لا طبقيّة في النضال.. المقاومة في جنوب لبنان “تخرج من كلّ بيت”

الأردن العربي –  السبت 23/12/2023 م …




ليس الفقراء وحدهم من يضحون بأولادهم ومالهم وممتلكاتهم في جنوب لبنان، إنما هي ثقافة جامعة ومشتركة بين كل الطبقات الاجتماعية الغنية والفقيرة.

عندما تجوب في سيارتك جنوبي لبنان، متنقّلاً بين المدن والقرى، تستقبلك شمس الحرية في صيدا، ويحملك جبل صافي في إقليم التفاح فوق الغيوم، لتشاهد وتشهد على أن المقاومة كانت سبيلاً وحيداً للتحرير. وبين القرى الحدودية مع فلسطين المحتلة أو الداخلية أو القرى الساحلية، ستشاهد شعارات معلّقة سطّرها قادة ورموز مع الزمن.

ستستنشق في صور والنبطية وكل شبر من أرض الجنوب، عبق الشهداء والحرية وصمود الناس.

في جنوبي لبنان، ستكون حواسك شاخصة لتشعر بروح المقاومة وفكرها وتحوّلها من مجرد حالة شعبية إلى ثقافة، ستعبر جملة السيد موسى الصدر “إسرائيل شر مطلق” أمام ناظريك على امتداد القرى الجنوبية، وستسمع تردد كلمات الشيخ راغب حرب في مكبرات المساجد “الموقف سلاح والمصافحة اعتراف”، وستتأكد من معطيات كثيرة مباشرة كيف تمسّك الجنوبيون بشعار “الوصية الأساس حفظ المقاومة”، ولا شكّ أنّهم تشرّبوا معنى “الروح هي التي تقاتل”، وما يميز كل هذا أنها ليست شعارات حزبية فقط، بل هي شعارات بمبادرات شعبية أيضاً، تؤكد أن المقاومة في لبنان حال مجتمعية واسعة وعفوية.

ولكن السؤال كيف يمكن أن تلمس كل هذا في حياة من يسكنون في جنوبي لبنان ومن يقاومون هناك؟ 

المقاومة للفقراء والأغنياء

في جنوبي لبنان خاصة ولبنان عامة “المقاومة ليست حكراً على أحد”، هي ثقافة تُناقض كل النظريات والأفكار الغربية وتنفيها، والتي تركز على أنّ المقاومة حكر على طبقات اجتماعية، وأنها أصلاً ضمن مفاهيم الصراع الطبقي في البيئات التي تخرج منها، فتركّز مثلاً على أن كل أشكال المقاومة تخرج من الأحياء الفقيرة، وأنها في البداية ثورة على حالة اجتماعية، وهو ما ناقضته اختلافات الشبان الذين خرجوا إلى الجهاد.

ليس الفقراء وحدهم من يضحون بأولادهم ومالهم وممتلكاتهم، إنما هي ثقافة جامعة ومشتركة بين كل الطبقات الاجتماعية الغنية والفقيرة. فعندما يُقصف منزل جنوبي لبنان من قبل الاحتلال الإسرائيلي، في ظل الحرب الدائرة على غزة والاعتداءات على جنوبي لبنان الذي يجاور الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة، ستجد الكلمات موحّدة: “فدا المقاومة”، ماذا تعني هذه الجملة في أعماقها؟ تعني أن الأمر لم يعد مجرد كلمات تنثر، بل إن هؤلاء الناس مستعدون لتقديم الغالي والنفيس من أجل حفظ أرضهم وما هم قادرون على تقديمه.

في أحياء الجنوب صور لشهداء بهتت ألوانها، لكنها ما زالت معلّقة ويعود عمرها إلى أكثر من 20 عاماً، في الأحياء نفسها ستجد صوراً لشهداء بألوان زاهية، طبعت حديثاً، إنهم الشهداء على طريق القدس.

وإذا جبت بين منازل هؤلاء الشهداء ستجد أنهم ليسوا جميعهم فقراء، إذ يحاول البعض أن يسوّق لصور هؤلاء الشهداء على أنهم مجموعة من الفقراء سلكوا هذا الطريق يأساً، لكن الحقيقة أنه على امتداد تاريخ صراع المقاومة في لبنان مع الاحتلال الإسرائيلي، هناك مقاومون فقراء وآخرون كانوا أغنياء  وقادرين على عيش حياة مرفّهة، لكنهم سلكوا طريق المقاومة، لأنها ثقافة غالبيتها متوارثة أو مكتسبة، فكثيرة هي عائلات الشهداء التي قدّمت الأب والابن والأخوة من بيوت واحدة “فداء للأرض والوطن”.

الجنوب الذي جاهر بالـ”لا” 

يقول الشاعر المصري أمل دنقل في قصيدته “كلمات سبارتكوس الأخيرة”: “المجد للشيطان معبود الرياح من قال لا في وجه من قال نعم”، ويكمل في مقطع آخر: “فخلف كل قيصر يموت.. قيصر جديد يولد”، “الشيطان” ليس نفسه “إبليس” إنما “سبارتوكس العظيم” الذي ثار على روما ولم يرضَ أن يكون عبداً خانعاً مستسلماً، فأخذت روما تظهره على أنه “الشيطان”، وعندما تحدّث عن القياصرة على لسان سبارتكوس وكأنه أراد أن يشير إلى أن فكرة المقاومة مستمرة ضد من يتوارث الشر، وهكذا حال الاحتلال الإسرائيلي.

دنقل نفسه يقول في قصيدة أخرى: “لا تصالح ولو منحوك الذهب، أترى حين أفقأ عينيك،
ثم أثبت جوهرتين مكانهما
هل ترى؟ هي أشياء لا تشترى”، وإذا حاولنا استعارة هذه الأبيات للحديث عن أهل جنوبي لبنان وكيف تحوّلت الجغرافيا وأهلها من حال مقاومة إلى ثقافة، سنجد أن أهل الجنوب خاصة ولبنان عامة، إضافة إلى فلسطين تتمّ شيطنتهم ووضعهم في خانة “الإرهاب”، لأنهم قالوا “لا” في وجه الاحتلال الإسرائيلي.

قصص جنوبية.. وفن المقاومة 

نزح حسن سرور “أبو أحمد” من بلدته عيتا الشعب الحدودية إلى جبشيت الجنوبية التي تتعرّض لاعتداءات إسرائيلية متواصلة، لكنه يذهب إلى عيتا، على الرغم من القصف.

يعود أبو أحمد على الرغم من الاعتداء الإسرائيلي والخطر إلى بيته وحقله ليروي الزرع بانتظار أن تمطر السماء، يرى حسن سرور أن هذا الأمر يشكّل بالنسبة له نوعاً من المقاومة، وهو غير مبال إن كان الموت يقف على بعد أمتار من حقله، ففي رأيه أن هذا الأمر فرصة لإظهار مدى تمسّك أهل الجنوب ببيوتهم وأرضهم.

أما في بلدة الطيبة الحدودية التي تعرّضت للقصف، والتي استشهد فيها مختار البلدة حسين منصور في إثر اصابته بقذيفة إسرائيلية، فقد رفضت هيام حجازي أن تغادر منزلها، تأذن لأبنائها بالذهاب حيث شاءوا، لكنها تصرّ هي على البقاء في منزلها، مستأنسة بمطبخها الذي تعد فيه الطعام للمقاومين وللصامدين من جيرانها، والذين يرفضون الخروج من قراهم.

وفي منطقة النبطية، تتحدث ندى حرب كيف كان الشيخ راغب حرب معلّماً خلوقاً، مدرّساً في فن المقاومة. تتذكّر ليلة استشهاد أختها هدى برفقة زوجها وأولادها في قصف إسرائيلي مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وكيف تتشابه هذه الذكرى مع المشاهد التي تصلها من غزة. وحين تنظر إلى وجهها وطريقة سردها لكل هذه الأحداث، يمكنك أن تلمس الطمأنينة التي تكسوها، تردد آيات قرآنية تتحدث عن النصر والصبر، وتنثر اليقين بأن ما هو آتٍ في غزة وفلسطين ولبنان ما هو إلّا خير.

تخرج بعض الأصوات مُحاوِلة تشويه صورة هؤلاء الناس، واتهامهم بأنهم “أعداء الحياة”، لكن كيف لهؤلاء الجنوبيين أن يذهبوا إلى المدارس والجامعات ويسافروا طلباً للعلم وهم ليسوا مع ثقافة الحياة، كيف لهم أن يجوبوا المراكز التجارية ودور السينما وهم لا يحبون الحياة، كيف لهم أن يكدحوا ويزرعوا ويحصدوا وهم لا يحبون الحياة؟ من أجل ماذا يفعلون كل ذلك؟

هذه القصص البسيطة هي من بين آلاف القصص الأخرى في الجنوب، وهي انعكاس لما تشرّبه الجنوبيون من روح المقاومة؛ المقاومة الواعية المدركة لقيمة الحياة والموت في آن معاً.

المقاومة لدى الجنوبيين ولدت لأن “إسرائيل” تريد سلب الأرض، الأرض التي تحتضنهم وتطعمهم وتسجّل ضحكاتهم وذكرياتهم، ويخطون فيها مستقبل أبنائهم.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.