتمع المدني في المفهوم المعاصر. و”هوبس” يرى وفق هذه الرؤية أن تشكل الدولة قد قاد إلى تشكل المجتمع المدني, بل هو يرى أيضا أن الدولة ملزمة هنا بتقوية أو مد حياة المجتمع المدني.     

     لقد اعتبر ” هوبس ” أن الدولة (الطبيعيّة) وسلطتها قد قادتا إلى استنبات الواقعيّة في المرحلة الأخيرة التي حددت طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني.

     وبعيدا عن “هوبس” , فقد امتلك “جان لوك” تجربة مختلفة عن الوضعيّة السياسيّة في بريطانيا, ولّدتها فترة (الثورة المجيدة) التي تميزت بالصراع ما بين المطالبين بالحقوق السماويّة للسلطة الملكيّة, والمطالبين بالحقوق السياسيّة للبرلمان, هذا وقد تجلت هذه التجربة في نظريّة (العقد الاجتماعي) التي عملت على تحديد دور كل من الدولة والقوى الاجتماعيّة. ففي وجهة نظر ” لوك “, إن الكائنات الإنسانيّة قادرة على قيادة الحياة السلميّة في الدولة الطبيعيّة, وبالتالي هذا يجعلها قادرة أن تحافظ على الحد الأدنى من التفاؤل في حال غياب النظام القادر على تحقيق هذه الحياة السلميّة,  لذلك انطلاقا من هذا الموقف راح الناس يتجمعون مع بعضهم من أجل توقيع هذا العقد الاجتماعي وتأسيس سلطة شعبيّة مشتركة. ومع ذلك فقد أقر ” لوك ” بأن تعزيز القوة السياسيّة ربما يدفعها نحو الحكم المطلق (الأوتوقراطيّة) إذا لم يكن قد تحقق تعزيزها تحت قيود موثقة. هذا وقد فرض ” لوك ” معاهدتين مع الحكومة تضمنت الالتزامات المتبادلة, الأولى : يخضع الناس فيها أنفسهم إلى السلطة الشعبيّة المشتركة, حيث تمتلك هذه السلطة القوة في سن القوانين والحفاظ عليها, أما المعاهدة الثانية: فتحتوي على قيود تجاه سلطة الدولة, فالدولة هنا لا تمتلك القوة لتهدد أسس حقوق الناس المتعلقة بالحفاظ على الحياة, ويأتي على رأسها حقا الحريّة والملكيّة الخاصة. بل أكثر من ذلك, إن هذه المعاهدة تعمل داخل التزامات ومتطلبات المدنيّة والقوانين الطبيعيّة. ووفقا لـ “لوك” فإن (المدنيّة) في الحياة الاجتماعيّة كانت سابقة لولادة الدولة. والدافع وراء رؤيته هذه, هو أن الناس قادوا الحياة السلميّة في الدولة الطبيعيّة, إضافة إلى ذلك, إن ” لوك ” ناصر أولويّة المجتمع على الدولة, حيث اعتبر أن الدولة الطبيعيّة, والحقوق الأساسيّة الرئيسة للإنسان, وأولويّة المجتمع على الدولة, وتحديد سلطة الدولة, كلها تساعد أخيرا على تشكيل التقاليد الليبراليّة التي حققت الفكرة المميزة لدولة المجتمع المدني.

     إن كلاً من ” لوك” و”هوبس” قد أسسا لخلق نظام اجتماعي / سياسي  يساعد على التعايش السلمي داخله, ويساعد الإنسان على تأكيد العقد الاجتماعي. كما اعتبرا المجتمع المدني فضاءً يحافظ على الحياة المدنيّة والدولة, أو المملكة, وأن القيم والحقوق المدنيّة قد اشتقت من القوانين الطبيعيّة.

     على أية حال, كلاهما قد تمسكا بأن المجتمع المدني كان (مملكة) مستقلة عن الدولة, وإلى حد ما هما أكدا أيضا على ضرورة التعايش بينهما.

     لقد كانت مقاربات النظام لـ”هوبس” و “لوك”, وتحليلاتهما للعلاقات الاجتماعيّة, ومحاولاتهما توضيح مفاهيم مثل, الطبيعة الإنسانيّة, والقوانين الطبيعيّة والعقد الاجتماعي, ونظريّة الحق الإلهي  وتشكيل الحكومات, على درجة عالية من التأثير في تجربة الفترة التي عاشا فيها. وبعيدا عن نظريّة الحق الإلهي, كان كلاهما يدّعيان بأن العقل الإنساني يستطيع أن يرسم نظامه السياسي, هذا وأن هذه الفكرة قد حازت على تأثيرها الواسع عند مفكري عصر التنوير, الذين راحوا يناقشون بأن الكائنات الإنسانيّة أكثر عقلانيّة في تقرير مصيرها, لذلك لا حاجة للسلطة المطلقة من أجل توحيدهم.

     أما ” روسو ” و ” كانت ” فقد ناقشا بأن الناس محبون للسلام  وأن الحروب هي التي تخلق الأنظمة المطلقة.

مفهوم المجتمع المدني في التاريخ الحديث :

     مع “هيجل” الذي غير كليّاً معنى فكرة المجتمع المدني, فإن فهم الليبراليّة الحديثة للمجتمع المدني قد ظهر وكأنه صيغة من مجتمع السوق. وبعيدا عن المفكرين الآباء, فإن المفكرين القادة الرومانتيكيين, اعتبروا المجتمع المدني وكأنه فضاء أو مملكة منعزلة, – ( نظام حاجات ) – وقف من أجل رضا المصالح الفرديّة والملكيّة الخاصة. وأن هيجل هو واحد من هؤلاء الذين تخيل هذه الفكرة, وراح يتمسك بمقولة أن المجتمع المدني قد ظهر في عهد الرأسماليّة بشكل خاص, وهو عمل على خدمة اهتماماتها المتعلقة بالحقوق الفرديّة, والملكيّة الخاصة, بيد أنه في المقابل قد وجد أن المجتمع المدني قد أظهر تصرفا متناقضا من خلال إيجاده مملكة المصالح البرجوازيّة, وهذا برأيه ما أوجد ساحة واسعة لإمكانيّة الصراعات وعدم المساواة داخل المجتمع المدني. إضافة إلى ذلك فقد أشار إلى أن المراقبة الدائمة للدولة مجبرة لتقوية الحياة المدنيّة في المجتمع. كما اعتبر أن الدولة هي صيغة راقية للحياة الأخلاقيّة, والدولة السياسيّة تمتلك القدرة والسلطة لإصلاح العلاقات الخاطئة في المجتمع المدني.

     عندما قام بعض المفكرين بالمقارنة ما بين النظام الاستبدادي في فرنسا, والنظام الديمقراطي في أمريكا, عارض بعض المفكرين “هيجل” في ميله إلى اعتبار الدولة مع الجمعيات الطوعيّة قادرة على خلق التوازن بالنسبة للحريّة الفرديّة. ومع ذلك فإن وجهة نظر “هيجل” استمرت قائمة عند بعض المفكرين الذين ميزوا, أو فرقوا بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني. وهذا الفكرة تم قبولها إلى حد بعيد أيضا من قبل “ماركس” , الذي اعتبر المجتمع المدني يشكل جزءاً أساسياً من (الوجود الاجتماعي), أي قوى وعلاقات الإنتاج أو ما يسمى البناء التحتي, وما رافقه من مجتمع سياسي في المرحلة الرأسماليّة ( إن فهم ماركس للمجتمع المدني كما عبرت عنه هذه الدراسة هنا, هو غير دقيق وفيه الكثير من الضبابيّة والتشويش . المترجم )   

     إن التوافق في مسألة الربط بين الرأسماليّة والمجتمع المدني, جعلت ماركس يؤكد أيضا وبحزم, بمقولة أن المعادل الأخير بين الطرفين سيكون لمصلحة البرجوازيّة, إضافة إلى ذلك, وبما أن الدولة بناء فوقي, لذلك هي تمثل بالضرورة سلطة الطبقات, وتحت سلطة الرأسماليّة ستمثل سلطة الطبقة البرجوازيّة وتحافظ عليها. لذلك من هنا رفض “ماركس” الدور الموضوعي للدولة كما وضعه لها “هيجل” , مؤكدا , بأن الدولة لا تستطيع أن تكون حلا للمشاكل الطبيعيّة, وإنما هي ستضل مدافعة وحامية لمصالح الطبقة البرجوازيّة. لقد اعتبر في نهاية المطاف أن الدولة والمجتمع المدني هما سلاح تنفيذي بيد البرجوازيّة, لذلك وصل في تحليلاته واستنتاجاته المنطقيّة القائمة على معطيات الظروف الموضوعيّة والذاتيّة للمرحلة التي عاشها, أن الدولة والمجتمع المدني كلاهما سيضمحلان أو سيتلاشيان مستقبلا.

     إن هذا الموقف لـ “ماركس” تجاه المجتمع المدني, جاء بعده موقف المفكر “أنطون غرامشي”, الذي ابتعد كثيرا عن  “ماركس”  بحيث لم يجعل المجتمع المدني مع القاعدة الاقتصاديّة الاجتماعيّة أساس الدولة, وإنما جاء عنده كجزء من  البناء فوقي, وهو يلعب دورا مهما كمساهم في ثقافة وأيديولوجيّة الرأسمال, من أجل بقاء وسيطرة الرأسماليّة. هذا وقد استخدم “غرامشي” مفهوم  (السيطرة) ليدلل على أن سيطرة طبقة اجتماعيّة واحدة على بقيّة الطبقات, لا يمثل السيطرة السياسيّة والاقتصاديّة فحسب, وإنما سيطرة نهج أو رؤية الطبقة المسيطرة في رسمها لطريق التغير الذي تريد إتباعه على أنه الطريق الأمثل أو النموذج أيضا, مثلما هي السيطرة على من قبلوا بهذا النهج ألتغييري على أنه أمر طبيعي, ووفق رضاهم وتعاونهم, ووفقا لـ “غرامشي”, فإن سيطرة الرأسماليّة في الغرب قد تم الحفاظ عليها بسبب تأثير جذورها العميقة التي امتدت في كل مسامات المجتمع.

     إن تحليل “غرامشي” لمعطيات الغرب الرأسمالي, ثم لمعطيات الثورة الروسية, جعلته يصادق على أهمية ثقافة وأيديولوجيا المجتمع المدني, حيث أشار إلى أن المجتمع المدني يساعد على تحدي القيم السلبّية السائدة, والعمل على غرس قيم جديدة في حساب النضال ضد الرأسماليّة.

     إن مفهوم “غرامشي” عن المجتمع المدني ضم كل المؤسسات المدنيّة التي لا تنتمي إلى صلات القربى – أي المرجعيات التقليديّة – والبعيدة عن الحكم, بل تلك التي تنتمي لمجموعات غالباً ما تجتمع أو تلتقي في اتحادات تجاريّة أو مهنيّة أو سياسيّة. فالمجتمع المدني في المحصلة يأتي عند “غرامشي” كموقف لحل مشاكل قائمة في المجتمع عبر الاتفاق.

     أما اليسار الجديد, فقد عوّل على المجتمع المدني الدور ألمفتاحي في حماية المجتمع أمام الدولة والسوق معا, وفي صياغة المشروع الديمقراطي القادر على التأثير في الدولة. هذا في الوقت نفسه أيضا فقد اعتبر الليبراليون الجدد أن المجتمع المدني يشكل موقفا نضاليّاً ضد الآيديولوجيات الهدامة, والأنظمة الاستبداديّة, لذلك فإن مفهوم المجتمع المدني يشكل هنا موقفاً هاماً ومناسباً في أجندة اليسار الجديد والليبرالية الجديدة على السواء.

المجتمع المدني في تاريخ ما بعد الحداثة :

     يعتبر تيار مابعد الحداثة في فهمه للمجتمع المدني أول خطوة تقدميّة تمت من قبل المعارضة السياسيّة في المنظومة السوفيتيّة ودول شرق أوربا عام /1980/, فمنذ ذلك الوقت انطلقت الإرهاصات الأوليّة العمليّة للمجتمع المدني داخل الحقل السياسي كبديل عن المجتمع السياسي القائم آنذاك. فعلى أية حال, في عام /1990/, ومع ظهور المنظمات غير الحكوميّة, والحركات الاجتماعيّة الجديدة على السلم العالمي, أصبح المجتمع المدني كـ (قطاع ثالث), المنطقة المفتاحية للعمل الاستراتيجي من أجل بناء النظام الاجتماعي العالمي البديل, وبالتالي من الآن فصاعد, فإن استعمال مفهوم أو فكرة المجتمع المدني من قبل الحوامل الاجتماعيّة لمرحلة ما بعد الحداثة , قد ساعد على سيادة مفهومين أو طريقين لحل قضايا المجتمع هما: المجتمع السياسي في صيغتيه الرأسماليّة والشيوعيّة, والمجتمع المدني كطريق ثالث.

     في لقاء واشنطن عام /1990/ الذي فرض شرطاً أساسيّاً من قبل (صندوق النقد الدولي) و (البنك الدولي للأعمار والتنمية) على الدول النامية المثقلة بالديون, والراغبة في أخذ القروض, ضرورة تطبيق حالات التقشف في مصاريفها تجاه مجتمعاتها, والسماح بإعادة هيكلة اقتصادها بما يتفق واقتصاد السوق, والفسح في المجال واسعا للحريات الفردية, ( وهو ماسمي بالشروط السري , أو النوايا الحسنة – المترجم ), وهذا في الحقيقة ما ساعد كثيرا على خلق المقدمات الأساسيّة للتأسيس من أجل المجتمع المدني في هذه الدول الفقيرة, والذي أريد منه أن يكون علاجاً للأمراض الاجتماعيّة والسياسيّة ولاقتصاديّة والثقافيّة السائدة في تلك الدول, في الوقت الذي عوّل على الدولة هنا فقط  تقديم الخدمات والضمان الاجتماعي.  بيد أن هناك بعض السياسيين من راح يقول بأن هذه التوجهات الجديدة في هذه الدول النامية لن تكون (عصا سحريّة) لخلق التغير المطلوب نحو تقدم شعوب هذه الدول, مثلما راح بعضهم الآخر يعلن أيضا بأن هذا التوجه الجديد سيخلق مخاطر جديدة في هذه المجتمعات الفقيرة, ( وهذا ما حدث فعلا – حيث ازداد الفقر والفوضى السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة – المترجم).

    يضاف إلى ذلك, أنه, مع نهاية عام /1990/ بدأت منظمات المجتمع المدني تنتشر في العديد من دول العالم , وأن بعض الدول راحت تتحول إلى الطريق الديمقراطي, وأصبح هناك قناعة بشرعيّة ومؤهلات الديمقراطيّة. ( قسم من هذه الدول راح تحت ضغط التحولات النظام العالمي الجديد, يفسح في المجال واسعا أمام التطبيق الديمقراطي مراعيّاً خصوصيات الواقع الذي تعيشه هذه الدولة أو تلك, وقسم آخر راح يمارس ويطبق الديموقراطيّة تحت العصا الأمريكيّة والغربيّة . – المترجم ).

     على العموم إن نظرية المجتمع المدني في مرحلة ما بعد الحداثة, راحت الآن تشغل مساحات واسعة من دول العالم, ولكن مع ضرورة الوقوف والتوضيح هنا على مدى أهميّة دورها وفعاليتها وسعة انتشارها أو قبولها ما بين الدول الغنيّة والدول الفقيرة على مستوى الساحة العالميّة. ولكن ما يلفت النظر هو أن المجتمع المدني إن كان في الدول الفقيرة أم الغنيّة, غالباً ما يبدو مرتبطاً بالدولة, الأمر الذي يجعله كلوحة عرض أو تكملة عدد بدلا من كونه بديلاً. ومع ذلك لازال هناك من يقول : إن الدولة هي الشرط المسبق للمجتمع المدني. 

العلاقة ما بين الديموقراطيّة والمجتمع المدني :

     إن الأدبيات التي ربطت ما بين المجتمع المدني والديمقراطيّة, تعود بجذورها إلى الكتابات الليبراليّة المبكرة, مثل كتابات ” الكسيس دي توكفيل”. ومع  القرن العشرين, كان هناك مفكرون أمثال ” كابريل ألموند ” و” سيدني فيربا ” اللذان قدما عبر وسائل وطرق هامة نظريات حددت دور المجتمع المدني في النظام الديمقراطي كشيء حيوي, حيث ناقش هؤلاء بأن العنصر السياسي للعديد من منظمات المجتمع المدني يسهل الطريق بشكل أفضل لإدراك المواطنة, كما أنه يعمل بشكل أحسن في مسألة التصويت الانتخابي, والمشاركة في السياسات, وضبط محاسبة الحكومات في نهاية المطاف. بل أن قوانين أو تشريعات منظمات المجتمع المدني كما يقول بعضهم, غالباً ما تعتبر دساتير صغيرة كونها اعتادت المشاركة في صياغة القرارات الدليموقراطيّة.

      أما المفكر “روبرت د . بوتنام”, وهو الأكثر حداثة فيقول: حتى في حال عدم وجود منظمات سياسيّة في المجتمع المدني, فإن المجتمع المدني سيكون حيويّاً من أجل الديموقراطيّة, وهذا يكون بسبب أنه يساعد على بناء المجتمع الرأسمالي. وإن الثقة, والقيم التي تحولت إلى الفضاء السياسي, ساعدت على تماسك المجتمع المدني مع بعضه بعضاً, وسهلت فهم ارتباطات المجتمع والمصالح التي بداخله.

     هذا ولم يزل هناك أيضا الكثير ممن لاحظ أن مناطق المجتمع المدني قد حازت الآن على نهوضاً مميزاً من القوة السياسيّة, دون أن تتدخل أيه جهة (فرد أو حكومة) في اختيارات من حقق هذه القوة. كما لاحظ بعض المهتمين بالفكر السياسي, أن مفهوم المجتمع المدني عندما يكون أكثر قرباً في علاقته مع الديموقراطيّة وممثلا لها, سيكون بالضرورة مرتبطا على التوالي بأفكار الأمّة والقوميّة معا .

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.