الضاد من لغة الهوية الى لغة الفكر / د. زهير الخويلدي

د. زهير الخويلدي* ( تونس ) – السبت 18/11/2023 م …

توطئة :




” تعلموا العربية فإنها تزيد المروءة”

اعلم أن التلفت عن اللغة الأم بماهي أحد منابت الهوية و أصل الرابطة القومية نحو تملك لغة موضوعية أملا في ممارسة التفكير الخلاق وتوقا لمعانقة حرية الابداع هو عين الأمر الشائك ورأس المعضلة الكبرى, واعلم كذلك أن أي جهد يبذل على هذا النحو ينتج عنه اقرار ضمني بأن الضاد هي لغة خرافة وتقليد وملكة متقررة في اللسان واعتراف غير معلن بأن هناك لغة أخرى تقدمت على صعيد الحياد الموضوعي واختصت في مجال الخلق والابتكار. لقد “كانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات وأوضحها إبانة عن المقاصد لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني من المجرور أعني المضاف ومثل الحروف التي تفضي بالأفعال الى الذوات من غير تكلف ألفاظ أخرى. وليس يوجد ذلك الا في لغة العرب وأما غيرها من اللغات فكل معنى أو حال لابد له من ألفاظ تخصه بالدلالة ولذلك نجد كلام العجم من مخاطباتهم أطول مما تقدره بكلام العرب…”[1]

وان كان الأمر كذلك فكيف نطمح الى التفكير مع الحرص على الهوية ؟

ألا يقتضي هذا التلفت فصلا بين الذات المتكلمة و اللغة المتكلم بها ؟

وهل ينبغي التخلي عن الهوية والعزوف عن الفصحى والإنخراط في العولمة والشراكة وتعلم اللغة الكونية بوصفها المسلك الوحيد للتطور أم من الضروري تطهير اللغة العربية من كل ضروب الجمود وتخليصها من كل المعيقات والشوائب ؟ ثم لماذا هذا الرجع القهقرى بالنسبة للضاد من الحركة والازدهار الى السكون والتكرار ؟

اذا كان هذا هو موقع الانسان العربي اليوم متمسكا بلغة الهوية للمحافظة على خصوصية حضارته وللإعتزاز بدائرة الإنتماء ومضطرا لتعلم اللغة الكونية ليمارس التفكير وليواكب التطور والرقي فهل يقبل الإنفصام والإنشطار أم عليه بالإختيار والإنتظار ؟ ماهي شروط امكان تطهير اللغة العربية ؟وأي مستلزمات تقتضيها هذه المطالب ؟ هل تدور هذه المقتضيات في مستوى الأفكار والمعاني أم في دائرة الأساليب وطرق التعبير ؟

الى أي مدى يكون مشروع بناء لغة موضوعية جوهرية وكونية تنصهر فيها كل الفوارق بين اللغات وتذوب فيها كل الخصوصيات واللهجات قابلا للإكتمال والإنجاز ؟

ما معنى لغات ميتة سكونية ومغلقة ولغات ديناميكية حية ومنفتحة ؟

هل يمكن للضاد أن تتحول من لغة حية الى لغة ميتة ؟

ثم ألا يمكن اعتبار الفصحى اليوم مع تناقص عدد متكلميها لغة ميتة ؟

هل تموت اللغة بموت الشعب الذي يتكلمها أم بانحباس الفكر الذي يستخدمها؟

أي دور للأديان في ظهور اللغات وانتشارها ؟أليس من الأجدى لكل اللغات القومية أن تنفتح على الوافد والمغاير وتسمح بإمكانية اللقاء بالآخر ؟ ما تأثير الايديولوجيا السياسية على اللغة ؟ ما معنى لغات استعمارية مهيمنة ولغات محلية تابعة ؟ وهل الضاد لغة تابعة مهادنة أم لغة آمرة يمكن لها أن تسود كل العالم ؟ لما كنا لحظة المنعرج اللغوي وفي زمن فقه اللغة والغراماتولوجيا ونقد استعمال الفكر للغة والاعتراف بسيادة الكلمات على الأفكار وسلطة الدوال على المدلولات والأصوات على المعاني أليس من المتوجب البحث عن لغة ديموقراطية أو عن استعمال ديمقراطي من طرف الفكر للغة ؟ [2]

هل تكون الأنترنات من جهة كونها لغة رقمية وشبكة جميع الشبكات هي هذه اللغة الديموقراطية التي نبحث عنها ؟ ولما كان مقصودنا هو تخطي المضيقات واستجلاء هذه المحيرات فإنه يجدر بنا دراسة العلاقات الواصلة بين اللغة والشعب والرابطة بينها وبين الدين ثم نتبين بعد ذلك مدى تأثيرها على التفكير ودورها في حفظ الكيان وفي عملية انجاز الذات مع التفطن الى الشبهات والشوائب التي علقت بالضاد فأعاقتها عن التطور معرجين على التحديات التي تواجهها خاصة في ظل غزو الصورة واستبداد المشهد وضخ المعلومات وهجرة الرموز باحثين في الأخير عن طرق ممكنة للتجديد استشرافا للآتي واستقبالا للمستجد الطارئ.

1 ـ اللغة والشعب :

“والجماعة الانسانية الكاملة على الاطلاق تنقسم أمما والأمة تتميز عن الأمة بشيئين طبيعيين : بالخلق الطبيعية والشيم الطبيعية و بشيء ثالث وضعي وله مدخل ما في الأشياء الطبيعية وهو اللسان أعني اللغة التي تكون بها العبارة… [3]

ان اللغة سواء تكونت بالمواضعة والاتفاق أو بالوراثة والغريزة وسواء نتجت عن عوائد الانسان ومألوفه أو كانت بنت طبيعته ومزاجه فهي روح الشعب الذي يتكلمها وكنهه يودع فيها أحلامه وتطلعاته ويحبس فيها اخفاقاته وهزائمه. اذ توجد لكل شعب لغة تلائم طبيعته وتعبر عن مزاجه وأذواق أفراده تميزه عن شعب آخر وتعكس بشكل أو بآخر تقدمه أو تأخره لأن كل وحدة لغوية تعبر عن وحدة حضارية معينة وتعدد اللغات يعني تعدد الحضارات وتطورها يدل على تطور الحضارة وجمودها يعني ركود الشعب الذي يتكلمها. وآيتنا في ذلك أن وحدة اللغة تدفع بالاعتقاد بوحدة الأصل والشعور بالقرابة والتآلف وتوجد وحدة في الاحساس والادراك وتساهم في تشكل لاشعور جماعي أو مخيال مشترك، اذ أن اللغة تمد جسور التواصل والتفاهم بين الذوات وتجعلهم يتماثلون ويتعاطفون وتمكنهم من ترسيخ عاداتهم وتقاليدهم وتناقل الخبرات الثقافية من السلف الى الخلف. فهل يمكن أن يوجد شعب قائم الذات دون أن تساهم لغة معينة في تشكله ؟

 اعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده وتلك العبارة فعل لساني فلابد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان وهو في كل أمة بحسب اصطلاحهم… [4]

 اعلم أن الحروف في النطق…هي كيفيات الأصوات الخارجة من الحنجرة تعرض من تقطيع الصوت بقرع اللهاة وأطراف اللسان من الحنك والحلق والأضراس أو بقرع الشفتين فتتغاير كيفيات الأصوات بتغاير ذلك القرع وتجيء الحروف متمايزة في السمع وتركب منها الكلمات الدالة على ما في الضمائر وليست الأمم متساوية كلها في النطق بتلك الحروف فقد يكون لأمة من الحروف ما ليس لأمة أخرى والحروف التي نطق بها العرب هي ثمانية وعشرون كما عرفت ونجد للعبرانيين حروفا ليست في لغتنا وفي لغتنا أيضا حروف ليست في لغتهم… [5]

غني عن البيان أن الضاد هي أداة قوية للثقافة العربية تعتبر ثمرة تاريخ هذه الحضارة بأكمله, لم تتغير إلا ببطء شديد استعملتها كل الطبقات والشرائح, كما أخضعت قواعدها الى عملية تأصيل وتقعيد مستمرتين رغم ما لوحظ من ازدياد في عدد الألفاظ الدخيلة المستعربة.فاذا كانت اللغة الاغريقية قد ارتبطت بالفلسفة والتراجيديا واللغة اللاتينية بالقوانين الرومانية واللاهوت المسيحي واذا كانت اللغة الانجليزية قد تعلقت بالشعوب الأنجلوساكسونية وبالنزعة الحسية التجريبية وفي أمريكا بالنزعة البراغماتية والتقليد التحليلي وارتبطت اللغة الفرنسية بالفكر الموسوعي العلمي والنزعة الوضعية في تجلياتها الأولى وأفصحت اللغة الألمانية عن الأنوار والنزعة الرومانطيقية والفكر التأملي والجدلي التي تميزت بها القومية الجرمانية فإن الضاد لغة العرب الفصحى قد ارتبطت بالشعر ومعلقاته السبع والقرآن دستورهم الأول وما يتضمنه من سحر وبيان ومجاز وبلاغة واعجاز وخطابة. في هذا الاطار يقر الجاحظ أن العرب أمة واحدة لتكلمهم العربية رغم اختلاف لهجاتهم ونطقهم بها اذ يقول : وزعمت أن هؤلاء وان اختلفوا في بعض اللغة وفارق بعضهم بعضا في بعض الصور فقد تخالفت عليا تميم وسفلى قيس وعجز هوازن و فصحاء الحجاز في اللغة وهي في أكثرها على خلاف لغة حمير وسكان مخاليف اليمن وكذلك في الصورة والشمائل والأخلاق وكلهم مع ذلك عربي خالص غير مشوب ولا معلهج ولا مذرع ولا مزلج. ولم يختلفوا اختلاف ما بين بني قحطان وبني عدنان من قبل ما طبع الله عليه تلك البرية من خصائص الغرائز وما قسم الله تعالى لأهل كل جيزة من الشكل والصورة ومن الأخلاق واللغة. فإن قلت : فكيف كان أولادهم جميعا عربا مع اختلاف الأبوة. قلنا : إن العرب لما كانت واحدة فاستووا في التربة وفي اللغة والشمائل والهمة وفي الأنفة والحمية وفي الأخلاق والسجية فسبكوا سبكا واحدا وأفرغوا افراغا واحدا وكان القالب واحدا تشابهت الأجزاء وتناسبت الأخلاط وحين صار ذلك أشد تشابها في باب الأعم و الأخص وفي باب الوفاق والمباينة من بعض ذوي الأرحام جرى عليهم حكم الاتفاق في النسب… [6] لكن ان كانت الضاد روح الشعب العربي والاسمنت المسلح الذي يصهر كل أفراد المجتمع في وحدة عضوية لا يمكن تفكيكها من الداخل فكيف يمكن لهذه اللغة أن تعبر عن جوهر الديانة التي يعتنقها هؤلاء الأفراد ؟

2 ـ اللغة والدين :

“أنزلناه قرآنا عربيا” (سورة يوسف 2)

 “بلسان عربي مبين” سورة الشعراء 195

“ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي” سورة فصلت 44

” يا مشمس أيام الله بضحكة عينيك !

ترنم للغة القرآن

فروحي عربية ” مظفر النواب ـ وتريات ليلية [7]

كل دين منزل سماوي أو طبيعي وضعي تم حفظه وصيانته داخل نصب مكتوب أو من خلال كلام شفوي ويقع الاعتماد في ذلك على نسق من الرموز والعلامات والدعوات أو من خلال مجموعة من الطقوس والحركات والاشارات، وتتمثل وظيفة الدين في حفظ النص المقدس من الضياع والتلاشي وفي تسهيل عملية ابلاغه وتعليمه للآخرين.  نزل القرآن الكريم أول ما نزل بلهجة قريش لأن لهجة قريش أفصح لهجات العرب ولأنها قد خلت من كل مستشبع مستقبح ولكن لما دخل الناس في دين الله أفواجا ابتدأت من العام التاسع للهجرة تعذر على كثير من الداخلين في الاسلام قراءة القرآن بلهجة قريش نظرا لانطباع ألسنتهم على لهجاتهم فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه التخفيف فنزلت الرخصة من الله تعالى بجواز قراءة القرآن بلهجات العرب الفصيحة المتداولة فإذا كان في كلمة لهجتان فصيحتان أو أكثر جازت قراءة القرآن بها كلها وهي في احصائنا لا تتجاوز السبعة على كل حال. فقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “أقرأني جبريل على حرف فراجعته ثم لم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى الى سبعة أحرف” [8]

ان اللافت للنظر أن اللغة التي يكتب بها الدين هي لغة مجازية رمزية أغلبها تخييل ومحاكاة وتمثيل للحقائق والأفكار السرمدية التي لا يدركها الا أصحاب الفطر الفائقة وحتى يتسنى تأويلها وتفسيرها الى ما لا نهاية له. بيد أن العلاقة بين القرآن والضاد هي علاقة اشكالية شائكة وجالبة للحيرة والتفكير وذلك لسببين هما :

– القرآن نزل منذ الوهلة الأولى في شكل خطاب شفوي.

– اللغة العربية لم تصبح لسان أي لغة مكتوبة لها قواعد وقوانين الا بعد هبوط الوحي واكتمال تشكل الدين الاسلامي.

هكذا كان الوحي يقرأ قبل تدوينه وكتابته وفق سبع قراءات توافق عدد لهجات القبائل التي انتشر فيها الدين الجديد, أما اللغة العربية وقتها فإنها لم تخضع بعد لعملية تقعيد وتقنين كما أن الحروف لم يقع تنقيطها وقواعد الاعراب والنحو والصرف وبحور العروض لم تكن موجودة وأول المحاولات كانت بطلب من علي ابن أبي طالب صاحب نهج البلاغة وأنجزت من طرف أبي أسود الدؤلي والخليل ابن أحمد الفراهبدي وسبويه وابن جني صاحب كتاب الخصائص. ما تجدر الاشارة اليه أن عثمان ابن عفان عندما خشي من ضياع الوحي ومن امكانية تعرضه للتزوير والتحريف بعد اندلاع الفتنة الكبرى واحتدام الصراع السياسي على السلطة وموت عدد كبير من الحفظة والقراء أثناء الغزو والفتح فأمر هذا الخليفة المسلم بجمع سوره وآياته في مصحف سمي الى الآن باسمه وقع رسمه بلهجة قريش القبيلة التي استأثرت لنفسها بالحكم من دون القبائل الأخرى وأمر كذلك بإحراق كل النسخ والمصاحف الأخرى المكتوبة باللهجات المتبقية، ولقد ذكر لنا التاريخ العربي الاسلامي وجود قراءتين للقرآن الأولى لورش والثانية لقرش ورغم أن نقاط الاختلاف بينهما معتبرة ولها دلالة الا أن خشية الجماعة من هبوب رياح الفتنة والوقوع في التشرذم والفرقة هو الذي جعلها تقلل من هذه الاختلافات وتعتمد القراءتين معا. “والسبب في اشتهار هؤلاء السبعة دون غيرهم أن عثمان رضي الله عنه لما كتب المصاحف ووجهها الى الأمصار وكان القراء في العصر الثاني والثالث كثيرا في العدد كثيرا في الاختلاف فأراد الناس في العصر الرابع أن يقتصروا من القراءات التي توافق المصحف على ما يسهل حفظه وتنضبط القراءة به فنظروا الى امام مشهور بالثقة والأمانة في النقل وحسن الدين وكمال العلم قد طال عمره واشتهر بالثقة وأجمع أهل مصره على عدالته فيما نقل وثقته فيما قرأ وروي وعلمه بما يقرأ فلن تخرج قراءته عن خط مصحفهم المنسوب اليهم…وأول من اقتصر على هؤلاء أي القراء السبعة- أبو بكر بن مجاهد. [9] في هذا السياق يقول ابن خلدون : “فلما جاء الاسلام وفارقوا الحجاز لطلب الملك الذي كان في أيدي الأمم والدول وخالطوا العجم تغيرت تلك الملكة بما ألقي إليها السمع من المخالفات التي للمستعربين… وخشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأسا ويطول العهد بها فينغلق القرآن والحديث على المفهوم فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة شبه الكليات والقواعد يقيسون عليها سائر الكلام…” [10]

ما يثير الانتباه والدهشة أن معجزة الدين الاسلامي هي القرآن وبالأساس بلاغة اللغة التي قرأ وكتب بها والصور الشعرية التي يتخيلها وحلاوة الايقاعات الموسيقية التي ترسمها الأصوات المتكونة منها عند تلاوة آياته أو تجويدها. وسواء كان هذا الوحي مخلوقا على ما تذهب إليه المعتزلة تنزيها للذات الإلهية وتأكيدا لحرية الإنسان ختما للنبوة واعلانا عن ميلاد العقل أو كانت معانيه قديمة وألفاظه محدثة على طريقة الأشاعرة توفيقا بين العقل والنقل تعظيما للإرادة الإلهية المطلقة واعترافا بقدرة المخلوق على الكسب وفق مناسبات تخلق له فإنه قد تكونت حول القرآن عدة علوم نقلية وعقلية وكان الوحي هو مركز عدة علوم أخرى تكونت حوله فظهر في البداية الحفظة والقراء وكتبة الوحي ثم برزت على السطح فئة المفسرين والمحدثين ثم علماء السيرة والحديث والفقه وفيما بعد ظهر علماء أصول الفقه وأصول الدين وتغير الحال بالتطور المعرفي والتعارف الحضاري بين الشعوب فنشأت عدة علوم عقلية كعلم الكلام والفلسفة والمنطق والطبيعيات وبلغ الأمر الى حد ظهور التصوف والسيمياء وعلم الفلك والرياضيات والبصريات والتنجيم. على الرغم من محاصرة المنقول للمعقول وتسييج باب الاجتهاد وتضييقه واقتصاره على الفروع دون الأصول وتحريم الاشتغال بالفلسفة ومنعها من الخوض في الإلهيات واستهجان العاملين بها من طرف ابن الصلاح الشهرزوري وأبي حامد الغزالي وابن تيمية وابن القيم الجوزية وعلى الرغم من أن لغة الضاد اقتصرت في العصور الوسطى على التكرار وارتبطت بالجمود والتزمت ووظفت في الشرح والتلخيص وفي تأليف المعاجم والموسوعات والتفاسير إلا أن الفيض المعرفي الذي دشنته في عصر ازدهار العقل العربي بانصهار لغات وثقافات أخرى فيها جعلها تحتفظ بوهجها الروحي واشراقها الدلالي وبقدرتها البالغة على التعبير والإيحاء والتشبيه والتمثيل وجعلها كذلك تتضمن طاقة تأويلية لا تنتهي لتتفجر قوتها التبشيرية على العالم كله لما تكتنزه وتفصح عما تكتظ به من نفحات قدسية وعجيب خلاب. ننتهي اذن الى تثبيت الضاد بما هي جوهر الشعب العربي المسلم وروحه باعثة الحضارة وسبب العروة الوثقى للأمة وهي كذلك جسد الوحي ومادته الأثيرية والمرآة التي عكس بها الله حكمته للإنسان فهل تكون الضاد حينئذ الشاشة البلاغية التي يرى العربي من خلالها العالم والنبراس الذي يدرك به ذاته والقلب الذي ينبض به الفكر ويتيح له اللقاء بالآخر ؟

3 ـ اللغة والذات :

” يتشكل الانسان من حيث هو ذات في اللغة وباللغة [11]

“ان حدود لغتي تعني حدود عالمي الخاص” [12]

في الواقع لا توجد علاقة طبيعية وآنية ومباشرة بين الإنسان وذاته بل هناك وسيط يتمثل في وجود جهاز رمزي يتكون من مجموعة من العلامات والاشارات تلعب دور الرابط بين الانسان والكون والرمز يكشف لنا عن أحد المعطيات الأساسية ربما الأكثر عمقا في المنزلة الإنسانية بل ان القدرة الرمزية هي أخص خصائص الكائن البشري[13] , فالانسان ليس كما يظن بعض الحكماء الأول حيوان عاقل فقط بل هو أيضا وبالأساس حيوان ناطق أي كائن رامز وملكة الترميز لديه تبلغ أقصى تحققها في اللغة واللغة هي ميزة الانسان عن بقية الكائنات[14].فكيف تتدخل الضاد في بناء الذات العربية الاسلامية ؟وما معنى أن تكون عربيا مسلما اليوم ؟ وهل يكفي أن تتكلم الفصحى لتتأكد من انتمائك للحضارة العربية الاسلامية؟

ان كانت التجربة الانسانية هي في جوهرها تجربة لغوية وكانت الذاتية انبثاقا لخاصيات أساسية للغة في الواقع فإن الشخصية العربية تبنى على أسس الضاد وصرحها فيكون عربيا من يقول أنا عربي وأن يكون كذلك معناه أن يتقدم الى ذاته والى الآخرين والى العالم بوصفه من ينطق الفصحى ومن يتكلم بلسان عربي مبين فيشعر من خلال معجزة القرآن ومعلقات الشعر الجاهلي وجداريات الخطوط الكوفية والقيروانية أنه ينتمي الى حضارة اقرأ وثقافة بدأت بالكلام والقراءة والكتابة ولتصبح بذلك لغته لا أداة للتواصل والتبليغ والتعبير والاعلام والاخبار بل مجال ترعرع الخيال وتشكل العاطفة وتفتح الوجدان وترسخ الذاكرة. عندئذ ينظر العربي الى الضاد على أنها مسكن وجوده وأصل كينونته والنور الذي يضيء له سراديب ذاته المظلمة وشمس المعارف الكبرى التي تخرجه من الجهل الى العلم ومن العدم الى الوجود مثلما أخرج القرآن مجموعة من القبائل الأعراب الرحل من بحر الظلمات الى بحر الأنوار ومن العصبية والجاهلية والتناحر الى الحضارة والتمدن والتعارف. على هذا النحو تسمح كل لغة لمفهوم الأنا أي الضمير المفرد بالظهور في الوجود وتفصله عن مفهوم الأنت والآخر ضمن ضمير الغائب أي الهو فيكون أنا من يقول أنا وتتيح للضمير الجماعي أي النحن فرصة التشكل مقابل الأنتم والهم وبهذا يمكن تعريف الذاتية على أنها قدرة المتكلم أن يطرح نفسه باعتباره ذاتا. اذا عدنا الى الضاد فإننا نجدها خزائن علوم العربي وحقول معارفه ومصادر حقائقه حول أصله وفصله ومصيره ووسائل تدبيره لبيته ولدنياه، فهي الرباط الذي ينطلق منه ويعود اليه الانسان العربي في حله وترحاله ليغوص في الأعماق أو يصعد نحو القمم , كما أنها الدرب الذي يسلكه للعودة الى الينابيع الصافية للمنبت الصالح وينهل من الأصول العتيقة حتى يستعيد عافيته ويرفع من ناصية هويته، هذا متاح دون أن تمثل الضاد قوقعة أو كهفا يحجبان عنه الآخر ويمنعان عنه عبر التاريخ ودروسه ومنطق التقدم العلمي وكشوفاته. عندما يبدأ العربي في النطق والكلام بنظم القوافي وترسل الشعر وترتيل الوحي فإنه يخرج فعليا من عالمه المغلق ويتزحزح عن نرجسيته الفارغة ويكف عن استعلائه غير المجدي ويعرض عن الاستغلاق المشين ليدشن موقعا جديدا له في العالم وليكتشف حدثا جديدا في الكون ويخرج من قلعته الآمنة وينكشف للآخر ويشرع في التواصل معه والتثاقف ليس بشكل تلفيقي مموه بل بشكل اختلافي تعادلي مولد لينتقل من وضع التدافع مع الأجنبي الى وضع التعارف معه. فإن كانت الضاد أس الذات العربية المسلمة وعمادها فكيف تكون سراج فكرها ومنبع إلهامه؟

4 ـ اللغة والفكر :

قالت المعتزلة : “ان الخواطر التي تطرأ على قلب الانسان… و أحاديث النفس (هي)…تقديرات للعبارات التي في اللسان…والتي تعلمها الانسان منذ أول نشوئه”. [15]

ليست اللغة أداة تبليغ ووسيلة تواصل فحسب بل هي أيضا شرط كل علاقة يقيمها الانسان مع ذاته ومع الآخر ومع العلم وكل هذا لا يكون ممكنا دون توسط ملكة الفكر, فاللغات ليست قائمات أسماء عالمية تقسم الواقع بطريقة متماثلة بل كل لغة تملك تقطيعا خاصا بها لعالم الأشياء وتبني تنظيما جديدا لمعطيات الفكر, لذلك تعني اللغة” رغبة فكر شخص ما في قول شيء في شيء ما لشخص آخر”; وذلك بترتيب الألفاظ وبتأليف الكلمات للتعبير عن الخواطر التي تضطرم في النفس والافصاح عن الأفكار التي تتدافع في العقل. بما أن امتلاك اللغة يتطلب تدخل التفكير فإن معرفة الكلام لا يستلزم إلا القليل من العقل وهكذا تبدو علاقة اللغة بالتفكير غامضة فهل اللغة تخدم الفكر أم الفكر يتبع اللغة ؟ هل تكتفي اللغة بكساء فكر قد تكون سلفا ؟ أم أنها تمثل شرطا لتشكل هذا الفكر ولفهمه ؟ وإن تعذر علينا الحديث عن تفكير دون توظيف لغة وعن لغة لا تكون قابلة للإستعمال في التفكير أليس الفكر واللغة وجهين أو مظهرين لعملة واحدة ؟

في الواقع هناك تفاعل بين اللغة العربية والفكر العربي فكأن القصص والسور والآيات القرآنية والقصائد والأبيات التي تتكون منها المعلقات السبع تشير وترمز الى نظرات ورؤى الأعرابي للكون وتحدد قيم حياته وغائية وجوده. فالضاد سهلت انبلاج التفكير العربي وساعدته على التوسع والانتشار والانصهار بالثقافات الجديدة التي احتك بها وساعدته كذلك على النمو والتطور. لقد أبدع الفكر العربي علم اللغة وما يتفرع عنه من نحو وصرف واعراب وعروض وبلاغة من بيان وبديع وكلام وبلغ مرتبة الشرف والصناعة في هذه الفنون بتقعيدها ووضع قوانين دقيقة لها. ان المناظرة التي جرت بين المنطقي متى ابن يونس والنحوي أبي سعيد السيرافي وتناطحهما خير دليل على ارتباط فعالية التفكير بالقدرة الخلاقة والوفرة العجائبية الغرائبية للغة, فكأن العربي عندما يتلاعب بالكلمات يرسم مقاما له في الوجود وعندما يتكلم يعلم ما يفكر فيه وعندما يفكر يعلم بدراية وعلى السليقة العبارات التي يتسامح في توظيفها للذلك وبذلك استحال أن يسمي النشاط المعرفي والوجودي والأخلاقي الذي يقوم به دون استعمال اللغة والعودة اليها (التصوف) نشاطا فكريا بل يعتبره مجرد شطح وأحوال واشارات تغيب عنها العبارات والمنطقيات.

إن العربي لا يوجد فقط في الأعيان أو في الأذهان بل وكذلك في الأسماء والكلمات وفي الحروف والأفعال الكلامية ولعب اللغة العادية، وهو لا يقطن كوكبا وأشياء بل يسكن في عالم من الرموز والعلامات , والضاد هي شرط إمكان إبداع العقل العربي ومقام للعرب في العالم. ولما حكمت عليه ظروف التحدي الحضاري والتقدم الذي لاح على الآخر والتخلف الذي ارتبط بالأنا بإستعمال لغات مغايرة فإن ما أنتجه لم يتعد المحاكاة والنقل وتحول إلى شعوذات للجمهور وأباطيل الدجالين. كما يمكن أن نقارن علاقة اللغة بالتفكير ب علاقة الجسم بالنفس واللفظ بالمعنى. فالفكر هو الصورة واللغة هي المادة أما اللفظ فيكون حاملا للمعنى وموصلا له والمعنى مستقل عن اللفظ ومتأثر به، ويستقيم بإستقامته وينعدم بإستعماله في غير محله. لذلك يرى الغزالي : “ان العبارات مباحة والاصطلاحات لا مشاحة فيها اذ لا معتبر بالعبارات ان صحت المعاني” [16] لأنه ان كانت العبارات متفاوتة فإن المقصود شيء واحد والأخطاء التي يقع فيها الإنسان ناتجة عن طلبه للمعاني من الألفاظ بينما كان عليه أن يقدر المعاني أولا ثم ينظر في الألفاظ ثانيا ويعلم أنها” اصطلاحات لا تتغير بها المعقولات”. فهل تمكننا الضاد من مباشرة التفكير الحر والانخراط في تجربة الاستطلاع والتفتيش اذا ما تجاوزنا هذا الخطأ ؟

يبدو أن من طبيعة اللغة العربية أنها اصطلاح ومن اختراع الفكر تصديقا لقوله عز وجل : “وماهي الا أسماء سميتموها أنتم وأبنائكم”، وفي هذا السياق يقول ابن جني : ” ان أصل اللغة لابد فيه من المواضعة[17]. على هذا الاساس توفر اللغة  للفكر ذخيرة من المعاني وخزائن من المعارف تمكنه من بناء نظرة شفافية للكون وتحديد آلياته وقدرته ورغم ان الفكر لا يدرك الا ما هو مشكلا ومستحضرا في اللسان العربي الا ان هذا اللسان يحررنا اثناء النطق والكلام من رقابة مقولات المنطق ومن الآلية غير الواعية ويسمح لنا باختيار وانتقاء ما يلائم التعبير عن الافكار بحرية وطواعية.

ننتهي الى ان الفكر العربي الذي يشمل كل ضروب التعقل والتروي والادراك والتصور والتذكر يقتصر على ما يختلج في نفس الانسان العربي ووجدانه و يعبر عن ذلك كلاما وبوحا ونطقا باللسان. من البديهي أن تكون اللغة العربية منذ كلمتها الاولى معرفة لأنها لم تصدر عن الصرخة الطبيعية بل من فعل اقرأ لذلك يعني فعل: “أن تعرف هو أن تتكلم كما ينبغي أن يكون وكما تقتضي المسيرة الأكيدة للعقل، و لهذا السبب قال الرسول العربي الكريم :” أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا فصار للحروف في لغتهم والحركات والهيآت أي الاوضاع اعتبار في الدلالة على المقصود… [18].

من هذا المنطلق تتميز الضاد عن بقية لغات العلم بالمزايا والخصائص التالية :

– تسمي الأشياء الكثيرة باسم واحد مثال لفظ العين الذي يطلق على منبع الماء وعلى العين المبصرة وعلى ذات الشيء وعلى حراس السلطان.

– تسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة مثال الأسد يطلق عليه الليث وعنبسة وكسورة وملك الغابة.

– تستعمل اللفظ العام لتدل به على الخاص.

– تستعمل اللفظ الظاهر لتدل به على الباطن.

– تستعمل الأمر لتستدل به على : – طلب الفعل

– الدعاء والتضرع

– اليأس والقنوط.

– تستعمل النهي لتدل به على :

– ترك المنهي عنه سواء على وجه اللزوم والتأكيد أو على وجه الكرامة.

– الارشاد والتوجيه والزجر والردع.

ان من أراد فهم الوحي القرآني والسنة النبوية الشريفة لابد أن يعرف اللسان العربي وأساليبه وخصائصه وأدواته وأن يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره وأن يحسن التمييز بين الاستعارة والكناية والمجاز والرمز والعلامة والسجع والبيان والبلاغة والفصاحة والأمثال وقواعد الاعراب والنحو والصرف والعروض وأوزان الشعر وغيرها من ضروب الكلام. ان كانت الضاد ملكة متقررة في لسان العرب فهل بقيت تلك القوة التي تفعل الكثير بالقليل والتي لا يمكن ان تضاهيها ملكة اخرى؟

5 ـ المزالق الراهنة للضاد :

“كنا أناسا على دين ففرقنا قرع الكلام وخلط الجد باللعب” [19]

يسود الاعتقاد اليوم ان واقع الحضارة وموقع الثقافة العربية فيها أوصلا الضاد الى منزلة لم تعد بموجبها قادرة على أن تكون لغة الفكر ولا روح الشعب ولا حتى لغة الدين. فالفكر أصبح يعبر عن نفسه من خلال لغة كونية موضوعية و القرآن ترجم الى العديد من لغات العالم والشعائر أصبحت تعلم بلغات أخرى محلية غير العربية كما هو الامر في الشرق الاقصى وحتى في الغرب كما أن الشعب أضحى سجين بعض اللهجات واللغات الاثنية التي كانت في الماضي ميتة مثل الامازيغية وغيرها.

وأضحت الضاد كذلك عاجزة عن القيام بوظائفها على الوجه المطلوب في ايصال المراد للآخرين من تعبير واخبار وتراجعت الى الوراء وبانت مسافة الايضاح والتعبير التي تفصلها اليوم عما كانت علبه في عصر التوحيدي وابن المفقع والجاحظ خاصة أمام منافسة اللغات الآمرة سواء الانجليزية أو الفرنسية أو حتى اللغة الرمزية المهيمنة على شبكات الانترنات والسوق المعلوماتية. فأي مكان للفكر العربي في ساحة تربع على عرشها كوجيطو البضاعة وأي منزلة للضاد والانترنات أضحت أم كل اللغات؟

ثمة اجماع حول قصور اللغة العربية واحتضارها واستبقائها كأساس لعصبية مغلقة وجسد لثقافة تراثية قروسطية ومرآة تعكس هوية متقوقعة على نفسها وأصل لرابطة قومية تضيق على متكلميها الآفاق وتخلط أمامهم السبل وهذا التردي والموقف الصعب يعزى الى عدة أسباب أهمها:

1/ اللغة العربية هي لغة دينية تصطبغ ألفاظها وأفعالها بالدلالات اللاهوتية والمعاني الغيبية وهي بذلك تهمل كل ما هو انساني والأمور الدنيوية الملموسة.

2/ الضاد لغة فقهية تتصف بالوقوع في الأحكام القطعية والنزعة الشمولية الكليانية يغلب عليها الأمر والفرض والالزام الى ما يجب أن يكون لا الى ما هو كائن.

3/اللغة العربية هي مجردة وصورية تهتم بالعقول المفارقة والعموميات والأصول والعلل الأولى والمصادر وبالتالي فانها لا تحترم التغير والتنوع وتقتل براءة الصيرورة وتختزل سيلان نهر الوجود وتدفع مجرى الحياة في قوالب نحوية وجمل تعبيرية فارغة وأطر منطقية شكلية.

4/ الضاد لغة تأليهية مشخصة تهتم بعبادة الأشخاص والأسماء والأبطال وتحتفل بالتاريخ الرسمي، تاريخ الأمراء والسلاطين وتهمل الهوامش والسواد الأعظم والأغلبية الصامتة تعبر عن بعض التيارات وتطمس العديد من الوقائع والأسرار.

يترتب عن ذلك أن الفصحى عاجزة عن التعبير عن حالات النفسية للعربي وعن خلجاته وحيرته الذي أضحى في منطقة وسطى يكون فيها خارجا عن ذاته وخارجا عن الأشياء والوقائع معلقا في كومة من السماء التي لا مقصد لها وفي ركام من الافعال التي لا مخرج منها مكتفيا بقراءة تلك البطاقات الملصقة حول الموجودات مستبقيا من الأشياء أكثر جوانبها ابتذالا وأكثر وظائفها عمومية وشيوعا.

فهل ذلك راجع أن المغلوب مولع بتقليد الغالب أم أنها بشائر المنعرج اللغوي؟

6ـ المنعرج اللغوي :

” الكلام و الكتابة مسخرة ليت الانسان يستطيع ان يتحرر منهما… [20]

ظن الانسان أنه مبدع للكلمات وأنه باللغة قادر أن ينفذ الى جواهر الأشياء وبناء العلم اللدني وأن في اللسان أهم منابع القوة وأكثرها صلابة وأيسر الطرق وأسرعها نحو تحصيل المعرفة. غير أن هذا الظن ما هو الا كاذب لأن اللغة ليست غرضا قائما بذاته ولا بنية مغلقة على ذاتها بل حافلة بالرغبة وملفوفة بالسلطة تخفي أكثر مما تظهر وتحجب أكثر مما تكشف وتقول صمتا أكثر مما تقول كلاما. وهذا المنعرج اللغوي يحدث عندما يلبس الانسان فكره كساء لغة أقدم منه بحيث تنفلت منه القدرة على التحكم في المعاني والسيطرة على الدلالات. لعل أهم الاسئلة التي تتوالد عن هذا المنعرج اللغوي العربي هي الى أين تتجه الضاد اليوم؟ هل تسير نحو نفسها ونحو جوهرها الذي هو الزوال والفناء المحتوم أم أنها تتحرك بخطى ثابتة نحو متاهة لا تؤدي الى أي طريق؟ هل الحقل اللغوي العربي هو حقل الموت والفناء؟ وهل يكون انجاز الفصحى هو النفي الأمثل والقتل المؤجل الى اليوم الموعود؟

ان وجود الضاد يضعف ويذوي وجدرانها تنخفض الى درجة فقدانه لجدارة حراسة الوجود لقد صارت مهيمنة بغيابها وحاضرة بفقدانها لدورها. لقد أمسى اللسان العربي فاشيا لا يستطيع متكلمه الهروب منه يزداد عقما بازدياد تراجع ناطقيه والضاد لم تعد مسكن الوجود بل الثغرة التي يدخل منها العدم الى العربي. ألا يغدو العربي عندئذ قادرا على التألق سائرا نحو ابداع أورفيس جديد يبحث بهوس عن موت ممتنع ويطرق أبوابا موصدة, فهو عندما يتكلم باللسان المبين يعترضه العبث واللامسميات واللامعنى ؟

على هذا النحو يسقط العربي في هذا العالم الضيق الأصم وباستعماله لهذه اللغة البكماء في الظاهر الحاضر والغناء في الباطن الماضي في جبة التكرار السرمدي للحياة داخل الحياة تعبيرا عن حياد تام وبحثا عن درجة صفر للغة تكون فيها الهوية مغرسا ومنبتا والتفكير مقصدا أو مستطاعا.

ان مأزق الضاد هو مأزق العربي والمجتمع الذي يعيش فيه والتفكير الذي يمارسه يبحث عن المعنى بشيء ليس له معنى أو هو فوق المعنى فكيف يمكن تحويل الضاد من كلام متكلم Parole Parlee متكون سلفا الى كلام متكلم Parole Parlante يتكون بشكل حي وفعال وخلاق؟ [21]

7 ـ طرق التجديد :

التجديد اللغوي صعب وعسير فهو ليس مجرد حلم أو شعار ولا مجرد نية سليمة وأمنية بل ممكن أن يأتي بعد ترجمة لمختلف مدارات الحضارة المتقدمة الضاربة في التطور ونقل لزبدة حوار الثقافات وكذلك بعد انصهار مختلف تجارب التفكير وخبرات الادراك في نسيج ثقافي متكامل ومنفتح على كل الزوايا والاحتمالات والتأويلات. غير أن التجديد قد يحصل أيضا عن تطهير اللغة وتخليصها من الشوائب وذلك بالتفريق بين المفاهيم والوقائع وبالفصل بين الكلمات والأشياء قصد تنظيف المفاهيم الكلمات مما علق بها من معان قديمة خاطئة وبغية تلميع الأشياء والوقائع مما لصق بها من تأويلات ماضية خيالية يكسب الطرفين معاني ودلالات جديدة.[22] فان كانت اللغة سلاح الفكر وكان الفكر فارس اللغة وكانت هذه الأخيرة صمام أمان الأمة والحضارة فانه من اللازم نقد هذا السلاح قبل الشروع في استعمال سلاح النقد ومن الضروري تقييم تجارب استعمال الفكر العربي للضاد قصد تجاوز الأخطاء والكشف عن مواطن العيوب وأصول المثالب من أجل عدم الوقوع فيها مجددا. ان هذه المحاولة الاستشرافية تقتضي تحويل القول الى فعل والتلفت عن الإهتمام بمصدر اللغة ان كان طبيعيا مرتبطا بالصرخة أو الهيا ناتجا عن مصدر سماوي غيبي لتفتح الضاد على الوجود في طزاجته الأولى ولتفيض بالدلالات والمعاني ولتستعيد تلك الشاعرية والمجاز والرمز والايجابية التي كان يمتلكها الشعر الجاهلي في المعلقات السبع أو القصص الديني في القرآن أو تلك الأدبيات التشبيهية في كليلة ودمنة وحي بن يقظان أين وقع اجتياز قضبان المقولات المنطقية وقواعد القول البرهاني والهجرة من الظاهر الى الباطن ومن العبارة الى الاشارة وأين أفاضت الحروف عن معان لم تفدها جمل بأكملها. فهل يستعيد العربي عافيته ويحقق صحوته ويستيقظ من غفوته بتخير الألفاظ وتخليص المعاني وتحسين الكلام؟

 لما كان الكلام متكونا من لفظ ومعنى ولما كانت اللغة قد بليت وقلمت أظافرها من فرط استعمالها والمعاني فقدت أصولها والأشياء خسرت طهارتها الأولى فانه من المتوجب علينا أن ننفض الغبار عنها ونفرق بينها.

أ/ فان أردنا تطهير لفظ قديم فنحن أمام خيارين : تخليصه من المعنى القديم واسناده لشيء جديد أو أن نحرره من المعنى القديم ونسند له معنى جديدا.

ب/ وان تدبرنا معنى قديما فنحن مطالبون بفك الارتباط بينه وبين الشيء القديم وربطه بشيء جديد وكذلك فصله عن اللفظ القديم بمنحه لفظا جديدا.

بذلك تنفتح الضاد على التجارب المعيشة وتلتقي باللغات الأخرى ترجمة وتعريبا واستعرابا وتتحول من لغة تقبل التغير والتجديد تخاطب كل العقول والأذهان وليست حكرا على أصحاب الفطر الفائقة من خاصة الخاصة. فتكون الفصحى لغة الانسان لا لغة الأديان لها ما يقابلها في الحس والعيان لا غيبية قلبية تحث على التقوى والايمان و تكون لغة عقلية لا قطعية. [23]

لهذا فان أسطورة موت الضاد،الفصحى، بانحسار متكلميها تصبح غير مبررة فكيف تموت لغة والعالم الذي قعدها ووضع قوانينها قد توفي وفي نفسه شيء من حتى؟

المراجع :

1/ ابن خلدون عبد الرحمان، المقدمة، الفصل 36 ، دار الجيل، بيروت، لبنان.

2/ أبو نصر الفارابي، السياسة المدنية، دار سيراس للنشر، تونس 1994.

3/ أرنست كاسرر، مقال عن الانسان 1970

4/ ابن جني، الخصائص، الجزء الأول، تحقيق محمد علي النجار.

5/ اميل بنفنيست، مسائل في الألسنية العامة، طبعة غاليمار، باريس 1968.

6/ بول ريكور ،فلسفة اللغة الموسوعة الكونية، مجلة العرب والفكر العالمي، بيروت، خريف 1989.

7/ فتقشتاين ليدفيغ،  المصنف المنطقي الفلسفي، طبعة غاليمار، باريس 1961.

8/ الشهرستاني عبد الكريم ، نهاية الأقدام في علم الكلام.

9/ الغزالي، أبو حامد، الاقتصاد في الاعتقاد تقديم عبد الرحمان بدوي القاهرة 1961.

10/ د حسن حنفي، التراث و التجديد – المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع، مجد، بيروت،طبعة 2002.

11/ الجاحظ البيان و التبيين -القاهرة 1960

12/ الجاحظ الرسائل السياسية دار و مكتبة الهلال بيروت 1995

13/ مارلوبنتي المرئي واللامرئي غاليمار باريس 1964.

14/ محمد رواس قلعه جي لغة القرآن لغة العرب المختارة دار النفائس بيروت 1988.

15/ مظفر النواب شاعر المعارضة السياسية والغضب القومي إعداد هاني الخير مؤسسة علاء الدين للطباعة والتوزيع دمشق 2004.

16/ برجسن الفكر والمتحرك 1946 PUF.

17/ جاك دريدا الكتابة والاختلاف دار توبقال للنشر المغرب1988

18/ ديكارت رسالة الى شانو 01/11/1937.

[19]  احسان عباس، كتاب شعر الخوارج، طبعة  1960 

 [20] ديكارت رسالة الى شانو 01/ 11/1637

 [21] موريس مارلوبونتي، المرئي واللامرئي، طبعة غاليمار، باريس 1964

 [22] هنري بجسن، الفكر والمتحرك، النشر الجامعي الفرنسي، باريس  1946

 [23] أنظر د حسن حنفي، التراث و التجديد – المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع، مجد، بيروت،طبعة 2002.منطق التجديد اللغوي ص109-132

  • كاتب فلسفي

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.