بإيجاز فرنسا – أي معنى للعلمانية؟ / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الأربعاء 13/12/2023 م …
تُعَرّف العلمانية بأنها نظام يقوم على الفصل بين الدولة والأديان، وتُبالغ مُؤسسات الجمهورية الفرنسية في الإدّعاء بأنها دولة علمانية رسمياً، ويُفْتَرَضُ بالتالي أن تتعامل هذه المؤسسات مع الأديان – سواء كانت ديانات توحيدية أم لا – بنفس الطريقة، لكن ما هذه العلمانية الظاهرة سوى واجهة مُتعدّدة الأبعاد وخاضعة للتأويل وِفْقَ الهوى السياسي. إنها علمانية ذات هندسة متغيرة، لأن ثمانية من أصل 12 يوم عطلة رسمية فرنسية هي أعياد دينية مسيحية.
في نهاية كل ربيع، يتم إغلاق الشوارع أمام حركة المرور في شوارع بعض الأحياء الفقيرة بين محطة شمال للقطارات ( Gare du Nord ) في الدائرة العاشرة و ( Porte de la Chapelle ) في الدائرة الثامنة عشرة بباريس، لمدة يوم واحد، لإفساح المجال أمام مواطني شبه القارة الهندية الذين يحتفلون بأحد آلهتهم “غانيش” في الأماكن العامة.
في كل عام، يتم إغلاق عدة شوارع وساحات في باريس أمام حركة المرور بمناسبة الإحتفالات برأس السنة الصينية…
تُطارد السُّلُطات، خلال شهر رمضان، بائعي الحلويات في الأسواق، والمُصلّين الذين لا يجدون مكانًا لائقًا فيؤجِّرُون محلات فارغة للإفطار الجماعي والصّلاة، وتُطارد وزارة التّعليم التلاميذ الذين يتغيبون يوم العيد، ومع اقتراب عيد الإضحى، تُجَنّد وزارة الداخلية قوات الشّرطة والدّرْك لتفتيش سيارات المسلمين المفترضين (العرب والأفارقة) بحثًا عن الأغنام التي قد تَنْقُلُها سياراتهم (حية أو مذبوحة) عند مداخل بعض القرى والأحياء والمدن العمالية في فرنسا، فيما تختلق سلطات البلديات ( المنتخبة) والمُحافظات ( سلطة تنفيذية) الأعذار الواهية لإغلاق العديد من “بيوت الصلاة” التي اضطر المسلمون (من ثلاثة إلى خمسة ملايين نسمة، معظمهم من ذوي الجنسية الفرنسية) لتأجيرها بسبب منعهم من بناء المساجد…
أما معتنقو الديانة اليهودية ( رسميا ما بين 600 ألف و 700 ألف ) فهم بمثابة “الطفل المدلل” لجمهورية فرنسا العلمانية، بعد الاضطهاد الذي تعرض له يهود أوروبا – من قِبَل سُلُطات أوروبا – خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وتخضع المعابد اليهودية لحراسة الجيش (الذي يُفْتَرَضُ – من حيث المَبْدَأ – أن يُدافع عن الحدود الخارجية للبلاد) فضلا عن الخلط المُتَعَمّد بين نقد الصّهيونية كعقيدة (إيديولوجيا) ونقد ممارسات الدّولة الصّهيونية وكُرْه أو مُعاداة اليهود، لِإدراج ذلك كلّه ضمن “مُعاداة السّامية”، دون تعريف واضح لمفهوم “السّاميّة”…
يهرع جميع السياسيين – مع استثناءات قليلة كزعماء الحزب “الشيوعي” الذي يتذمّر قادته من هذا “الإقصاء الجائر وغير المُبَرَّر – وفي مقدّمتهم رئيس الجمهورية، منذ ولاية نيكولا ساركوزي ( 2007 – 2012) ورؤساء الحكومات والوزراء وزعماء الأحزاب والنواب وأعضاء مجلس الشيوخ ومديري وسائل الإعلام وما إلى ذلكن للمُشاركة في العشاء السنوي لاتحاد جمعيات اليهود في فرنسا (CRIF) الذي ينتقد رؤساؤه (وهم فرنسيون بالضرورة) علنا السياسة الخارجية لفرنسا ويشيدون بالسياسات الدّاخلية والخارجية للكيان الصهيوني، ما يجعل منهم فرنسيين يُمثلون مصالح أجنبية في فرنسا، ولكن هذا الحدث يحتل الصفحات الأولى لوسائل الإعلام – وفي مقدّمتها إعلام القطاع العام – ويُشِيد الجميع بهذا الخلط المُتعمّد بين الدّيانة اليهودية والعقيدة الصهيونية، بل تتسابق دول الإتحاد الأوروبي، وفي مُقدّمتها فرنسا وألمانيا، لإقرار تشريعات تُساوي بين نقد الإيديولوجيا الصهيونية ومُعاداة السّامية…
احتفل الرئيس الفرنسي مؤخّرًا بصورة رسمية بعيد “الحانوكا” اليهودي في قصر الإليزيه ( قصر الجمهورية الفرنسية العلمانية) بإشراف الحاخام الأكبر لفرنسا، ومر هذا الاحتفال الديني في معقل الجمهورية التي تدّعي اللاّئيكية، دون أن يُثِير الحدث ضَجّةً أو احتجاجات في هذه الجمهورية التي تتذكر أنها علمانية عندما يتعلق الأمر بالإسلام والمسلمين، لتستهدف الأكاذيب والشتائم والجرائم كل العرب والأفارقة سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو وثنيين أو ملحدين، فكُلُّهُم سواء لدى أجهزة الدولة ووسائل الإعلام…
في نفس يوم احتفال رئيس الجمهورية الفرنسية اللاّئيكية بعيد الحانوكا، أعلنت الحكومة الفرنسية مبادرة تهدف إلى تأسيس تحالف دولي (سياسي – عسكري) ضد حركة حماس، تمامًا كما أسست الولايات المتحدة “التحالف الدّولي لمحاربة داعش”، وهو في الواقع لمحاربة الدّولة السورية والإبقاء على احتلال العراق، ومراقبة لبنان، من خلال القواعد العسكرية المنتشرة بين تركيا وقبرص وفلسطين المُحتلّة والخليج، وتُعَدُّ المبادرة الفرنسية مخطّطا لإضفاء الطابع الرسمي على مُشاركة حلف شمال الأطلسي إلى جانب جيش الكيان الصهيوني (مع قوى الأنظمة الكمبرادورية العربية) في العدوان على السكان الفلسطينيين المحاصرين بإحكام في غزة منذ العام 2006 والذين لم يتمكن جيش الاحتلال من وضع حدّ لمقاومتهم والقضاء عليهم وإبادتهم، بعد شهرين من العدوان والمجازر…
التعليقات مغلقة.