ما هي الليبراليّة الكلاسيكيّة ؟ “دراسة” / د. عدنان عويّد
د. عدنان عويّد ( سورية ) – الخميس 28/12/2023 م …
What Is Classical Liberalism?
by John C. Goodman
ترجمة د. عدنان عويّد: ( بتصرف )
قبل القرن العشرين , كانت الليبراليّة ” الكلاسيكيّة ” هي الفلسفة السياسيّة المسيطرة في الولايات المتحدة الأمريكيّة على ما يبدو, وهي التي شكلت منطلق الفلسفة السياسيّة لـ ” توماس جفرسون ” (Thomas Jefferson ).. ولموقعين بيان الاستقلال. وعلى أساسها تم تطبيق بنود بيان الاستقلال الأمريكي, ممثلة بالدستور, وأوراق الفيدراليّة, والعديد من الوثائق التي أنتجت من قبل الناس الذين أوجدوا نظام الحكومة الأمريكيّة, هذا وأن العديد من المحررين أو المعتقين الذين عارضوا العبوديّة, كانوا من حيث الجوهر ليبراليين, مثلما كان المنادون بحقوق المرأة أو ممن قاتل من أجل مساواتها في الحقوق ليبراليين أيضاً.
على العموم, إن الليبراليّة ” الكلاسيكيّة ” في سياقها العام هي الإيمان بالحريّة , وحتى هذا اليوم , فإن أوضح البيانات (النظريّة) لهذه الفلسفة هو ما جاء في بيان الاستقلال/ لجفرسون/ , وفي ذلك الوقت, كما هي الحال اليوم, فإن معظم الناس يعتقدون أن حقوقهم تأتي من الحكومة, وأن معظمهم اعتقد بأنه يملك هذه الحقوق فقط عندما يتم انتخاب الحكومة التي ستمنحهم هذه الحقوق, بيد أن الفلاسفة الانكليز أمثال ” جان لوك ” (John Locke) , فقد بينوا أن الطريق الآخر للحقوق يدور حول الإقرار بأن الناس يحصلون على حقوقهم بمعزل عن الحكومة كون هذه الحقوق تشكل جزءاً من طبيعتهم, ثم إلى حد بعيد يستطيع الناس تشكيل هذه الحكومات وحلها أيضا, على اعتبار أن الهدف الشرعي للحكومة هو حماية هذه الحقوق.
إن الناس الذين يطلقون على أنفسهم اليوم اسم “الليبراليون الكلاسيكيون” غالبا ما يميلون لامتلاك الرؤية ذاتها للحقوق, ولدور الحكومة ذاتها التي امتلكها أوعبر عنها “جفرسون” ومعاصروه, إضافة إلى ذلك, لم تكن لديهم الرغبة أو الميل لوضع أي تمايز هام ما بين الحريات الاقتصاديّة , والحريات المدنيّة.
على يسار بقعة الضوء السياسيّة لليبراليّة, توجد أشياء كثيرة معقّدة, حيث نجد الاختلاف الكبير بين ليبرالي القرن التاسع عشر, وليبرالي القرن العشرين, فليبراليون القرن التاسع عشر اعتقدوا بالحريات الاقتصاديّة, بينما لم يؤمن أو يعتقد بها ليبراليون القرن العشرين, الذين اعتقدوا بأنها – أي الحريات الاقتصاديّة – لاتكون اختراقاً أو اغتصاباً لأي حق أساسي بالنسبة للحكومة في ضبطها لمسائل مثل, أين يعمل الناس ؟ , ومتى يعملون ؟ , أو ما هي الأجور التي يعملون من أجلها؟, وما هي الأشياء التي يستطيعون شراءها, أو يستطيعون بيعها, والسعر الذي يستطيعون الشراء به؟ … إلخ . هذا وفي الوقت نفسه , نجد أن ليبراليين القرن العشرين قد استمر تأثرهم بمعتقدات القرن التاسع عشر, وكذلك احترامهم للحريات المدنيّة, وفي محطة المدار الأخير للقرن التاسع عشر, كان هناك دعم غير محدود من قبل الليبراليين للحريات المدنيّة, وقد قامت بعض المؤسسات الاجتماعيّة الداعمة لهذه الحريات مثل (الاتحاد الأمريكي للحريات المدنيّة) (ACLU) في أمريكا على سبيل المثال لاالحصر. هذا ونحب أن نشير هنا أيضا إلى أنه منذ أن أصبحت الليبراليّة هي الآيديولوجيا المسيطرة في القرن العشرين, راحت النزعة السياسيّة العامة لهذا القرن تعكس معتقدات هذه الليبرالية, ثم مع نهاية القرن العشرين ذاته ,حقق المواطنون القليل من الحقوق الاقتصاديّة قياسا لما حققوه أو حازوا عليه في بداية القرن, بينما كان حضهم أوفر كثيراً في جانب الحريات المدنيّة.
نماذج الحقوق المدنيّة:
إن قوائم حقوق الإنسان تشير بأن للأفراد “حقوقا” كثيرة , ولكن الأسئلة المشروعة التي تطرح نفسها علينا هنا هي: ماذا يعني الحصول على الحق؟, وهل تكون بعض الحقوق مختلفة بالأساس عن الأخرى؟. ومع ذلك نجد في تقاليد الليبراليّة الكلاسيكيّة, أن الحقوق حازت على الكثير من الصفات التي تتضمن التالي :
أولا : الحقوق تعتبر وسائل اتصال :
تعتبر الحقوق وثيقة الصلة بالمسؤوليات الأخلاقيّة التي يتعامل بها الأفراد مع بعضهم بعضاً, وهي تشير هنا بشكل خاص إلى نطاق السلطة أو السيادة التي يتمتع بها الأفراد داخلها, وتخويلهم رغبة الاختيار دون تدخل من أحد, ففي هذه الحالة تحكم الحقوق هنا كمسألة أخلاقيّة على أعمال الناس الآخرين في عالم لا يقوم على شخص واحد فقط, أو على عالم يتواجد فيه أفراد كثر لا يتفاعلون مع بعضهم. فالعدالة أو الحقوق وفق هذه الرؤية سوف لن توجد في عقل الفرد الذي لايريد لأي شخص آخر أن يطالب بحق مقابل, كما أنها لن توجد أيضا في عقل من يريد الدخول بصراع مع أية تجربة لحقوق الفرد, إن الحقوق توجد حيث يتفاعل الناس مع بعضهم ويقيمون علاقات وفقا لاهتماماتهم ومصالحهم.
ثانيا : الحقوق الأساسيّة تقتضي الواجبات:
إن من حق أي فرد أن يقوم بأعمال خاصة تتطلبها رغباته وحاجاته, على أن لايكون لهذه الأعمال مساس بحقوق الآخرين, وهذه الأعمال الفرديّة في المقابل تتطلب واجبات من قبل الآخرين تجاهها, فعندما يقوم ( جان ) مثلا بوضع ( مرجوحة ) في منزله, يعتبر هذا حق مشروع له, ومن واجب الآخرين عدم ممانعته في عمله هذا, ولكن في المقابل ليس من المفروض على الآخرين تقديم المواد الأوليّة له على سبيل المثال, وهذا ينطبق على( جوي) أيضا تجاه الآخرين.
على العموم يمكنا القول في هذا الاتجاه: إن هناك واجباً سلبياً وآخر إيجابياً في مثل هذه الحالة, فوضع (المرجوحة) في منزل “جان” على سبيل المثل فرض الواجب (السلبي) على الآخرين تجاه بناء المرجوحة, عدم ممانعتهم أو تدخلهم في وضعها, كما أنه لم يفرض واجباً إيجابياً في المقابل وهو المساعدة في تقديم المواد الأولية لـ “جان”. هذا وفي السياق ذاته يمكننا الإشارة هنا إلى أنه من الحقوق الأساسيّة المعروفة وهي, حق الحياة , والحريّة , وحق الملكيّة, قد تدفقت حقوق كثيرة أخرى أو اشتقت من هذه الحقوق الأساسيّة بناء على تزايد النشاط العملي والفكري للناس, ثم راحت من هذه الحقوق المشتقة تتكون واجبات جديدة.
ثالثا : الحقوق مصانة:
بين “توماس جفرسون” في بيان الاستقلال, بأن الحقوق الأساسيّة مصانة, وهذا يعني أنه من غير الممكن التفريط بها من قبل الفرد الذي حاز عليها, كما أنه من غير الممكن تصديرها أو استيرادها .. بيعها أو شراءها, أو المتاجرة بها, ولكن من الممكن انتهاكها على أية حال .
رابعا : الحقوق الأساسية لايمكن أن تأتي من الحكومة:
وهنا أيضا نتكئ على بيان الاستقلال الذي أشار بأن الحقوق الأساسيّة لاتعطى أو تصنع أو تحوز على شرعيتها من قبل الحكومة, بل إن الحكومة ذاتها تحصل على شرعيتها من وجود هذه الحقوق ذاتها, وحسب رؤية كل من “لوك” و “جفرسون”, والعديد من الآخرين الأخلاقيين والعقلانيين, فإن الحكومات تشكل من أجل حماية هذه الحقوق, هذا وقد أكد ” لوك ” في هذا الاتجاه أيضا , بأن شرعية الحكومات في الحقيقة قد أسست لتسهل أكثر الأعمال تأثيراً وهي فرض هذه الحقوق الأساسيّة, وأن الحكومات الشرعيّة وجدت بالتوافق, بينما الحقوق الأساسيّة لم تؤسس أو توجد بالتوافق.
خامسا : الحقوق الجوهريّة مقابل الحقوق الإجرائيّة:
إن بعض الحقوق التي دخلت ضمن قائمة حقوق الإنسان عدّت حقوقا “جوهرية” وبعضها الآخر حقوقا “إجرائية”, والآباء المؤسسون لقضايا حقوق الإنسان, كانوا مهتمين جدا وبكل وضوح بهذين النوعين من الحقوق, والعمل على التمييز بينهما, لذلك كثيراً ما نجدهم يشيرون إلى أن الحكومات الشرعيّة وجدت أساساً لحماية الحقوق الجوهريّة, ولكن أثناء ممارستها لهذه المهمة الحكوميّة, تكون بحاجة للإلتزام بإجراءات حقيقيّة لتحقيق مهمتها , فعلى سبيل المثال, لكي تحمي الحكومة الحقوق, وتحكم أو تفصل في الخلافات حول هذه الحقوق, يجب على الحكومة هنا أن توجد وتدرب أجهزة خدمة لهذه المهمة (قوات شرطة), وهذه المسألة تدخل في مدار الحقوق الإجرائيّة, هذا وتحوز الحقوق الإجرائيّة على أربع سمات أساسية هي الآتية:
1-هي أقل أصالة من الحقوق الجوهريّة.
2- هي حقوق عرضيّة.
3- هي تدل ضمنا على الواجبات الايجابيّة.
4- هي نتاج توازن المصالح.
الحقوق في الدولة التشا ركيّة:
ما يميز نشاط الدول ذات الطابع التشا ركي في القرن العشرين , مثل الدولة (الشيوعية) أو الدول ذات الطابع القومي العنصري, مثل , (النازية , والفاشية) , هو رفضها الفكرة الكلاسيكيّة للحقوق الليبراليّة, حيث نجد أن كل أنموذج من هذه الدول يؤكد وفقا لاتجاهه الأيديولوجي, طبيعة أو صيغة الحقوق التي يطالب بها, فبالنسبة للشيوعيّة كان التركيز على حقوق الطبقة العاملة, ومواجهة الحقوق الفرديّة في صيغتها الليبراليّة, وبالنسبة للنازيّة والفاشيّة, كان التركيز على حقوق العرق والأمّة والمجال الحيوي, وبالنسبة لمهندسي دولة الرفاه, كان التركيز على مطالب الحاجات الاجتماعيّة بعمومها, هذا وأن كل هذه الأنظمة تقر بشرعيّة عيش الأفراد من أجل الدولة, ومعارضة الحقوق التي طرحتها الليبراليّة الكلاسيكيّة, ثم نادراً جداً ما هاجمت فكرة الحقوق في حد ذاتها, بل هي في الحقيقة طرحت تعريفا جديدا لمفهوم “الحق” بالشكل الذي أفرغت منه معظم محتوى الحق في صيغته الليبراليّة.
مصادر الحقوق:
سؤالان مشروعان يطرحان نفسيهما علينا هنا وهما: من أين تأتي الحقوق؟, وكيف يمكن لهذه الحقوق أن تصان؟.
إن الآباء المؤسسين لمسألة الحقوق, اعتقدوا أن الحقوق الأساسيّة أو الجوهريّة تأتي من الطبيعة, لذلك من هنا جاءت تسمية “الحقوق الطبيعيّة”, هذا في الوقت الذي اعتمدوا فيه أيضاً على النماذج الأخرى من المفاهيم أو الرؤى العقلانيّة لحماية كلا الاتجاهين في الحقوق وهما, الجوهريّة منها والافتراضيّة وهي التي تتضمن المذهب النفعي, والقانون المشترك, ونظريّة العلاقات الاجتماعيّة.
أما أهم مصادر هذه الحقوق فهي:
الطبيعة كمصدر للحقوق:
إن الحقوق كمطالب أخلاقيّة وشرعيّة, تعمل على محاصرة أعمال الحكومة والأفراد التي تتخذ ضد الفرديّة, أو ضد ما من شأنه أن يقوي أو ينمي تلك المطالب التي نهضت بداية مع الحقوق الطبيعيّة التقليديّة في الفلسفة, فالفلاسفة أمثال ” هوجو كروتيوس “Hugo Grotius” (1583 -1645 ), و(سامول فون فبندوروف)) (Samuel von Pufendorf ) ( 1632- 1694 ) , والعديد من المشاهير أمثال (جان لوك) ( 1704- 1632 (, ناقشوا بأن الإنسانيّة قد حازت على حقوق أساسيّة (طبيعيّة) أكيدة مثل حق (الحياة , الحرية , الملكية), وهذه الأفكار قد أثرت في الحقيقة وبكل وضوح في الآباء المؤسسين, كما انعكست في بيان الاستقلال الأمريكي والعديد من الوثائق المتعلقة بحقوق الإنسان. ففي الوقت الذي نرى فيه العديد من المفكرين المبكرين بما فيهم “لوك” يعتقدون أن “الله” هو الذي منح هذه الحقوق ونجدهم أيضاً يشيرون إلى أن الإنسانيّة امتلكت حقوقاً أخرى حتى مع إبعاد فكرة أنها من عند “الله”, (مثل حق التعليم والصحة والعمل .. وغير ذلك – المترجم), وبذلك استطاعوا عبر اكتشافهم لإمكانيّة استخدام القدرات الإنسانيّة للعقل , أن يمتحنوا حتى القوانين الطبيعية ذاتها.
إن مسألة الجدال حول القوانين الطبيعيّة غالبا ما يتسع ليجذب إلى محيطه نماذج القوانين الأساسيّة, أو الجوهريّة أيضاً, مثل: حق الحياة , الحرية , والملكية, وأنه من السهل بمكان أن نرى كيف أن نظريّة الحقوق الطبيعيّة قد توافقت مع الحقوق الافتراضيّة, لتدرج في قائمة الحقوق فضاءات حق (الكلام, والدين, والاجتماع).
المنفعة مصدر من مصادر الحقوق:
تعامل الاتجاه الفلسفي الثاني من الجدال مع الحقوق الأساسيّة أيضا, حيث أكد دعاة هذا الاتجاه أن الحقوق الأساسيّة أو الطبيعيّة تكون ذات بعد حيوي, كونها تخلق الظروف التي تكمن تحتها السعادة, أو القاعدة العامة للرفاه بشكل متزايد, إضافة إلى ذلك, وبسبب, أن معظم الأفراد يعتبرون هم أنفسهم الحاكم الأفضل لحاجاتهم, التي تمثل متطلباتهم, رغباتهم , قيمهم, ومن ثم مجموع الرفاه الاجتماعي لهم, فإنه من الممكن أن تتحقق هذه الحاجات وبشكل متزايد عندما يكون الشعب حرا في قراراته, ومستقلا عن تلك القرارات التي يصنعها شخص بمفردة, أو كتلة اجتماعيّة صغيرة تحركها منافعها الشخصيّة أو الأيديولوجيّة الضيقة. لذلك, ولكي تتحقق سعادة الإنسان ورغبته في العيش, من الضروري إيجاد مجال أو فسحة واسعة للاستقلال الذاتي داخل هذا الإنسان. فكل حكم للفرد نابع من إدراك الفرد بذاته (هو أو هي) لطبيعة وأهداف عمله, يكون هذا الإدراك هو الأساس, أو المنطلق للحريّة الحقيقيّة, وأي تدخل من قبل الآخر فرد كان أم حكومة في هذا (الحكم) المتعلق بالفرد, سيكون غير قانوني.
إن المنظرين القدماء لحقوق الإنسان, أمثال (لوك), قدروا تماماً ذاك الجدال الذي دار حول أهميّة (المنفعة) كمصدر للحقوق, ففي نقاشه حول مسألة (الملكية) وجد ” لوك ” أنه عند السماح للناس في نقل ملكيتهم من الملكية العامة إلى الملكية الخاصة, فإن الجهد الذي وضعوه من أجل تحسين ملكيتهم عبر هذه الطريقة يهدف – برأيه – إلى إنتاج المنفعة للمجتمع بعمومه.
القانون العام مصدر من مصادر الحقوق:
يعتبر هذا المصدر الذي عرف واشتهر من قبل المؤسسين بـ (القانون العام) قريباّ في رؤيته من رؤية (الحقوق الطبيعيّة), هذا ويمكن للقانون أن يقسم هنا إلى قسمين هما: القانون العام , والقانون الخاص, والقانون العام في سياقه العام وجد من قبل هيئات تشريعيّة ويتألف من قوانين شرعيّة , أسست بدورها على أبنية دستوريّة. أما على مستوى القانون الخاص, فقد ارتقى عبر السياق التاريخي له كنتيجة للقرارات الرسميّة المتعلقة بالمحكمة, أو للقرارات القضائيّة, في دوائر الملكيّة والاتفاقات القانونيّة بين الناس. (ومن هنا يأتي في القضاء الحق العام والحق الخاص لمن يرتكب جريمة ما بحق الآخرين, فإذا سقط الحق الخاص بسبب التسامح والتنازل عن الحق من قبل المتضرر, فإن الحق العام يبقى ويحاسب وفقه مرتكب الجريمة – المترجم).
إن (القانون الخاص) صفة استخدمت لوصف عمليّة قانونيّة قديمة, عملت على تصوير وكشف أن أساس هذه العمليّة القانونيّة جاء تراكميّاً – قضية قضائيّة بعد أخرى – عبر التاريخ , وبذلك فإن الحكام الذين تعاملوا مع هذا القانون الخاص, لم يروا أنفسهم كخالقين لهذا القانون بقدر ما هم مكتشفين له, وبالتالي هذا الموقف دفعهم إلى تأييد مبدأ (القانون الطبيعي) الذي بموجبه يكون هناك قوانين طبيعيّة للتصرف تأصلت في الإنسانيّة نفسها, وبسهولة كبيرة اكتشفت عبر ثورة العادات والتقاليد التجاريّة. (وهذا ما يسمى بالغرف والعادة.. المترجم).
إن وظيفة أو مهمة حاكم القانون الخاص, كانت النظر وبذل الجهد لكشف القوانين التي وجدت مسبقاً, ثم تقديم أحكام جديدة تؤسس عليها.
العقد الاجتماعي مصدر من مصادر الحقوق:
لقد أدركت سلطات الدساتير التي انطلقت من حقوق الإنسان ذاك الأثر العظيم لنظريّة العقد الاجتماعي على الحقوق الفرديّة, وفي هذا الاتجاه ناقش الفيلسوف “توماس هوبس” بأن الحكومة الشرعيّة هي التي تؤسس على عقد اجتماعي بين المواطنين (الذين تعهدوا بإطاعة الدولة), وبين سلطة الدولة (التي تعهدت بدورها مقابل تنفيذ المواطنين لتعهدهم أن تقوم بحمايتهم من الجريمة والاعتداء الخارجي.), وللفيلسوف “جان لوك” وجهات نظر حققت تأثيراً واسعاً على المؤسسين, حيث شرح مفهوم العقد بين أعضاء المجتمع على أنه وعد يتم فيه تبادل التخلي عن الحريات الحقيقيّة التي استطاع الأفراد قانونيّاً ممارستها في الحالة الطبيعيّة من أجل التزود با الأمان عبر الحكومة التي أنشئت بذاك العقد الاجتماعي. ثم أن كلا من “هوبس” و “لوك” وفي إدراك محدود جداً, ناقشا بأن المواطنين الحقيقيين اعتقدوا بضرورة الحفاظ على الحقوق الأساسيّة بمستوى يواجه عمل الحكومة.
إن المعرفة الأساس لنظريّة العقد الاجتماعي, هي أن الحكومة ربحت شرعيتها من خلال موافقة المحكوم (الشعب) الذي حاز على حق تشكيل الترابط السياسي بين الطرفين (الحاكم والمحكوم), هذا الترابط أو الدمج الذي هو نفسه أوجد الواجبات والقوة لكلا الطرفين, بينما نرى في الواقع أنه لاتوجد حكومة قامت من خلال عقد اجتماعي, وراحت تتطور عبر طريق ميثاق العقد الاجتماعي الذي فرض طاعة المواطنين للحكومة مقابل حمايتها لحقوقهم وتامين الاستقرار لهم, لذلك غالبا ما نجد تلك الاختراقات والتعديات على الحقوق غير المبررة إما من قبل المواطنين أنفسهم تجاه بعضهم بعضا, أو من قبل الحكومة نفسها التي تقوم بتجاوز سلطتها الشرعيّة باختراقها للحقوق الفرديّة.
من بين الفلاسفة الأكثر حداثة, يأتي الفيلسوف “جان رالوز” (John Rawls), الذي أعطى حياة جديدة لنظريّة العقد الاجتماعي, فبدلا من عرض الحقوق على أنها هدايا من الحكومة أو من (الله), ثم بدلا من كون أساسها المنفعة, أو العقل, وما يحققه هذا العقل من نتائج تتعلق بأسس هذه الحقوق, فهو يرى أن العقد الاجتماعي كأساس للحقوق, لم يكن عقدا اجتماعيّاً يوقعه الناس فيما بينهم, بقدر ما هو (اتفاق افتراضي) يريده الناس (العقلاء) الذين عرفوا بأنهم ذاهبين بالضرورة للعيش تحت ظل حكومة, غير أنهم لم يعرفوا إلى أين تقودهم مواقفهم الفرديّة, ففي هذه الحياة الحقيقيّة, كل واحد منا يعرف بأنه يحوز على ممتلكات, ومسؤوليات قانونيّة تتضمن في سياقها العام, الذكاء, القوة, الصحة, الدخل الوافر, وعلاقات أسرية .. الخ, وبهذه المعرفة كل واحد منا أيضاً, يفضل هنا الميل بالضرورة نحو المؤسسات التي تحقق له منافعه الخاصة حتى ولو كانت بعيدة عن الحكومة وسلطتها.
كاتب وباحث من سوريّة
التعليقات مغلقة.