وائل الدحدوح والذين معه / عمرو بدر
عمرو بدر ( مصر ) – الإثنين 25/12/2023 م …
بتكامل واضح ولا تخطئه عين بين السلاح والإعلام -أو البندقية والصورة- انهزم العدوان الصهيوني على قطاع غزة، وخسر الكيان المحتل “معركة الرأي العام العالمي” بعدما استبسل من تشبثوا بالأرض ولم يفارقوها، فهزموا العدو وسلاحه وجنوده، وفضحوا كذب رواياته وبؤسها بعد أن كشفوا كم الدمار والقتل والإرهاب الذي مارسه ضد شعب أعزل.
بين من حملوا البنادق ومن حملوا الكاميرا والميكروفون علاقة لا يمكن أن تنفصل.
كان العالم بلا شك في احتياج إلى من يُظهر بطولات الجنود المقاومين وشجاعتهم، ويفضح همجية المحتل وإجرامه، وهنا ظهر هؤلاء الأبطال الذين لم يحملوا إلا سلاح الكاميرا فقاموا بواجبهم على أكمل وجه من وسط القصف والمعارك، هؤلاء هم وائل الدحدوح والذين معه على جبهة “المعركة الإعلامية”، هذه المعركة التي أثبتت تفاصيل العدوان اليومية أهميتها القصوى، والتي ساعدت لأول مرة منذ زمن بعيد في أن تحظى قضية الشعب الفلسطيني بهذا الدعم الشعبي العالمي الكبير وغير المسبوق، والتي نسفت السرديات الكاذبة التي عاش عليها الاحتلال عشرات السنين مطمئنًا لأن هناك رأيًا عامًّا عالميًّا يتعاطف معه ويُصدّقه، هذه الأهداف المهمة صنعها هؤلاء الذين انحازوا بالصورة والكلمة إلى معركة شعبهم، وكانوا جزءًا لا يتجزأ من كل نجاح تحقق ومن كل انتصار ترسّخ.
الدحدوح مقاتلًا
في حوار مع الإعلامي المتميز أحمد طه على قناة الجزيرة، رأيت وائل الدحدوح يتحدث، لم يكن وقتها يصف حدثًا أو يشرح حادثة، بل كان الحوار يتركز على ممارسته لمهنته ومناخ العمل وظروفه، ثم بتلقائية شديدة ونبل وصدق أشد كان يحكي عن إيمانه برسالته المهنية، رأيت في الحوار مقاتلًا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، مقاتلًا بالوصف الدقيق بلا مجازات أو تشبيهات تزدحم بها اللغة العربية.
هذا المقاتل الذي فقد زوجته واثنين من أبنائه في قصف للكيان الإرهابي، ثم فقد شريك العمل وزميل المهنة الشهيد سامر أبو دقه أمام عينيه، وأصيب هو شخصيًّا بشكل يحتاج، حسب حواره في الجزيرة، إلى عملية دقيقة في يده هو نفسه الذي لا يزال يمسك بالميكروفون ليروي أحداث حرب الإبادة الصهيونية، ويتنقل من مكان إلى آخر يكشف الوقائع ويغطي التفاصيل وينقل الصورة، متعاليًا فوق جرحه الشخصي وحالته الصحية، ومتناسيًا، ولو مؤقتًا، آلام الفقد لأحب الناس وأقربهم.
في كل ما تعلمناه عن دور الصحافة وتأثيرها، وفي كل ما حاولنا التمسك به ونحن نمارس المهنة من معان عن تضحية الصحفي وصعوبة عمله والأثمان التي يدفعها راضيًا مرضيًا، يبرز اسم وائل الدحدوح -وكل الصحفيين الفلسطينيين- نموذجًا يمكن الحديث عنه بفخر واحترام، في تأكيد بالغ الوضوح على شفاعة القول بالفعل، وإمكانية أن يتحول الصحفي إلى مقاتل حقيقي في معركة لا تقل فيها قيمة الصورة عن تأثير البندقية.
جائزة حرية الصحافة
منذ بضعة أيام، رشح مجلس أمناء جوائز الصحافة المصرية وائل الدحدوح للحصول على جائرة حرية الصحافة لعام 2023، وهو اختيار موفق لمجلس الأمناء الذي أعلن عودة جائزة حرية الصحافة من جديد -بعد توقفها لسنوات- لتُمنح سنويًّا إلى الشخصيات والمؤسسات المدافعة عن الصحافة الحرة والمهنية، وكان بيان المجلس معبّرًا عن قيمة واعتزاز الصحفيين المصريين -والعرب- بوائل الدحدوح والذين معه على خط مواجهة المحتل النازي وجرائمه بالكاميرا والصورة والكلمة، وفي اعتقادي أن منح الجائزة إلى “الدحدوح” في أول عودة لها منذ سنوات يزيد من مصداقيتها، ويؤكد أنها تذهب إلى من يستحقها فعلًا.
بيان مجلس أمناء الجائزة قال إن الترشيح “يأتي تكريمًا لشهداء الصحافة الفلسطينية، الذين دفعوا حياتهم ثمنًا لنقل الحقيقة، وفضح جرائم الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني، الذين فضحوا بصمودهم الرواية الصهيونية الزائفة، وأكاذيب الإعلام الغربي، وانتصروا للحقيقة”.
وكذلك “تقديرًا لتضحية الدحدوح الشخصية، ودوره المهني، بعد أن ضرب مثلًا في التضحية من أجل نقل الحقيقة، وبعد أن دفع ثمن إخلاصه لمهنته ومهنيته باستشهاد زوجته واثنين من أبنائه وحفيده، لكنه أصر على أداء دوره المهني، ومواصلة عمله الصحفي بعدها، وهو ما كرره ليؤسس عنوانًا جديدًا للصمود الفلسطيني باستهدافه بشكل مباشر هو وزميله الشهيد سامر أبو دقة، ليعود مرة أخرى كالعنقاء مواصلًا نقله للحقيقة والانتصار للقضية الفلسطينية بعد ساعات قليلة من إصابته”.
استراحة محارب
أملي أن يحصل الدحدوح على “استراحة محارب” وينتقل إلى القاهرة لإجراء الجراحة التي يحتاج إليها أولًا، والاطمئنان على حالته الصحية قبل أن يلتقي مع مجلس أمناء الجائزة والصحفيين المصريين في حوار مفتوح بمبنى نقابة الصحفيين، يتسلم خلاله جائزته المستحقة قبل أن يعود إلى معركة الصورة والكلمة مرة أخرى مرفوع الرأس والهامة.
ولعل هناك دورًا على السلطة في مصر -بالتعاون مع قطر- في سرعة نقل الدحدوح للعلاج وإجراء “العملية الدقيقة” التي يحتاج إليها، وهو حق طبيعي لصحفي مخلص قرر أن يكون طرفًا أصيلًا في معركة وطنه وشعبه، وضحى بالكثير من أجل نصرة قضيته العادلة، وضرب أروع مثال في الاحتراف والمهنية والشجاعة، وهو لا ينتظر سوى حقه في العلاج وإجراء العملية الجراحية التي ستنقذه قبل أن تتحول الإصابة -لا قدَّر الله- إلى عاهة دائمة تؤثر في حياته وقدرته على الحركة.
في كل أقطار الوطن العربي يعيش الصحفيون مهددين في حياتهم وحريتهم، سواء كانوا يواجهون الاستبداد ودعاته، أو يتصدون للفساد وأذنابه، ويبقى هؤلاء الأبطال الذين يقاومون الاحتلال المجرم بالكلمة والصورة هم الإضافة الكبرى لنضال الصحفيين العرب في سبيل الحرية، سواء كانت تلك الحرية هي التخلص من الاحتلال البغيض، أو الخلاص من الاستبداد الجاثم على صدور الملايين، ويبقى “وائل” والذين معه يمثلون إلهامًا لكل صحفي في الوطن العربي ما زال مؤمنًا بأن الحرية حق، وهي القيمة التي تنتظرها شعوبنا العربية في كل وقت والتي تستحق أن ندفع فيها كل الأثمان مهما كانت غالية.
التعليقات مغلقة.