تونس – النهضة من الإفلاس السياسي إلى الإفلاس المالي؟ / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الثلاثاء 12/12/2023 م …
حكمت “النهضة” البلاد لعقد كامل، من خلال تحالفات مع الدّساترة ورجال الأعمال الفاسدين وبعض الأحزاب الصغيرة التي يمكن السيطرة عليها بسهولة، وأنفقت النهضة مبالغ خيالية أثناء الحملات الإنتخابية بداية من سنة 2011 (المجلس التّأسيسي) والإنتخابات اللاحقة ( 2014 و 2019 ) ولم تهتم “النهضة” التي كانت تُسيطر على الحكومة والبرلمان وكافة أجهزة السّلطة بتنمية ثروات البلاد والبحث عن حلول للمُعطّلين عن العمل والفُقراء، بل تقاسمت قياداتها مبالغ الدُّيُون التي يُسدّدها المواطنون، واعتبرت السّلطة “غنيمة” يتقاسمها زعماء وقيادِيُّو الإخوان المسلمين الذين راكموا الثروات في أوروبا والخليج، خلال العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين، ولم تتحسن وضعية البلاد وسُكّانها، باستثناء أقلّية اسْتَثْرَت على حساب الأغلبية، وبذلك لم تُلَبِّ النهضة أيًّا من مطالب المواطنين الذين انتفضوا بنهاية سنة 2010 وبداية 2011، بل ساءت حالهم، ولذلك تراجعت شعبية تيّار الإخوان المسلمين (النّهضة) وتفاقم الغضب الشّعبي ضد برامجها وسياساتها وممارساتها لمّا كانت تقود الإئتلافات الحكومية التي حكمت بين 2012 و 2021 وأدّت إلى زيادة ثروات قياداتها بالتوازي مع زيادة الدُّيُون الخارجية للبلاد وتعرّضها للعجز عن السّداد، فضلا عن هيمنتها على مؤسسات وأجهزة ومفاصل الدّولة، غير إن الرئيس قيس سعيد وضع حدًّا لهذه الحركة الجماهيرية، يوم 25 تموز/يوليو 2021، وحاز على تأييد قسم هام من المواطنين الذين ضاقوا ذرعًا بسلطة الإخوان المسلمين، فضلاً عن دعم الجيش والأمن في الدّاخل والجزائر في الخارج، غير إن الوضع الإقتصادي ازداد سوءًا وقضمت السّلطة الحُرّيات وعالجت الفكر المُعارض بالإعتقال والقمع الذي طال سياسيين وإعلاميين وقُضاة وفنانين ونقابيين وغيرهم، لكن هذه الممارسات لم تُفِد حزب الإخوان المسلمين (ولا غيرهم من أحزاب المعارضة) بل قد تُواجِه “النّهضة” مشاكل مالية، بعد تراجع شعبيتها، حظْر نشاطها واعتقال جزء هام من طاقمها القيادي…
لم تتمكّن “النهضة” من توسيع رُقعة التّعاطف معها أو حتى تجنيد مُناضليها والمُستفيدين من فترة حُكمها، للإحتجاج ضد إزاحتها أو للدّفاع عنها، بل أصبحت عاجزة عن رد الفعل ولم تتمكّن من الصّمود بعد فرض قيس سعيد إجراءات استثنائية تستهدف النهضة وحُلفاءها، ومن بينها إقالة الحكومة وتجميد أعمال البرلمان الذي كان يرأسُهُ راشد الغنوشي، مؤسس ورئيس “النهضة” ورفع الحصانة عن النّوّاب المُنتَخَبِين، وإغلاق مقرات النهضة، وتعود عُزلة الإخوان المسلمين إلى ارتفاع حجم البطالة والفقر والأُمِّيّة وارتفاع حجم الدّيُون العمومية وانهيار منظمة الصحة والتعليم والخدمات، مع الإرتفاع المُشِطّ للأسعار وانهيار مستوى معيشة المواطنين…
تَمَيّزت قيادات النّهضة بتهافتها على السُّلْطة وبنهْب المال العام، رغم ادّعاء التّقْوى والوَرَع، ما أثار العديد من التّساؤلات بشأن مصادر تمويلها ومصادر الثراء السّريع للعديد من قياديِّيها الذين عمل بعضهم – قبل الوُصُول إلى السّلطة في تونس – مُستشارًا لدى حكومات مثل السودان أو قَطَر، أو شَغَل وظائف وهمية لا تُلائم مُؤَهّلاتهم وخبراتهم، وكذلك بشأن مبالغ القُروض الخليجية (من قَطَر) التي اختفت ولم تظهر في حسابات المصرف المركزي أو في ميزانية الدّولة، فضلاً عن المبالغ الطّائلة التي حصل عليها الزّعماء الإخوانيون التونسيون بدعوى “التّعويض على سنوات السجن والمنفى – الطّوعي أحيانًا – والحرمان من الوظيفة”، وقُدِّرت هذه المبالغ بثُلُث ميزانية البلاد، وكان لهذا التّهافت على المال وعلى السُّلْطة أثَرٌ سلبي على بعض الزّعماء الذين لم تُلبِّ قيادتهم طلباتهم المالِيّة والسياسية وعلى المناضلين الإخوانيين الذين اعتبروا إنهم لم ينالوا نصيبهم من “الغنيمة” (أي الدّولة ومواردها )، فيما طالب بعض القياديِّين بتعديلات وإصلاحات داخل هياكل حزبهم، لكن رَفَضَ راشد الغنوشي والمُقرّبين منه هذه المطالب، بل أمْعَنَ في الإستحواذ على سُلْطَة القرار، وساهمت هذه القضايا (إضافة إلى الفساد الذي نجم عن الإستحواذ على السُّلْطة) في تصدّع صفوف النّهضة واتّساع الهُوّة بين قياداتها وقواعدها ومُريدِيها ومن منحوها أصواتهم وأموالهم (في شكل “تبَرُّعات” ) ظَنًّا منهم إن الإخوان المُسلمين أكثر تَقْوى ونزاهةً من الأحزاب الأُخْرى، ولذلك لما تمت إزاحة الإخوان عن السُّلْطة تَقَلَّصَ عدد المدافعين عنها ولم يُلَبِّ المواطنون دعوة راشد الغنّوشي “للدفاع عن الدّيمقراطية وعن الشّرعية الإنتخابية”، وانتهى الأمر باعتقاله مع العديد من قيادِيِّي حزبه، وإغلاق مقرّات الحزب خلال شهر نيسان/ابريل 2023، وجَفّفت سلطات ما بعد 25 تموز/يوليو 2021، منابع التّمويل، فتراكمت الدُّيُون ومنها مبالغ إيجار المحلات التي لم يتم تسديدها، طيلة ثمانية أشهر، ما أدّى إلى تقديم مالك المقر المركزي للنهضة بالعاصمة دعوى قضائية بسبب عدم تسديد مستحقات الإيجار طيلة سنة كاملة، فضلاً عن عدم إخلائه، ولا تشكّل هذه القضية سوى واحدة من المتاعب المالية، ما أعاد إلى السّطح ملف الحسابات المالية السّرّية أو المُوازية والتمويلات الخارجية المَشْبُوهَة و”تَبَرُّعات” رجال الأعمال الفاسدين الذين تمنحهم السلطات الإخوانية الوثائق أو القُروض والدّعم المطلوب، مقابل رشوة في شكل تَبَرُّعات مالية للحزب الحاكم (النّهضة ) وهي نفس ممارسات حزب الدّستور الذي حكم البلاد مُنْفَرِدًا من 1956 إلى 2010، ورغم نَفْي زعماء “النهضة” الحصول على أموال من الخارج، أثبَتَت محكمة المحاسبات التونسية (الهيئة العُليا للمراقبة والمُحاسبة)، من خلال تقرير صدر عنها في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، عدم شفافية الحسابات المالية للحملات الإنتخابية للنهضة وعدم تسجيل مصادر الأموال التي مَكّنت “النّهضة” من التعاقد – منذ ما لا يقل عن ست سنوات – مع مكاتب استشارات ومجموعات ضغط أمريكية بمبالغ كبيرة ( من بينها عقد بقيمة 250 ألف دولار) لتلميع صورة “النّهضة لدى الرأي العام المحلّي والدّولي، ولم يتمكّن القضاء من معرفة مصادر هذه الأموال، وفق التقرير، وأكّد بعض القيادِيِّين الذين أُزيحوا من القيادة بالعلاقات المشبوهة مع تركيا وقَطَر وعلى استحواذ راشد الغنوشي – مع ثُلّة من المُقَرّبين – على سلطة القرار وعلى الموارد المالية الهامّة التي كانت ظاهرة للعيان بين سنتَيْ 2011 و 2021، قبل الدّعوة للمساءلة القانونية لمعرفة مصادر التّمويل، إثر إزاحتها من السلطة…
تتّسم الإتهامات المُوَجّهة لقيادات حزب الإخوان المُسلمين بنوع من تصفية الحسابات السياسية، لكن “النّهضة” وفَّرت لخصومها الشُّرُوط المُلائمة لمجابهتها ولاتهامها بالتّسلّط (رغم قانونية انتخاب نوابها في البرلمان) وبسوء استخدام السلطة وبغياب شفافية التّمويل وخصوصًا بعدم الإهتمام بمشاغل أغلبية المواطنين وبتوريط البلاد وإغراقها بالدّيون الخارجية، ما يُشكّل خطرًا على حاضر ومستقبل البلاد والعباد… أما بالنّسبة للتّقدُّمِيِّين فإن الإخوان المسلمين يُمثّلون مصالح طبقة البرجوازية الكُمْبرادورية وكبار مالكي الأرض ووُكلاء الشركات الأجنبية العابرة للقارات، رغم الأصْل الطّبقي للغالبية العُظْمى من قواعدها ومُنتسِبيها الذي يعتقدون إن حركات الدّين السياسي تتسم بالنّزاهة وبمساعدة الفُقراء، واصطدم الآلاف منهم، سواء في المغرب أو في تونس أو في مصر بحقيقة السياسات الطبقية التي يُنفّذها الإخوان المسلمون في الدّاخل وبحقيقة عمالتهم للقوى الإمبريالية، وفي مقدّمتها الإمبريالية الأمريكية، غير إن غياب الحركة التقدّمية عن السّاحة أو ضُعْفَها مَكّن قُوى طبقية رجعية من ملء الفراغ الذي تركه الإخوان المسلمون بعد إزاحتهم…
التعليقات مغلقة.