أبو الصادق.. شاعر أناشيد الفدائيين والثورة / رشاد أبو شاور
رشاد أبو شاور – السبت 02/12/2023 م …
أبو الصادق حيّ بما تركه لنا من ثروة تجلّت في أناشيد سيبقى شعبنا وأحرار أمتنا ينشدونها، ولن تنساه غزة مسقط رأسه، والقدس مهوى قلبه، وسيترنّم بها كل ثائر ومجاهد في وطننا العربي الكبير.
غزة يا غزتنا
يا مكوفلة بالنار
غزة يا غزتنا
يا سواعد الإصرار
(من أناشيد أبو الصادق لغزّة قبل نحو 50 عاماً)
***
لو سألت فلسطينياً عن صلاح الدين الحسيني، فربما يحّك جبينه باحثاً في ذاكرته عن هذا الإسم، وبعد وقت من الشعور بالعجز عن التفطن لأجابك بلهجته الشعبية: والله ما باعرف. ولو سألته عن “أبو الصادق” فلن يكون الجواب مغايراً، رُغم أن كلمات “أبو الصادق” تتردد يومياً، ويترنّم بها فلسطينيون وفلسطينيات كثيراً في المناسبات الوطنية وغيرها، وهذا أمر مثير للحيرة والتساؤل.
في بداية انطلاقة الثورة الفلسطينيّة الكبرى (1936 – 1939) مال الفلسطينيون تقية، وربما تواضعاً، لتنكير أسمائهم، وعدم التعريف بأسمائهم كاملة، ثم درجوا على هذا العُرف حتى بات قاعدة يتبعونها، وهكذا درجوا على هذا العرف في مرحلة انتشار الثورة الفلسطينية المعاصرة العلني الجماهيري.
أيّام الانتداب البريطاني، ومع بدء مواجهته بالسلاح، صعد الثوار إلى الجبال، وكمنوا في المغاور والكهوف، ولجأوا لإخفاء أسمائهم، وتكنوا بأسماء أبنائهم، فهم “أبو جهاد” و”أبو فايز” و”أبو صقر” و”أبو الليل”.. ولم يكن بمقدور الاحتلال البريطاني التعرّف على أصحاب تلك الأسماء وقراهم ومدنهم، وهكذا كانت التكنية للتضليل والتتويه.
ولأن الأسماء تتكرر وتتناسخ لم يكن سهلاً أن يتعرّف حتى عيون الاحتلال على أولئك الأبطال، وإن تم ترداد أسمائهم تلك في أغاني الأعراس والمناسبات تمجيداً لبطولاتهم ومآثرهم.
أبو الصادق، صلاح الدين الحسيني، أحد أبرز مبدعي أناشيد وأغاني الثورة الفلسطينية المعاصرة. هو من مواليد غزة عام 1935، وانتسب لحركة فتح عام 1967، والذي اجتذبه ونظّمه لحركة فتح هو أحد المؤسسين، “أبو الهول”، هايل عبد الحميد، بعدما تعرف على موهبته الشعرية الشعبية.
وعائلة الحسيني مشهورة بأنها مقدسية، ولكنها موجودة أيضاً في غزّة، وهي عائلة عريقة، وذات حضور وطني يعتبر امتداداً للعائلة في القدس، وعموم فلسطين.
تعززت معرفتي بــ “أبو الصادق” في دمشق، وبيروت، وتونس، وبشقيقه القاص الأديب زين العابدين الحسيني، صاحب المجموعة القصصية الجميلة “خميس يموت أولاً”.
لحّن أناشيد أبو الصادق عدد من كبار الملحنين الفلسطينيين والعرب، يتقدمهم: عبد العظيم محمد، حسين نازك، مهدي سردانه، علي إسماعيل، صبري محمود، وجيه بدرخان، محمد الجمل، وغيرهم من كبار الموسيقيين المشهورين، والذين ربما لا تعرفهم أجيال هذه الأيام، حتى لو استمعت للأناشيد التي أبدعها أبو الصادق.
عام 1975 أصدر “الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين” مجموعة شعرية بعنوان (أغاني الفدائيين) لأبي الصادق، وبتقديم أمين عام الاتحاد آنذاك المفكّر والباحث والشاعر ناجي علوش، “أبو إبراهيم”: “إن للأناشيد طاقة تعبوية غير محدودة، فهي نتيجة اتحاد الكلمة الشعريّة والصوت واللحن، توقظ مشاعر عميقة، وتثير كوامن الأشواق والجروح. ومن هنا تأتي أهميتها وأهمية انتشارها”.
ويضيف: “وحين تذكر أناشيد الثورة لا بُدّ أن يرد اسم أبو الصادق، ذلك أنه رافقها منذ ولادتها وعايشها، وساهم مساهمة جادة في نموها وتقدمها” (ص8).
وضمّت مجموعة “أُغنيات الفدائيين” نصوص الأغنيات، والأناشيد، مع نوطة لكل أغنية ونشيد، وهكذا يمكن الحفاظ على اللحن مع الكلمات، وقد دوّن الموسيقار الفلسطيني حسين نازك النوطات، وحفظ للأجيال الألحان مع الكلمات.
تبدأ المجموعة بنشيد “العاصفة” الذي يتذكره من كان يستمع لإذاعة “صوت العاصفة” التي كانت تفتتح بثها اليومي به، والتي يقول مطلعها:
بسم الله بسم الفتح
بسم الثورة الشعبية
بسم الدم بسم الجرح
اللي بينزف حُريّة
وتتردد صيحة: عاصة عاصفة عاصفة، في خاتمة النشيد (ص11).
قد يتحسّر أبناء ذلك الجيل الذي عاصر النشيد وبطولات “العاصفة” على تلك الأيام، وهم يجددون الآمال هذه الأيام مع “طوفان الأقصى”، والفلسطينيون لم يفقدوا الأمل رغم الخيبات، ودائماً نهضوا وجددوا العهد مع وطنهم وقضيتهم، وواصلوا أناشيدهم وأغانيهم التي تُعبّر عن الأمل وتبعثه في النفوس.
واكب “أبو الصادق” الثورة الفلسطينية المعاصرة منذ تأججها في الأغوار بعد هزيمة حزيران 67، ومع بروز الحضور الفدائي، فكتب نشيد “الكرامة”، والذي يُمجّد معركة “الكرامة” البطولية، وما تحقق فيها من وحدة وطنية بين الفدائيين الفلسطينيين والجيش الأردني، فأنجزا معركة بطولية كانت بداية للرّد على هزيمة حزيران. يقول مطلع النشيد:
وحدنا الدم يا كرامة
وحدنا الدم
والشمل التم يا كرامة
الشمل التم
في جبال النار فدائية
بين الأغوار
فدائية
عاجبين الأرض العربية
وحدنا الدم
لحرب التحرير الشعبية
وحدنا الدم..وحدنا الدم
معركة الكرامة وحّدت الفدائي والجندي، وتحققت بانتصار معركة “الكرامة” التي وقعت في شرقي نهر الأردن، وألحقت بجيش العدو الصهيوني هزيمة منكرة، ورفعت معنويات الجماهير، وأعادت لها الثقة بأن الانتصار ممكن التحقق بالوحدة الوطنية.
أحياناً كتب “أبو الصادق” نصوصاً صغيرة الحجم، ولكنها عميقة مكثفة ومشحونة، مثل “اعطيني جعبة وبارودة”، وهي تجسّد ما يطلبه ويحتاجه الفدائي للتفرّغ لخوض المعركة مع العدو:
أعطيني جعبة وبارودة
وزاد تلات تيام
تلات ألغام
واطلقني
ومش طالب
ترافقني
إحمي لي ضهري يا أخويا
وما تخلّي إيدين الشّر
وعينيها
تلاحقني (ص 31)
لكن أيادي الشر وعيونها لاحقت الفدائي الفلسطيني، وأخذت تطارده نيابة عن “العدو” وصنفته “فدائي شريف” و” فدائي غير شريف” لتبرير مطاردته وقتله، وقتلت من صنفتهما معاً، وكان الهدف قتل الفدائي، أي فدائي، ولذلك صاح “أبو الصادق”:
احمي لي ظهري
يا خويا
وأخوه لم يحم ظهره، فقد غرس خنجر غدره في ظهره.
كان أبو الصادق مؤمناً بأنه عربي فلسطيني، وأن الفدائي الذي يكتب له وعنه وباسمه هو عربي فلسطيني، وأنه اختار أن يكون (فادياً) لأمته، لأن فلسطين ليست قضية الفلسطيني وحده، بل قضية الأمة من محيطها إلى خليجها، ولذا يرتفع صوته في نشيد “عربي فلسطيني”:
دمّي..دربي
بلدي..اسمي ..عنواني
عربي..فلسطيني (ص43)
بكلمات قليلة يرسم أبو الصادق هوية الفدائي الفلسطيني، وعنوانه، ويحدد انتماءه، ولكن هذا لم يكن ليرضي الطائفيين وإلإقليميين، في بلاد العرب مشرقاً ومغرباً، فتمت ملاحقته، وتواصل اغتياله، ولكنه لم يمت..وانظروا إلى بطولات غزّة، والضفة الفلسطينية، وحجم الحرب على شعب الفدائي، وأهوالها..وقدرته على الإنبعاث من الموت، ومن تحت الدمار! وللتأكيد على جوهر الثورة الفلسطينية، ثورة الفدائي، يُنشد أبو الصادق “مدّي يا ثورتنا”:
مدّي ذاتية شعبية
مدّي بأمتنا العربيّة (55)
ويعود لتأكيد فكرته الجوهرية في الوعي العربي الفلسطيني في نشيد “هادي الثورة”:
هادي الثورة عربية
هادي الثورة شعبية
ويعمّق الوعي بالمخاطر التي تتهدد مسار الثورة:
مش عربي أبداً مش عربي
اللي بيطعن ثورة شعبي
مش عربي أبداً مش عربي
اللي بيرمي الشوك بدربي
ومن قبل (كُلّل) السيّد المسيح بالشوك عندما حمل الفكرة وبشّر بها: البشر أخوة، وطلب من (حوارييه): اذهبوا وبشّروا الأمم..رافضاً الانغلاق، والتمييز بين البشر.
دائماً رددت على مسامع الصديق “أبو الصادق” طربي واستمتاعي بنشيد “طّل سلاحي”:
طلّ سلاحي من جراحي
يا ثورتنا طلّ سلاحي
ولا يمكن قوة في الدنيا
تنزع من إيدي سلاحي
طلّ سلاحي (ص71)
مرّات كثيرة هيّء لأعداء عروبة فلسطين أنهم أجهزوا على ثورة فلسطين، ومقاومتها، وعلى حضورها العربي والعالمي، ولكنها تنبعث من الرماد متجددة، ومنها ينطلق طائر الفينيق، ويبهت المتآمرون قصار النظر. فها هو الذي تتجدد حياته ينهض من الموت، أليس هذا ما تحققه فلسطين في انبعاثها المتجدد منذ 7 تشرين أوّل وحتى يومنا؟ وإلى وقت يمتّد مبشراً بفجر وولادة فلسطين العربيّة المنتصرة على كل من كللوها بالشوك، وفركوا أيديهم الدموية وكأنهم انتهوا منها، فإذا بها تنتفض ويتجدد سّر حياتها بكل ما تختزنه في روحها من معان وقيم إنسانية وحضارية ووجودية لأمة عريقة قلبها فلسطين.
أقام أبو الصادق في القاهرة، بعيداً عن غزة التي ولد فيها وأحبها، لأنه رأى فشل مشروع “أوسلو”، وتوفي فيها عام 2011 عن 76 عاما.
أبو الصادق حيّ بما تركه لنا من ثروة تجلّت في أناشيد سيبقى شعبنا وأحرار أمتنا ينشدونها، ولن تنساه غزة مسقط رأسه، والقدس مهوى قلبه، وسيترنّم بها كل ثائر ومجاهد في وطننا العربي الكبير.
التعليقات مغلقة.