فلسطين حالة استعمار استيطاني اقتلاعي / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الخميس 30/11/2023 م …
لا يجوز توصيف القضية بأنها “صراع” أو “مشكلة” أو معضلة “دينية”، إنها حرب تحرير ضد استعمار من نوع خاص، لأنه استعمار استيطاني اقتلاعي إحلالي.
عانى الشعب الفلسطيني من الإحتلال العثماني (1516 – 1918)، والإستعمار البريطاني (1918 – 1948) الذي “وعد” الحركة الصهيونية سنة 1917 بفلسطين، قبل أن يُسلّمها البلاد سنة 1948، ومنذ ذلك الحين يستمر الاحتلال الصهيوني، بل يتوسّع، بدعم من الإمبريالية (وخاصة الأمريكية والأوروبية) والأنظمة العربية الرجعية.
غزا الاستعمار البريطاني فلسطين، إثر هزيمة الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، وتَبَعًا للاتفاقية الفرنسية البريطانية المعروفة باتفاقية “سايكس بيكو” سنة 1916 (اتفاقية سرية كشف عنها لينين بعد انتصار الثورة البلشفية)، ثم مَنَحَ الاستعمار البريطاني فلسطين للحركة الصهيونية لإقامة “دولة إسرائيل”.
كان وعد بلفور، في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 1917، بمثابة نقطة تحول في مأساة الشعب الفلسطيني، التي تجسّدت بتأسي الغرباء الأوروبيين دولةً في فلسطين سنة 1948، حيث تم طرد وتهجير ثُلُثَيْ الشعب الفلسطيني بالقوة المسلحة، خارج البلاد، وفق خطة تمت دراستها قبل عقدين من الزمن، ويعرف هذا الحدث باسم “النكبة”، وهو مصطلح عربي يعني: الكارثة، ومنذ ذلك الحين، يعيش جزء من الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة سنة 1948، وهؤلاء هم أحفاد 160 ألف فلسطيني أفلتوا من الطرد. أما أولئك الذين طردوا (ما بين 800 ألف و 850 ألف) فقد أصبحوا لاجئين في البلدان المجاورة (لبنان وسوريا والأردن ومصر) أو في الأراضي التي تم احتلالها لاحقاً سنة 1967، وخاصة في غزة حيث يشكل اللاجئون نحو ثُلُثَيْ السكان وهم لاجئون في بلادهم (النازحون، بلغة الأمم المتحدة)، وعاش الفلسطينيون في الأراضي المحتلة سنة 1948 كمواطنين من درجة دُنْيا، جُرِّدوا من حقوقهم وعاشوا في ظل نظام عسكري (حظر التجول وحظر التنقل دون تصريح من الحاكم العسكري، إلخ) لمدة عشرين عامًا، كما حصلت عشرات المجازر وتم هدم 531 قرية لمنع اللاجئين من العودة…
تشكّلت مجموعات مقاومة صغيرة منذ عام النّكبة، وتأسست حركة القوميين العرب سنة 1948 (في خلاف مع حزب البعث)، ثم تبلْوَرَت الفكرة والنّضال سنة 1951، من خلال نقاشات المناضلين المُؤَسِّسِين، وهم من بلدان عربية مختلفة (فلسطين والأردن وسوريا والعراق والكويت واليمن وموريتانيا ) ومن بينهم جورج حبش ووديع حداد وهاني الهندي وأحمد الخطيب وصالح شبل وحامد الجبوري وغيرهم، وأصدرت الحركة نشرات ومجلاّت بين 1951 و 1959، تتمحور مواضيعها حول “ضرورة الوحدة العربية والتحرّر من الإستعمار والثأر من الصهيونية”، ثم حذفت الحركة شعار الثّأر واستبدلته بشعار استعادة فلسطين، وأضافت الإشتراكية سنة 1959، وأصبح هدف حركة القوميين العرب: “تعبئة جماهير كافة أقْطار الأمة العربيّة من أجل تحرّرها من الإستعمار واسترداد فلسطين وتحقيق وِحْدَة الأمة العربية وإنجاز الإشتراكيّة”، وفق ما ورَدَ في مجلاتها “الرّأي” و “الحُرِّيّة”، وتم حَلّ الحركة إثر هزيمة 1967، ليتأسّس الفرع الفلسطيني تحت إسم الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين.
كان لحركة القوميين العرب فروع في عدة بلدان عربية في فلسطين وسوريا والعراق والأردن والبحرين وعُمان واليمن والكويت وغيرها، بهدف “تعزيز الانتفاضة الشعبية في جميع البلدان العربية ضد الاستعمار”، وقادت الحركة انتفاضة شعب عُمان في إقليم ظُفار، وقادت النضال ضد الإستعمار البريطاني وضد الحكم الملكي في اليمن وحكمت اليمن الجنوبي…
أنشأت جامعة الدول العربية منظمة التحرير الفلسطينية، سنة 1964، استجابة لطلب جزء من البرجوازية الوطنية الفلسطينية الحصولَ على أدوات نضال خاصة بالفلسطينيين، ثم تأسست حركة فتح في وقت لاحق على يد وطنيين فلسطينيين من خلفيات مختلفة (قوميون وإخوان مسلمون ووطنيون علمانيون إلخ ) وكانوا يدعون إلى “عدم التدخل في شؤون الدول”، وبالتالي فصل النضال من أجل تحرير فلسطين عن تحرير الشعوب العربية الأخرى، خلافًا لحركة القوميين العرب التي تعمل على تحرير البلدان الواقعة تحت الاستعمار المباشر (مثل اليمن أو دويلات الخليج ) أو الإستعمار غير المباشر (الاستعمار الجديد) ويشمل بقية البلدان العربية، مع استثناءات قليلة.
شكّلت هزيمة الأنظمة العربية وجيوشها خلال حرب 1967 تاريخ ولادة “اليسار الجديد” العربي، بما في ذلك الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي توصّل مُؤسِّسُوها إلى نتيجة مفادها أن الجيوش العربية النظامية ليست قادرة على إلحاق الهزيمة بالكيان الصهيوني الذي تدعمه الإمبريالية، ولن تكون هذه هزيمته سوى من قِبَل الشعب (حتى لو كان يعيش الظّلم والحرمان) بواسطة الحرب الشعبية طويلة المَدَى، على الطريقة الجزائرية أو الصينية أو الفيتنامية، وكانت مساهمةُ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مُهِمَّةً في توضيح أن الفاعلين الحقيقيين في صفوف الثورة هم الفقراء والعمال والفلاحون والرجال والنساء المسحوقون والمُضْطَهَدُون، وشدد قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين على الاختلافات بين اليهودية (كدين وهو ليس هوية وطنية) والصهيونية كأيديولوجية استعمارية وعنصرية.
ما هو دور التقدميين خارج فلسطين؟
لقد وُلِدَت الأيديولوجية الصهيونية في أوروبا، كما وُلِدَت الغيتوات والإبادة، وسبق أن أبادت الجيوش الأوروبية والمستعمرون الشعوب الأصلية في الأمريكتين ( منذ القرن السّادس عشر) وأستراليا ونيوزيلندا، واستَعْبَدَ المُستعمرون الأوروبيون ملايين الأفارقة وسَلَبُوهم حريتهم التي يتشدّق الأوروبيون بها خلال القرن الثامن عشر وأجبر المستعمرون الأوروبيون العبيد على العمل في الأراضي التي سلبوها من السّكّان الأصليين، لتصبح مزارع ضخمة. إن هذا العمل القسري والشّاق للعبيد الأيرلنديين في البداية، ثم للعبيد الأفارقة، هو الذي سمح بالتراكم السريع لرأس المال في أمريكا الشمالية والذي يستمر في التطور بفضل العمل شبه الإجباري للسجناء والعمال غير المستقرين والنساء في الولايات المتحدة، حتى خلال القرن الواحد والعشرين، وإن هذه «القيم» هي التي تشكل نموذجاً للدولة الصهيونية في فلسطين التي تسعى إلى إبادة الأحياء وإجبارهم على الهجرة من وطنهم، وتسعى إلى توسيع نطاق هيمنتها إلى سوريا (الجولان)، ومصر (سيناء)، وجنوب لبنان، والأردن، وأماكن أخرى «من النيل إلى الفرات»، ولذلك، من الضروري التنديد بقرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة سنة 1947 والذي يمثل صورةً عن الظلم الاستعماري التاريخي، باسم “المجتمع الدولي”، أو “القانون الدولي” الذي لا يعدو أن يكون أداةً للهيمنة، لأن هذا “المجتمع الدولي” يطبق جزءا من القرار 181، ويُهْمِل تطبيق القرار 194 الخاص بـ “حق عودة اللاجئين، فضلاً تعويضهم”، ويُريد المُتشدّقون بالمجتمع والقانون الدّوْلِيَّيْن أن تلعب المنظمات الفلسطينية دور المُساعد للإستعمار ( أي العَميل أو “الحركي”)، وإلا فهي متطرفة وإرهابية، خصوصًا إذا قاومت الإحتلال!
كان تقسيم فلسطين التاريخية وإنشاء الأمم المتحدة للكيان الصهيوني بمثابة إطار لِقَوْنَنَة وشَرْعَنَة طَرْدِ الفلسطينيين ( السكان الأصليين). إن إنشاء هذه الدولة الاستعمارية على وَطَن أرض الشعب الفلسطيني هو ظلم استعماري تاريخي، وهي جريمة حصلت في ظل الظروف التي أدّت إلى تأسيس الأمم المتحدة وفي ظل أيامها الأولى، عندما كانت الغالبية العظمى من البلدان في أفريقيا وآسيا تحت الحكم الإستعماري الفرنسي أو البريطاني، وكانت جميع البلدان العربية تحت الإستعمار، ويتمتع بعضها باستقلال شكلي، تحت إشراف وإدارة القادة العسكريين البريطانيين والفرنسيين.
حاليا، لا يتعلق الأمر بمعارضة سياسات الحكومة الصهيونية، بل بإلغاء هذا النظام الاستعماري الإستيطاني الذي لا يريد أن يكون له دستور ولا حدود، ولا يمكن أن يتم ذلك سلميًا، لأن الاستعمار عنيف بطبيعته، ولن ينتهي الإستعمار (أي نوع من الإستعمار) وخصوصًا الإستعمار الإستيطاني من خلال التفاوض والنّضال السّلْمي (إن سمح به الحكم الإستعماري)، بل من خلال النضال، وعلى المظلوم أن يختار الوسيلة المناسبة، على أساس الوسائل والإمكانيات، وبشكل عام، لا يترك الاستعمار أي خيار للمستعمَرين، لأنه يُقاتلهم بقُوّة السّلاح وبالإستيلاء على الأراضي والممتلكات، فيضطر الشّعب الواقع تحت الإستعمار إلى مُقاومته بنفس الوسائل، وبالتّجنيد الشّعبي، فالشعب هو حاضن المُقاومة…
إن الدولة التي أسسها الصهاينة – بدَعْم مُباشر من الإمبريالية – على أرض الشعب الفلسطيني ليست نتاجاً لأمْر إلَهي (أرض بلا شعب وهَبَها اللّه لشعب بلا أرض !!!)، بل هي دولة غير شرعية، وتنفرد بانعدام دُسْتُورٍ وبعدم رسم حدودٍ لها، وتستخدم ضد السكان الفلسطينيين – أصحاب البلاد الشّرْعِيِّين – القوانين الموروثة من الإحتلال التّركي (العثماني) ومن الإستعمار البريطاني، والتي يُتَرْجَمُ تأويلها إلى إجازة العبودية والعنصرية والتطهير العرقي والإبادة والجرائم ضد الإنسانية… لكن هذا الإستعمار الإستيطاني الذي يعتمد عقيدة عنصرية تُجيز الإقصاء والإبادة، يُصبح في نظر القوى السياسية أو الاقتصادية أو الإعلامية في البلدان الإمبريالية ” الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط… (التي لديها) الجيش الأكثر احترامًا للأخلاق وethics…”
لقد أثبتت معركة غزة أن هناك بعض التّغْيِير في ميزان القوى، لكنه – رغم تَوفُّر الإرادة – ليس لصالح الشعوب المضطهدة حاليا، بل يتمثل التّغيير الأساسي في إعادة تنظيم أو إعادة توزيع للهيمنة على حساب الإمبريالية الأمريكية والأوروبية (على حساب الناتو)، لصالح القوى الرأسمالية الأخرى (الصين وروسيا والبرازيل وإيران وغيرها) التي ترغب في توسيع نفوذها من خلال إقامة عالم متعدد الأقطاب بدلاً من عالم أحادي القطب، وهو تغيير قد يُخَفّف بعض الحمل لفترة وجيزة، لكن مستقبل البروليتاريا والمستغَلِّين والمضطَهَدين والمستعْمَرين – مثل الفلسطينيين – يتطلب تولِّي المعنيين أمورهم بأنفسهم، وهم في حاجة إلى المساعدة غير المشروطة من التّقدّمِيِّين والثوريين في العالم، لتحقيق أهدافهم في تحرير الأرض والإنسان.
يوضح تاريخ نضال الشعب الفلسطيني أن فلسطين كانت ولا تزال أرضًا يسكنها شعبها (أو جزء من شعبها) الذي يدافع عنها ضد المستوطنين القادمين من مائة بلد للإستيلاء على الوطن وعلى الأرض بالقوة، بمساعدة الإمبريالية وأعضاء حلف الناتو، وبعد مرور أكثر من مائة عام على وعد بلفور، يجب أن تُصبح فلسطين المكان الأقل أمانًا للشركات الرأسمالية المُستثمرة في فلسطين المحتلة، وللسياح المفتونين بالدعاية الصهيونية، وغير آمنة خاصة للمستوطنين الذين يرغبون في تصديق أنهم يحتلون “أرضًا بلا شعب”، ويجب أن يتواصل هذا الإتجاه (في ميزان القوى) لكي ترتفع تكاليف الإستعمار الإستيطاني، مقارنة بإيراداته وأرباحه…
التعليقات مغلقة.