غزة.. والفاشية الجديدة / هشام فؤاد
هشام فؤاد ( مصر ) – الإثنين 25/12/2023 م …
“امسك متضامن مع فلسطين”.. الشعار ترفعه أنظمة ليبرالية غربية طالما تغنت بحرية الرأي والتعبير.. والهدف: مغازلة أنصار التيارات الفاشية الصاعدة المعادية للمهاجرين والإسلام وللحريات، خصوصا بعد المساومة التاريخية بين “الإخوة الأعداء”، أي بين الصهاينة وبين منكري المحرقة اليهودية الذين يحنون إلى عهد الرايخ الثالث، عهد هتلر!
عدو مشترك
وبالرغم من ابتزاز دولة الاحتلال الإسرائيلي، للعالم الغربي بالذات للتكفير عن المذابح التي ارتكبها الزعيم النازي هتلر في الأربعينيات وأودت بحياة نحو 5 ملايين يهودي، فإن وسائل الإعلام تكشف عن تقارب كبير بين الحكومة الصهيونية وبين الفاشيين الجدد.
ويقول المؤرخ الفرنسي دومينيك فيدال إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يقوم بخطب ودّ هذه الحركات، باسم مكافحة الإسلاموية، حتى لو كلفه الأمر أن يغض الطرف عن معاداة هذه الأحزاب العنصرية للسامية أي للطائفة اليهودية نفسها.
ويضيف فيدال في مقالة له على موقع “أوريان 21” الفرنسي، نتيجة “للحرب الصليبية” التي يشنها كل من اليمين واليمين المتطرف في إسرائيل على الفلسطينيين، “فهناك استعداد تام لعقد أي حلف كان، حتى لو كان حلفًا بعيدًا كل البعد عن طبيعة الأطراف المعنية”.
فنتنياهو يتودد لليمين الفاشي الذي يتزايد نفوذه السياسي بشكل ملحوظ في أوروبا، لتدعيم سياساته العنصرية ضد الفلسطينيين، والفاشية الجديدة من جهتها اعتبرت المهاجرين وعلى رأسهم العرب والمسلمون سبب الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يشهدها العالم منذ عام 2008، مما يفرز في النهاية وحدة في الأهداف النهائية بين أعداء الأمس.
وفي هذا الصدد كتب الصحفي الإسرائيلي (يوسي ميتسري) وهو مراسل الشؤون الدولية في القناة الـ13 الإسرائيلية تحليلا لافتا حول ما سماه “ظاهرة تدعيم العلاقات بين اليمين الإسرائيلي المتطرف ونظيره في أوروبا”.
ويضيف أن لسان حال اليمين المتطرف في تل أبيب أصبح يقول “لنتّحد معا يدا واحدة نحن أعداء المهاجرين إلى بلدانكم أو مقاومين لشعبنا الإسرائيلي”.
وتقول سارة دي لانغ، الباحثة في شؤون الحركات الشعبوية في أوروبا وأستاذة العلوم السياسية في أمستردام، في مقابلة مع موقع “دويتش فيله” الألماني إن “طيف الأحزاب اليمينية المتطرفة الذي يعتبر إسرائيل بؤرة الديمقراطية الغربية في الشرق الأوسط، أعرب عن دعم مطلق لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وعن توغلها في غزة”.
ولكنها أضافت أن اليمين المتطرف “ليس في حالة وحدة حيال ذلك، بل ما زال يعاني من انقسامات”.
وفي هذا السياق أقام الزعيم اليميني المتطرف ماتيو سالفيني رئيس حزب الرابطة المشارك في الائتلاف اليميني الحاكم في إيطاليا، علاقات وثيقة مع الحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل.
ومضى السياسي في الحزب ماركو زاني وهو أيضا نائب في البرلمان الأوروبي، قدما في التأكيد على دعم الحزب القوي لإسرائيل إذ قال في بيان عقب السابع من أكتوبر، إن هجوم حماس يحمل في طياته “إعلانا بأن المتطرفين الإسلاميين قد أعلنوا الحرب على الغرب بأكمله”.
كما دعا حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني الشعبوي الذي جرى تصنيف أحد فروعه على أنه “كيان متطرف”، إلى خفض المساعدات والدعم المالي المقدم إلى الجانب الفلسطيني.
ونظرا إلى أن أحزاب الديمقراطية الاجتماعية والوسط الحاكمة في واشنطن ودول أوروبية تتبنى روشتة الليبرالية الجديدة، فهي ترفض بطبيعة الحال التقارب مع معسكر الرافضين لليبرالية المتوحشة والحرب والفاشية، وبالتالي تتبنى مقولات اليمين الفاشي الرافض للعولمة والمناصر لعودة الدولة المركزية والمعادي للحريات وللمهاجرين وللإسلام.
وهكذا رأينا ومنذ عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر الماضي، التي وجهت ضربة حاسمة للمصالح الصهيونية والاستعمارية، حكومات “العالم الحر” تؤكد على دعمها، لتل أبيب مهما كانت “التكلفة البشرية”، وفي نفس الوقت تستهدف المتضامنين مع الشعب الفلسطيني.. وتنتهك حقوقهم في التظاهر وحرية الرأي والتعبير والتعليم والتنظيم والعمل، بل وصل الأمر في بعض الأحيان إلى التجريد من الجنسية وانتهاك حق الحياة.
أمريكا.. مكارثية جديدة
بعد هزيمة الرئيس الأمريكي اليميني المتطرف دونالد ترمب، تنفس العالم الصعداء، ولكن أمريكا تشهد تحت حكم الديمقراطي جو بايدن حملات ترهيب في الجامعات ومجلس النواب الأمريكي ذاته، ربما لم تشهدها طوال سبعين سنة مضت، منذ انتهاء محاكمات السيناتور جوزيف مكارثي للكتاب والمسؤولين بتهم الشيوعية وتهديد قيم المجتمع المسيحية.
وفي أحدث الوقائع، قامت جامعة كولومبيا في نيويورك، بتعليق نشاط جمعيتين طلابيتين هما “طلاب من أجل العدالة في فلسطين” و”أصوات يهودية من أجل السلام” حتى نهاية فصل الخريف الحالي، وذلك بعدما نظمتا احتجاجات طلابية تطالب بوقف إطلاق النار ووقف الحرب على غزة.
وفي واقعة شهدت انسجاما “نادرا” بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري في مجلس النواب، تم إجراء تحقيقات مع رئيسات ثلاث من أعرق الجامعات الأمريكية، واتهامهن بشراسة أمام الكاميرات بـ”تهديد حياة الطلاب اليهود” بسبب مظاهرات وهتافات الطلبة المتعاطفين مع فلسطين؛ وتركهم دون عقاب بدعوى حرية الرأي.
تزعمت حملة الترهيب الكارثية لحرية الرأي واستقلال الجامعات في هذه النسخة المكارثية، النائبة الجمهورية إليس ستيفانيك، التي تتبنى نظريات المؤامرة التي يؤمن بها العنصريون البيض، بأن الحكومة تساعد على زيادة المهاجرين ليحلوا محل أصحاب البلد من البيض.
وقبل أسبوعين، ألقت الشرطة الأمريكية القبض على شخص يُشتبه في إطلاقه النار على ثلاثة شبان من أصل فلسطيني بالقرب من حرم جامعة فيرمونت، كما قتل متطرف يميني طفلا فلسطينيا وأصاب والدته بهجوم بسكين، في 14 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ونقلت وكالات الأنباء أن القاتل كان يصرخ، وهو يطعن الطفل الصغير ووالدته، في منزلهم بشيكاغو قائلا “اخرجوا من بلادنا.. لا مكان للمسلمين في أمريكا”.
حدود “التنوير” الفرنسي
لم تستطع فرنسا حاملة لواء التنوير، أن تتحمل أن تلقي مناضلة فلسطينية، محاضرة يتيمة، في إحدى الجامعات، فتم طردها من البلاد، بالضبط مثلما تفعل أي دولة سلطوية في الشرق الأوسط.
وقالت المناضلة مريم أبو دقة، القيادية بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إنها ضحية حملة عنصرية شرسة أدت إلى ترحيلها من فرنسا إلى مصر، لافتة إلى أن أحداث غزة كشفت عن “الفاشية الغربية الجديدة”.
وذكرت في كلمتها في المؤتمر التضامني مع الشعب الفلسطيني، بمقر نقابة الصحفيين المصريين، أن “الأجهزة الأمنية الفرنسية اختطفتها، واقتادتها إلى السجن، وحاكمتها باعتبارها إرهابية بسبب منشورات نشرتها على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” تؤيد حق المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي”
وفي السياق ذاته طالبت النائبة البرلمانية الفرنسية “فاليري بوايي” بسحب الجنسية الفرنسية من لاعب كرة القدم الدولي ذي الأصل الجزائري كريم بنزيما، بعد تعاطفه مع سكان مدينة غزة الفلسطينية.
ويشير مركز دراسات إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية، إلى أن العديد من الآراء تستغرب التدابير الفرنسية حيال المواطنين الذين يرغبون في إعلان دعمهم لفلسطين، ومن بينها قرار وزير الداخلية جيرالد دارمنان بحظر “المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين”، على اعتبار أن هذا يعتبر نوعًا من أنواع تقييد حرية التعبير في بلد فولتير الذي تُنسَب إليه هذه الجملة: “لا أتفق مع ما تقوله، لكنني سأقاتل حتى الموت حتى يكون لك الحق في أن تقوله”.
إسرائيل “شرط” الجنسية الألمانية
ولم تكتف برلين، أسيرة ماضيها المعادي للسامية، بالقبض على المناصرين للقضية الفلسطينية وترحيل عدد منهم، بل وضعت ولاية ساكسونيا شرطا أساسيا للحصول على الجنسية الألمانية وهو الاعتراف عبر الموافقة الكتابية بحق إسرائيل في الوجود، باعتبار ذلك جزءا من قيم النظام الليبرالي الحر.
وفي سياق متصل، كشف وزير العدل الألماني، جوزف شوستر، أنه تم حظر عبارة “من النهر إلى البحر” في جميع اللغات بألمانيا، بزعم أنها تنكر حق إسرائيل في الوجود.
ولم تتردد الحكومة الألمانية، في اتخاذ قرار بوقف التمويل الحكومي لمركز “عيون” الثقافي اليساري في برلين، تمهيدا لإغلاقه الشهر المقبل بسبب استضافته لفاعليات أدبية وفنية مناصرة لغزة.
ونقلت صحيفة “تاز” الألمانية، عن المديرة التنفيذية لمركز “عيون” وصفها لتدخل حكومة الولاية في برنامج المركز الثقافي بأنه “عنصري”.
ورغم أن الحكومة الألمانية التي تنتمي لليسار الديمقراطي تعتبر حقوق الإنسان غير قابلة للتفاوض، فإنها أوقفت التمويل عن مركز حقوقي مصري، هو مركز قضايا المرأة، لأنه تجرأ ووقع على عريضة تدين المجازر في غزة وتدعو إلى مقاطعة البضائع الإسرائيلية وقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل.
من جانبها، قالت السفارة الألمانية بالقاهرة في بيان مقتضب إن من معاييرها للتمويل الحكومي أن تكون المنظمات غير متحالفة مع حركة مقاطعة إسرائيل “بي دي أس”، وأن لا تدعو بأي شكل من الأشكال إلى مقاطعة إسرائيل.
وأوضحت عزة سليمان، مديرة المركز في تصريحات صحفية، أن السفارة أرجعت قرارها إلى أن القانون الألماني لا يسمح بدعم منظمات غير حكومية تدعو إلى مقاطعة إسرائيل، وهو ما اعتبرته عزة “تضليلًا من الحكومة الألمانية التي تتحجج بقرار غير ملزم سبق أن أبطلته كثير من المحاكم الألمانية، وتعبيرًا عن رغبتها في التطهر من تاريخ بلدها الدموي تجاه اليهود على جثث المنظمات الأهلية وجثث المدنيين في غزة”، قائلة: “إحنا في مرحلة تاريخية منحطة وحرجة تسقط فيها الأقنعة من وجوه كل الداعمين لحقوق الإنسان”.
وأضافت عزة سليمان أنه رغم تحذيرات خبراء الأمم المتحدة بشأن خطورة الوضع في غزة، لم تر الحكومة الألمانية أن الحرب على غزة تتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان والقوانين الدولية، وهو ما اعتبرته عزة “شكلًا من أشكال الفاشية والقمع والاستعمار”.
معسكر المقاومة والفاشية الجديدة
ويعتبر مؤرخ العصر الحديث الأستاذ الجامعي الإيطالي إنزو ترافيرسو أننا نتعامل مع إرثٍ من الفاشية، إما بالدعوة إليها، أو لأنها لا تزال موجودة في دوائر أحزاب السلطة. ولكن هذه الظواهر لا تزال في مرحلة انتقالية، وتتكيّف مع الحقبة التي تعيش فيها.
ويربط الباحث السياسي الفرنسي جيل إيفالدي، المتخصص في تاريخ الأحزاب الأوروبية الشعبوية والقومية اليمينية المتطرفة، بين الدينامية الاستثنائية لليمين المتطرف في السنوات الأخيرة، وبين الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي ترافقت مع تفشي وباء «كوفيد 19»، حيث استغلت الأحزاب اليمينية الصعوبات المرتبطة بالوباء ضد الحكومات القائمة.
بيد أن الخيط الجامع والقاعدة الأيديولوجية لكافة الأحزاب اليمينية المتطرفة، حسب إيفالدي، يتمثلان في الدفاع عن الهوية الأوروبية ومعاداة الإسلام ورفض الهجرات والربط بينها وبين الاعتداءات الإرهابية التي عرفها كثير من البلدان الأوروبية.
وهي توجهات لا تختلف كثيرا في جوهرها عن الأساطير الصهيونية التي تضع هدفا ثابتا لها هو تخليص الدولة من الفلسطينيين واستبدالهم بمستوطنين يهود تم تصويرهم على أنهم “الملاك الشرعيين للأرض” العائدين إلى ديارهم بعد آلاف السنين من المنفى.
وفي عام 2017، كتب بتسلئيل سموتريتش، زعيم حزب البيت اليهودي، اليميني المتطرف، ووزير المالية الحالي مقالة تحت عنوان “خطة حاسمة” لإسرائيل. وقال إن الصهيونية وحركة التحرر الوطني الفلسطيني لا يمكن أن يتعايشا، وعلى أحدهما أن يستسلم للآخر “طوعًا أو بالقوة”.
هذه الموجة اليمينية العنصرية، حسب أستاذة التاريخ الدولي في جامعة لوزان، وممثّلة اليسار الراديكالي في البرلمان السويسري ستيفاني بريزيوسو، ستزداد خطورة إذا ما دخل الاقتصاد العالمي حالة جديدة من الركود والانكماش، وهو أمر متوقع خلال الفترة القادمة مع زيادة تدفق اللاجئين إلى أوروبا وأمريكا الشمالية، وهي زيادة لا تعود فقط للحروب الأهلية والإقليمية وعدم الاستقرار السياسي في بلدان العالم الثالث، بل تعود أيضًا للفجوة الضخمة في الثروة وفي الدخل بين الدول الصناعية الكبرى وبقية دول العالم.
وتضيف ستيفاني، في حوار مطول معها نشر على موقع “صفر” اللبناني الإلكتروني، أن هذه الفجوة المتزايدة إلى جانب التغيرات الديموغرافية (تراجع النمو السكاني في أوروبا في مقابل الانفجار السكاني في إفريقيا) تعني أن أزمة المهاجرين والهجرة والرد اليميني العنصري على هذه الأزمة سيتفاقمان ما استمرّ النظام الرأسمالي وعدم المساواة الناجمة عنه سواء على المستوى المحلي أو الدولي.
ولكن هذا الصعود المروع لليمين المتطرف في أوروبا وأمريكا تواجهه مقاومة شرسة من معسكر عريض يضم الشباب والطلاب وجماعات نسائية وعمالية إلى جانب الأقليات المضطهدة. وهو المعسكر الذي يقود -رغم التضييق الممنهج- الاحتجاجات الجماهيرية المناصرة للشعب الفلسطيني والداعية إلى وقف الحرب الآن في أمريكا وإنجلترا وفرنسا بل وفي ألمانيا ذاتها.
ومن قلب هذا المعسكر طالبت إيوني بيلارا، وزيرة الحقوق الاجتماعية الإسبانية بالإنابة، حكومة بلادها بقطع العلاقات مع إسرائيل وتقديم حكومة الكيان الصهيوني للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية لإبادتها الشعب الفلسطيني.
وقالت بيلارا، عبر حسابها على منصة إكس: “قبل قرن من الزمان، كانت الهمجية الفاشية متفشية في أوروبا.. دعونا لا ندع نفس الشيء يحدث في فلسطين مع إبادة الشعب الفلسطيني، دعونا نقطع العلاقات مع إسرائيل الآن ونقدم حكومتها أمام المحكمة الجنائية الدولية”.
وليس من قبيل المبالغة القول إن مصير العالم تكتبه اليوم المقاومة الفلسطينية في غزة، وأنصارها المعادين للفاشية والصهيونية والليبرالية المتوحشة في العالم كله.
التعليقات مغلقة.