حرب الحضارة الغربية في غزة
الأردن العربي – الأربعاء 06/12/2023 م …
تركيبة الأنظمة الغربية غير مصمّمة لسباقات التحمل، وهي أكثر خبرة بالحروب الخاطفة وسرقة الانتصارات بأسلوب الصدمة، أي اختيار نقطة معينة من المواجهة وترميزها واختصار الحرب بها ودفق هائل من النار لاقتناص هذه النقطة بالتحديد.
شهران متواصلان من الجرائم المستمرة في غزة. تجربة جديدة من تجارب البشرية في حروبها وجرائم من مروا عليها. الاختبار هذه المرة حول كيفية تفاعل العالم مع استخدام كل ما يمكن استخدامه من التطور في إنتاج الأسلحة ووسائل القتل الأخرى المتنكرة بالنعومة، كالحصار والتجويع وقطع المياه والكهرباء… في سبيل قتل مليونين ونصف مليون من البشر في بقعةٍ جغرافيةٍ بالغة الصغر.
حدود المختبر غزة، ومادة التجارب أجساد الناس بكل أعمارهم وأشكالهم وأدوارهم، بدءاً (وأكثر تركيزاً) بالأطفال، حتى أولئك الذين لم يحصلوا بعد على أسماء.
أصحاب الاختبار قادة العالم الحر، وأصحاب الحضارة المتفوقة أخلاقياً وقانونياً واقتصادياً وحضارياً بصورةٍ شاملة، والتي مزقت مكبرات الصوت العالمية وصمّت الآذان لسنواتٍ طويلة بترديد المعزوفة الحضارية التي تعايرنا بتأخرنا الفكري الذي لا يتناسب مع تقدمها، ويعكر عليها مهمة تطوير العالم، ويؤخرها عن مهمتها التي كلفت بها نفسها.
وهؤلاء أيضاً هم الذين يعايروننا بتمسكنا بدياناتنا القديمة وقيمنا غير العصرية، وما زالوا يدعوننا إلى مثل ما ذهبوا من معاداة الإله والانقلاب عليه أينما وجد أثر منه، في أي دينٍ أو فكرةٍ أو حكمة، واستبداله بأيديولوجيا حقوق الإنسان التي ابتكروها كمحصلةٍ أخيرة خلاصية لتاريخ البشرية من الأفكار، والتي بعدما وجدوها قال قائلٌ منهم إن التاريخ انتهى، ولن تحدث صراعات بعد الآن؛ من انتصر فقد انتصر، ومن هزم فقد أقفلنا عليها باب الماضي، وفتحنا باب المستقبل لمن التحق بنا، نحن أصحاب الحضارة المفردة المنتصرة.
أستعيد هذا السياق من عمق الصراع الحالي للقول في هذه اللحظة بالتحديد إن هؤلاء هم أنفسهم من أوصوا بمتابعة الحرب على غزة، بعدما أدت مرحلتها الأولى إلى جرائم ضد الإنسانية والطفولة والأخلاق البشرية والشرائع المتراكمة عبر كل الحضارات والأديان والآلهة، بدءاً بآلهة العالم القديم المتعددين، ووصولاً إلى الإله الواحد الذي لا شريك له.
هؤلاء أوصوا باستمرار هذا القتل الجماعي الذي يشغّل خاصية “تحديد الكل”، ثم ينقر المشغل زر إطلاق القذائق وصواريخ البارود والنار والفسفور وما لا علم لنا به من أنواع النيران الحارقة (لأن من اخترعوها أناس أكثر تفوقاً حضارياً، ويعرفون من أين تحرق الكتف وتنتزع العيون والأمعاء وتشوى الأجساد…)، ثم يقتل ألفاً أو ألفين و20 ألفاً من الأبرياء، لتحقيق نتيجة سياسيةٍ تناسب مصلحته.
هؤلاء يرتدون البزات الفاخرة، ويهتمون شديد الاهتمام بلونها ولون ربطات العنق المنسقة معها، ولون المناديل الخارجة من جيوبها، ويصففون شعرهم، ويخرجون على منبر البيت الأبيض الناصع وداونينغ ستريت والإيليزيه اللذين لا يقلان نصاعة وصياعة، ليتحدثوا عن حقوق الإنسان وضرورة التزام الأمم بها، وفداحة أن يحكم متدينٌ أمة أخرى، وخطورة أن لا تشبه نساء تلك الأمة أمة معاداة الآلهة، والضرورة القصوى لتوحيد الأشكال والأنماط والرغبات والآراء باتجاهٍ حضاري تاريخي بشري واحد، وهو اتجاه مصلحة الأقلية الغربية وسيادتها على بقية العالم.
مشهدٌ واحدٌ يكفي في مختبر غزة لشرح عمق النفاق الذي تتضمنه كل مواقف هذه الدول، وهو “المنظر” الذي لا ينسى لجون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، وهو يعتصر نفسه ويرقص حاجبيه ويطوع حركة حنكه لتعوض غياب حنكته، وهو يتباكى على خسائر الكيان الصهيوني في السابع من أكتوبر، ثم بعد شهرين، يخرج صاحب الوجه الكاريكاتيري نفسه -وهو ليس وصفاً متنمراً، لأن حركات الوجه في ذلك اليوم لم تكن نعمة الله، بل شكل حيلته ومحاولاته (كيربي)- ليقول: نحن نعارض وقف “إسرائيل” إطلاق النار في غزة، ونؤيد العملية العسكرية في جنوب القطاع.
ماذا يعني هذا الموقف في السياق أعلاه؟ ببساطة هو تأكيدٌ حاسمٌ على حقيقةٍ باتت دامغة في العلاقات الدولية، وهي حقيقة تعني لشعوب العالم بدرجةٍ مماثلة للشعب الفلسطيني ولشعوب الشرق الأوسط، إن لم تكن أكبر، ذلك أن الفلسطينيين وأهل المنطقة يعرفون هذه المواقف بدرجاتها السابقة لحرب غزة على مستوى الحروب السابقة التي عايشوها، لكن درجة الإجرام في الحرب الحالية مختلفة، والحقائق التي تفرزها عن هؤلاء مختلفة أيضاً.
هذه الحقيقة الأكثر بروزاً من تصريحات كيربي وأمثاله تقول إن الحضارة الغربية بكل ما وصلت إليه لم تكن يوماً مؤهلة لقيادة العالم، بل إن مشاركتها حضارات أخرى في رسم شكل المستقبل تشكل بذاتها خطراً على البشرية.
إن قبول هؤلاء، فضلاً عن دعمهم ومساعدتهم، في حصول أكبر جريمة إبادة معروفة منذ عقود طويلة هو إقرار ضمني واضح بأن القلة العالمية أفرزت نظاماً سلطوياً في دولها لا يسمح سوى بوصول الأكثر تخلياً عن القيم الإنسانية والأخلاقية، ذلك أن ما وصفه فريديريك نيتشه بـ”قتل الإله” هو النص الأصلي للترجمة العملية التي نشاهدها في غزة على الهواء مباشرةً.
والفادح في الموضوع هو أن الكيان الصهيوني الذي يرتكب ذلك بيديه يريد تثبيت هويةٍ دينيةٍ واستغلالها بأبشع الصور، من أجل تحقيق مكاسب عالمية للأقلية العالمية، وللمتخلفين حضارياً، ذلك أن المتخلفين قيمياً لا يمكن أن يكونوا متفوقين حضارياً.
هذه الحرب أعادت تعريف التقدم والتخلف بصورةٍ تجريبيةٍ مدهشة. العالم يرى ويفهم. الشعوب ليست غبية، والذاكرة تتراكم، والتناقض يصرخ من تلقاء نفسه. الشعوب ترى أنه لا يمكن لصاحب قيم الإخوة والتسامح وإكرام الأسير أن يكون إرهابياً أو متخلفاً حضارياً. كما لا يمكن لجون كيربي أن يكون متقدماً حضارياً، وأن ينتمي إلى العالم الأول!
العالم الأول هنا في غزة، وفي لبنان وسوريا واليمن تحديداً، وفي إيران والعراق، وفي كوبا وفنزويلا، حيث يسير الحفاة، الحفاة حرفياً، إلى سطوح سفن الكيان، من أجل ماذا؟ نصرة المظلومين وحماية السيادة والإرادة السياسية والاستقلال بالنفس وبالوطن.
هكذا، ومع تشكل المشهد الميداني، يتشكل المشهد الحضاري، وتعاد التعاريف إلى حقيقتها، وتنتزع الأقنعة عن وجوه أصحاب الياقات البيض الذين لا تعنيهم ألوان أخرى، خصوصاً عندما تكون لجلود البشر والأقوام.
بنتيجة هذه الحرب، صار واضحاً أن نزع الإنسانية عن الضحايا هو فعل سياسي مقبول في الغرب، لأن هؤلاء لا يشبهون التعريف المعجمي الغربي للإنسان، وهو التعريف الذي يعتبر الإنسان كائناً بيولوجياً متجمعاً من الغبار الكوني أبيض اللون، غالباً ما يكون بعيون غير داكنة، كما بقية ألوانه، ولا يوجد امتداد إلهي له، وهو بالتالي من جهةٍ كيان تافه لا وصل له بخالقٍ أو حياة أخرى، ومن جهةٍ ثانية هو أكثر علماً من الإله الذي تتحدث عنه الحضارات والأديان الأخرى، والتفريق بين تفاهته وعظمته يكون بحسب المصلحة بالطبع.
هذا النفاق الذي تم تأكيده في مختبر غزة، وبدماء أطفالها، ليس معطى بسيطاً في العلاقات الدولية. إنه على العكس من ذلك انهيارٌ عالمي في الصورة التي عممها الغرب عن نفسه طوال صراعه مع الاتحاد السوفياتي السابق، وبعد ذلك في “حربه على الإرهاب” خلال المرحلتين وحتى اليوم في صراعه مع الحضارات الأخرى.
حرب غزة بهذا المعنى هي حرب مباشرة في صراع أوسع، هو صراع الحضارات الذي يعيشه العالم منذ سنوات، والذي تتفجر حروبه في مناطق مختلفة من العالم. في أوكرانيا أشعلت الحضارة الغربية حربها مع الحضارة الروسية لإبقاء سيطرتها على العالم، واختارت قلب تلك الحضارة حتى تشبه الحرب الحروب الأهلية، وتكون لها المفاعيل المدمرة نفسها التي لتلك الحروب.
لذلك، لنا أن نتوقع ونتذكر دائماً في الوقت نفسه أن النمط المفضل لحروب الحضارة الغربية على الحضارات الأخرى هو نمط الحروب الأهلية. يمكن النظر أيضاً إلى قضية تايوان، حيث تجهز وصفة لحربٍ أهليةٍ أخرى تفيد حرب الحضارة الغربية على الحضارة الصينية الصاعدة.
وبالتأكيد، فإن قراءة هذا التدرج الطبيعي في اختيار الغرب لحروبه ضمن صراعاته يقود إلى استعادة “الربيع العربي” إلى الأذهان، فهل كان سوى حروبٍ أهلية أشعلت لتعطيل حضارةٍ تبدو متوهجة في حضورها، على الرغم من كل مشكلاتها؟
إلى أي استنتاجٍ يقود ذلك بما يخص الحرب الحالية؟ ببساطة، السبب الأكثر إثارة للاستياء في الغرب أن يضطر هو، أو محطته المتقدمة “إسرائيل”، إلى خوض الحرب بصورةٍ مباشرة، وفي ذلك فضيحة للأهداف وحقائقها.
“إسرائيل” زرعت لتكون مرعبة، وصممت في حمضها النووي لكي تكون قوة قتل لا دولة، وعصابة تصفية وحصار وابتزاز. ببساطة، عصابة جريمة بقدرات دولة متقدمة، وهذا ما يفسر عدم سهولة لجمها عن القتل حين تتطلب المصلحة الغربية التخفيف من وقعه.
لكن أن يضطر الغرب إلى تركها لتخوض حربه الحضارية هو أسوأ ما يمكن أن يحدث له في هذه اللحظة من التاريخ. هذا يشبه إلى حدٍ ما اشتراك قاتلٍ متسلسل في مسابقةٍ عالمية لحقوق الإنسان.
هذا هو التفسير الوحيد لما نسمعه بين الفينة والأخرى من دعوات المسؤولين الغربيين “إسرائيل” إلى احترام قوانين الحرب. المعنى الضمني مختلف عما يصرحون به. فعبارة: الولايات المتحدة تؤيد العملية الإسرائيلية في جنوب غزة، تعني: اقتلوهم. اقتلوا الأطفال والشيوخ والنساء. اقتلوا الجميع إن اقتضى الأمر ذلك، لكن برفق. الأهم ألا تتناثر الدماء كثيراً، الدماء مروعة، لكن الموت جميل ومباح، بل مطلوب.
لذلك كله، فإن الحرب الإسرائيلية المسعورة على غزة، في مرحلتيها، وفي شمالها وجنوبها، وبكل تفاصيلها ومجازرها والأرواح التي أزهقتها “إسرائيل” فيها، هي حرب الحضارة الغربية على الحضارتين المتداخلتين، العربية (بكل دياناتها) والإسلامية التي تتجاوز العالم العربي.
وهذا بالتحديد عمق ما يجري، ومنه تتفرع المصالح السياسية والاقتصادية، وخطوط الطاقة ومخزوناتها، ومشروعات الموانئ وطرق التجارة، والصراعات الناعمة الأخرى، وهي حرب، كلما استمرت بشكلها الحالي، ينتصر فيها المقتول على القاتل. هذا ما يفسر معنى الحرب الوجودية بالنسبة إلى “إسرائيل”.
لكن بالنسبة إلى سيطرة الحضارة الغربية، فإن وجود “إسرائيل” هو مسألة وجودية أيضاً. تفكك “إسرائيل” سوف يكون الحدث الصارخ الدال على انتهاء الزعامة الغربية للعالم بصورةٍ نهائية وحاسمة، وصفارة نهاية الجدل العالمي حول ذلك. هل هذا كل شيء؟ بالتأكيد لا. اليوم التالي لحدوث ذلك سوف يكون يوم الانطلاقة لديناميةٍ عالمية جديدة، بخطابٍ مشبعٍ بالرغبة في محاسبة الغرب على تاريخ حروبه على الحضارات الأخرى.
يقود ذلك إلى فكرتين؛ أولهما أن الغرب سيحاول في المرحلة المقبلة تعزيز جهوده لإعادة تفعيل الحروب الأهلية في المنطقة، وثانيهما أن قوى المقاومة التي تدرك هذه الأبعاد سوف تصب جهودها على القضية المركزية، مع إدراكها أن الصراع طويل ومقعد، لكنه واضح المسار والمآلات، وهو ما يفسر كل خطواتها، ثم إن دروس الحرب في أوكرانيا ماثلةٌ للجميع. لا تعطِ الغرب انتصاراً سريعاً، وهو سوف يتكفل بهزيمة نفسه على المدى الطويل.
تركيبة الأنظمة الغربية غير مصمّمة لسباقات التحمل، وهي أكثر خبرة بالحروب الخاطفة وسرقة الانتصارات بأسلوب الصدمة، أي اختيار نقطة معينة من المواجهة وترميزها واختصار الحرب بها ودفق هائل من النار لاقتناص هذه النقطة بالتحديد، ثم دفق أكثر غزارة عبر العالم لدعاية الانتصار فيها على أنه انتصار في الحرب كلها.
هذا بالتحديد ما تم إفشاله في أوكرانيا، ثم الآن في غزة. ولو كانت الذاكرة تسعف أكثر قليلاً، لقلنا إن بداية افتضاح هذا النسق كانت في عدوان تموز 2006 على لبنان.
التعليقات مغلقة.