الملك يشرب من القُلة : التاريخ التعيس للشعبوية في مصر

 

الإثنين 31/10/2016 م …

الأردن العربي – كتب عبد العظيم حماد

سامح الله الصحفي الكبير الأستاذ مصطفى أمين، فهو من جلب إلينا الأسلوب الأمريكي في الإعلام الشعبوي، وأقنع به القصر الملكي في النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي، ومنذ ذلك التاريخ افتتن كل من تولى السلطة في مصر بهذا الأسلوب، وتفننوا في تطبيقه، رغم أن هؤلاء هم أول من يعلم أن تلك الشعبوية الإعلامية لم تنفع الملك في نهاية المطاف، فالأولون منهم هم من أطاحوا بالملكية، والآخرون منهم كانوا هم الوارثين.

كان الملك فاروق، قد اعتلى العرش وسط أفراح شعبية صادقة وجارفة بشبابه الغض وبراءة ساحته من تجبر ورجعية والده الراحل فؤاد الأول، وبآمال كبيرة في زوال التناقض بين العرش والشعب، بما يحقق الحياة الدستورية الصحيحة، ويمكّن البلاد تحت حكم الأغلبية الوفدية من نيل أمانيها في الاستقلال والتقدم، سيما وأن العلاقة مع بريطانيا العظمى كانت قد استقرت ونُظمت بموجب معاهدة 1936، التي كفلت لمصر درجة متقدمة من الاستقلال.

لكن جلالة الملك “الشاب” سرعان ما استجاب لغرائزه الاستبدادية، فواصل استراتيجية القصر المعهودة في الرفض المطلق لمبدأ “الملك يملك ولا يحكم“، ولكن مع تعديل في التكتيك، فبدلًا من تعطيل الدستور، أو إلغائه، لجأ إلى تفريغه من مضمونه بالإطاحة المتكررة بحكومات الوفد، والإتيان بحكومات أقلية تعتمد عليه كمصدر للقوة السياسية، مقابل السماح لها بتزوير الانتخابات.

لهذا بدأت شعبية الملك في الانهيار، وجاء حادث 4 فبراير 1942، حين فرض البريطانيون عليه حكومة وفدية بالقوة المسلحة، ليرفع شعبيته من جديد. وهنا بدأ دور الإعلام الشعبوي الذي تعلمه الأستاذ مصطفى أمين، وعلّمه لأحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي في ترسيخ هذه الشعبية، وتوسيع نطاقها لتبتلع شعبية حزب الوفد وزعيمه مصطفى النحاس باشا، وكانت الاستراتيجية الإعلامية هذه تسير في اتجاهين متوازيين؛ الأول هو تصنيع أسطورة الملك الشعبي، والثاني هو تلطيخ الصورة الجماهيرية الإيجابية للنحاس باشا.

ما يهمنا في هذا المقال هو الجانب الأول، وقد بدأ التطبيق بصورة بعرض الصفحة الأولى لصحيفة أخبار اليوم لجلالة الملك، وهو يشرب الماء من قلة وسط حقل زراعي بالدلتا، وحوله الفلاح صاحب الحقل وأقاربه، ثم يأتي التقرير الذي يشرح الصورة، فيدعي أن صاحب الجلالة كان في طريقه من قصره العامر إلى أحد

استراحاته الملكية، وعندما رأى رعاياه الفلاحين – الذين يحبهم ويحبونه – يعملون في حقولهم التي يشقها الطريق، ارتأى أن واجبه الملكي يحتم عليه إيقاف موكبه، والنزول إليهم في حقولهم، ليعلن لهم محبته شخصيًا ومباشرة، وليبدي تقديره لجهودهم في بناء مجد الوطن واستقلاله. أليس الفلاح هو العمود الفقري لمصر دولة ومجتمعًا!؟

من يومها أصبح جلالة فاروق في رأى “أخبار اليوم” هو الفلاح الأول، ثم العامل الأول فالجندي الأول، وهكذا.

قبل مرور وقت طويل على صورة “الملك يشرب من القلة“، ظهرت صورة جديدة له، وهو يطلق لحيته تحت عنوان “الملك الصالح “، وبعدها استمر الملك الصالح يؤدي صلوات الجمعة بانتظام بالتناوب بين المساجد الكبرى بالقاهرة.

بعد فترة من الزمن ليست بالطويلة، عاد الملك حليق اللحية، ولكن جراب الحاوي لا ينضب، فإذا بصاحب الجلالة –الذي لم يكن من المغرمين بأم كلثوم وأغانيها الطويلة –يفاجئ الجمهور في حفل بالنادي الأهلي بمناسبة الفوز ببطولة كرة القدم، بحضور الحفل والاستماع “والاستمتاع” بشدو كوكب الشرق، ثم ينعم عليها بوسام الكمال، لتصبح صاحبة عصمة رسميًا، وكان المطلوب هو استقطاب جماهير الأهلي العريضة وجمهور أم كلثوم الكبير، في الصراع الدائم مع حزب الوفد.

و مع استمرار تردي شعبية الملك، وتخبط سياساته، واضطراب سلوك والدته، اخترعت آلة الشعبوية نسبًا نبويًا شريفًا لجلالته، عن طريق أمه حفيدة سليمان باشا الفرنساوي، وشريف باشا العثماني!

كان ذلك بعض ما فعلته الماشطة الإعلامية في وجه القصر الملكي، فكيف كانت الملامح الحقيقية لذلك الوجه؟

في تلك السنوات، كان الملك قد قابل في مصر كلًا من الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، وقد نصح كلاهما صاحب الجلالة المصرية بالعمل الجاد للإصلاح السياسي والاجتماعي في البلاد، وكان الإصلاح السياسي يعني وقف سياسة العداء الدائم للوفد، والاعتماد على حكومات أقلية بانتخابات مزورة. ومن جانبهم، لم يمانع الأمريكيون تحديدًا في انتظار نتائج الرهان على حزب السعديين (المنشق على الوفد) ليكوّن مع القصر قوة سياسية تحل محل الوفد أو توازنه، غير أن هذا الرهان سرعان ما سقط باغتيال زعيم السعديين ورئيس الوزراء أحمد ماهر باشا، وبرسوخ شعبية النحاس والوفد، وكذلك بعدم جدية الملك.

أما الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي الذي نصح به كل من روزفلت وتشرشل الملك فاروق، فكان يتمثل في تحديد الملكيات الزراعية، وفرض ضرائب تصاعدية، لتمويل برامج دعم التعليم والصحة وغيرها من الخدمات العامة. ويقول تشرشل في مذكراته إنه قال للملك بالحرف الواحد “إنه لم ير بلدًا مثل مصر فيه كل هذا القدر من الثراء في جانب، وكل هذا الفقر في الجانب الآخر“.

لم تكن نصيحة الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء البريطاني بالطبع جديدة في حينها، فقد كان هذه هي مطالب الحركة السياسية عمومًا في مصر، وطولب بها بالكتابة وبالتظاهر، وفي مؤتمرات وبرامج الأحزاب والحركات، لا سيما جماعة الطليعة الوفدية، وغيرها من الأحزاب والحركات المستجدة، كالاشتراكيين والشيوعيين والمهتمين بالعدالة الاجتماعية من جماعة الإخوان المسلمين، ولكننا استشهدنا بروزفلت وتشرشل (الرأسماليين) لإثبات أن الملك فاروق ووجه شخصيًا، ومن كبار الساسة العالميين، بالمطالب الحقيقية لتجاوز الأزمة المصرية الكبيرة والمعقدة، والتي كانت الاستجابة لها أنفع له ولمصر من ملايين الصور المصنعة بهدف تسول الشعبية.

بدلًا من تلك الاستجابة راح الملك يشكل الحرس الحديدي من ضباط الجيش لاغتيال خصومه السياسيين، وفي مقدمتهم زعماء الوفد، وأبطال حادث 4 فبراير، وقد اغتيل بالفعل أمين عثمان باشا (وزير مالية الوفد في حكومة 1942)، وفشلت عدة محاولات لاغتيال النحاس.

وبدلًا من ذلك جاء الملك بإسماعيل صدقي باشا رئيسًا للوزراء بأمل أن ينجح (أبو السباع) فيما لم ينجح فيه عام 1930، أي اجتثاث الحركة السياسية وفي مقدمتها حزب الوفد وعموم اليسار، ولم ينجح أبو السباع، كما لم ينجح من قبل، واستمر التخبط والاغتيالات، وصولا إلى حريق القاهرة للإطاحة بالوفد مرة أخرى من الحكم، ثم حركة الضباط الأحرار، وخلع الملك ونفيه، ثم إلغاء الملكية ذاتها بتأييد ساحق من الشعب، الذي كان قد نسي القُلة واللحية وحفل أم كلثوم والنسب النبوي الشريف. ودعك من عودة الحنين حاليًا للعصر الملكي، وعمليات تجميل تاريخ الملك فاروق، فهذا كله تعبير ضال عن غضب مستحق من حكم الضباط، ونكاية فيهم، وبعضه موجه وممول من أسر مالكة في المنطقة دفاعًا عن مبدأ الملكية ذاته.

المفارقة الناصرية:

لم يكن جمال عبد الناصر في الفترة السابقة على هزيمة 1967 في حاجة الى تسول الشعبية، لأن شعبيته كانت حقيقية وجارفة، لكنه كان في حاجة دائمة إلى إذكاء حالة الشعبوية التي برع في خلقها، وذلك لأسباب جوهرية في نظامه، فهذا النظام هو الذي بدأ تأميم الحياة السياسية حتى من قبل أن يبدأ تأميماته الاقتصادية، فلا أحزاب من الأصل، ولا نقابات أو حتى منتديات مستقلة، ولملئ هذا الفراغ كان لابد من الاحتفاظ بعلاقة مباشرة بين “القائد والجماهير” تتجاوز وتقطع الطريق على التنظيمات الوسيطة بين الطرفين، بما في ذلك التنظيمات التي أقامها عبد الناصر نفسه، رغم أنها كانت بلا منافس.

و من أسباب إذكاء ناصر للحالة الشعبوية توظيف هذه الحالة في تعزيز مكانته على رأس النظام في مواجهة المنافسين، من زملائه ومن غيرهم من داخل النظام. وقد تأسس التنظيم الطليعي السري ومنظمة الشباب لموازنة استقواء عبد الحكيم عامر ورجاله على الرئيس نفسه بالمؤسسة العسكرية، وربما لمواجهة هذه المؤسسة إذا لزم الأمر.

و كانت أدوات عبد الناصر في الاحتفاظ بالشعبوية مختلفة عن أدوات “جلالة الملك“، فقد كان عبد الناصر يتمتع بكاريزما خاصة، وكانت الكيمياء بينه وبين الجماهير في ذروة التفاعل، وكان يجيد “النكتة” و“القافية” اللتين تناسبان مزاج عامة المصريين، فضلًا عن توظيفه لعبقرية الأستاذ محمد حسنين هيكل في صك الشعارات الموجزة الأخاذة، مضافًا إليها موهبة الأستاذ أحمد سعيد الإذاعية وصوت العرب، وموهبة عبد الحليم حافظ الغنائية مقرونة بعبقرية صلاح جاهين الشعرية.

و لكن هزيمة 1967 المخزية أمام إسرائيل كانت نقطة فاصلة في مستوى شعبية جمال عبد الناصر، فالقول إن الخروج الجماهيري الحاشد لمطالبته بالعودة عن قرار التنحي كان تلقائيًا هو قول صحيح، ولكن الصحيح أيضًا أن هذا الخروج كان هو التعبير اللحظي عن رفض الاستسلام للهزيمة ونتائجها، ولكنه سرعان ما انفتح أمام التفكير العقلاني حول مسؤولية عبد الناصر ونظامه عن الأسباب التي أدت إلى الهزيمة، ما قاد إلى اكتشاف عيوب النظام، ثم الاحتجاج عليه بالمظاهرات بدءًا من مظاهرة رفض الأحكام على قادة الطيران في عام 1968، وما بعدها.

هذا الشعور بانخفاض الشعبية هو ما يفسر لنا لماذا دأب الأستاذ هيكل على أن يعيد مرارًا وتكرارًا، بمناسبة وبدون مناسبة، قصة انجراف عبد الناصر– رغمًا عنه وعن حراسته– وسط الجماهير المليونية التي خرجت لتشييع جنازة الفريق عبد المنعم رياض. ويذكر من عاش تلك الفترة أن الصفحة الأولى للأهرام تصدّرتها في اليوم التالي للجنازة صورة بعرض الصفحة لبحر من البشر. وتتوسط الصورة دائرة أضافها هيكل بيده تُظهر وجه جمال عبد الناصر وسط الحشود، وكان في التذكير الدائم بهذا المشهد شئ من الشعبوية، ولكن الأنيقة على طريقة الأستاذ هيكل، لأنه أغفل عمدًا أن لحظة خروج الملايين لتشييع عبد المنعم رياض تقديرًا لبطولته وإعلانًا لاستمرار الصمود والاستعداد لمزيد من التضحيات، لم تكن لتسمح بالتفكير في غير ذلك، خاصة وأن التقاليد المصرية الراسخة تفرض تناسى العداوات مؤقتًا أمام جلال الموت، فما بالنا والرجل الذي تشيع جنازته هو رئيس أركان حرب القوات المسلحة الذي استشهد على جبهة القتال؟

على أن الإنصاف يقتضي أيضًا الاعتراف بأن شعبية عبد الناصر لم تهبط إلى الحد الذي هبطت إليه شعبية خلفائه في السنوات الأخيرة من حكمهم، بدليل مشهد جنازته، وقد كان في جزء كبير منه تعبيرًا عن معنى الصمود والاستعداد للتضحية، فقد كنا في خضم المعركة ضد إسرائيل.

وهناك دليل حديث على استمرار احتفاظ عبد الناصر بقدر كبير من الشعبية، هو رفع صوره في ثورة 25 يناير، ومحاولة الرئيس عبد الفتاح السيسي بين الحين والآخر لربط نظامه أو تشبيهه بالفترة الناصرية، وهذا يؤكد مرة أخرى أن عبد الناصر لم يكن يحتاج الى تسول الشعبية على طريقة المرحوم الأستاذ مصطفى أمين، ولكنه ابتدع طريقته التي شرحناها. وفي كل الأحوال فهي في التحليل النهائي ظاهرة سلبية لأنها في نهاية المطاف تصادر العمل السياسي الحقيقي، ومنظماته وتفاعلاته، كذلك لم تجد شعبوية عبد الناصر شيئًا لمنع السادات من الانقلاب على كل سياسات عبد الناصر بعد وفاته.

الرئيس المؤمن:

أما الرئيس السادات فهو من أحيا منهج تسول الشعبية طوال فترة حكمه، باستثناء فترة حرب أكتوبر حتى مظاهرات الطعام في يناير 1977، فالرجل بدأ بمغازلة الغرائز الدينية (وليس الضمير الديني) للعامة، بإطلاق شعار “دولة العلم والإيمان“، وبإطلاق وصف “الرئيس المؤمن” على نفسه، وتعمد نشر صوره أثناء صلوات الجمعة، وهو في حالة تبتل، ثم الإعلان رسميًا عن اعتكافه في العشر الأواخر من رمضان، وإصدار قوانين تمنع “الملحدين” من تولي مناصب قيادية في الصحف والإعلام والثقافة!

و قد اغتيل السادات رحمه الله، وعلى جدول أعماله برلمانه مشروع قانون قدمه زوج أخت زوجته (المرحوم محمود أبو وافية) لإطلاق لقب سادس الخلفاء الراشدين عليه.

و في الوقت الذي كان السادات يتحدث فيه بتكرار ممل عن أخلاق القرية، و كبير العائلة المصرية، فإنه كان يغازل بقايا الأرستقراطية القديمة، والطامحين إلى تكوين أرستقراطية جديدة بارتداء أحدث الموضات، حتى اختير ضمن قائمة “أشيك عشرة رجال في العالم“، ويستضيف الفنانين الأجانب البارزين، فمرة يحضر بنفسه حفلًا للمغني خوليو جلاسياس، وأخرى يستقبل الممثلة إليزابيت تايلور، وثالثة يستضيف المخرج ديفيد نيفين، ثم هو يصادق كبار الشخصيات العامة الأمريكية من طراز ديفيد روكفلر وأمثاله.

الرئيس الثالث:

أما مبارك فلم يكن استعراضيًا بطبعه مثل السادات، ولم يكن شعبويًا وذا كاريزما كعبد الناصر، ولأنه كان –كذلك– عنيدًا وحسي الإدراك، فقد اعتقد أن احتفاظه بكل مصادر القوة في يديه يغنيه عن حكاية الشعبية والشعبوية، لأنه لا يحتاجهما. أما عندما بدأت مصادر القوة هذه تتسرب من يديه إلى ابنه وإلى زوجته، والى آخرين منهم مؤسسات الأمن ورجال الأعمال، وذلك بفعل تقدم العمر، وباندلاع الصراعات حول مشروع التوريث، فقد استجاب للضغوط من أجل تسول الشعبية، التي اكتشف أنها في الحضيض مع اقتراب موعد طلب التجديد له لفترة رئاسية خامسة، وذلك في عام 2005، فكانت زيارته الشهيرة المرتَّبة لأسرة “شعبية” في المنيا، وجلوسه بين أفرادها يحتسي كوبًا من الشاي في ظل تعريشة على شاطئ النيل، ليتضح – كما نذكر – أن رب هذه الأسرة ليس إلا صف ضابط في قوات الشرطة، ثم جولاته الانتخابية بدون “رابطة عنق” ليبدو شابًا، وليكون أقل رسمية.

و كما لم تفلح شعبوية الملك فاروق، ولا السادات، فلم تغن شعبوية مبارك المتأخرة عنه شيئًا. واندلعت ثورة يناير قبل أن يكمل المدة الرئاسية التي حاول من أجلها تسول الشعبية.

***

الموعظة والاعتبار من كل ما سبق أن القادة السياسيين المصريين لا يلجؤون إلى هذه الطريقة “البالية” في اكتساب الشعبية أو الحفاظ عليها أو زيادتها، إلا عندما يبدأ رصيدهم في النفاد، وهم يستخدمونها بديلًا عن الإنجازات والاستحقاقات الموضوعية المطلوبة منهم، والتي لا يريدون الإقدام عليها، أولا يقدرون على الإقدام عليها، مع استثناء لا يبطل القاعدة، وهو أن السادات تحديدًا بدأ شعبويته مبكرًا لأنه كان في حاجة إلى طمس شعبية عبد الناصر أو التقليل منها. ومع ذلك ففي أخريات حكمه اضطر لتكثيف الجرعة حتى أن الصحف كانت تنشر له طوال الأسبوع أحاديث وتصريحات وصورًا، وأحيانًا كان يظهر في الصحف في اليوم الواحد حديثان له، وحديث لزوجته.

إذا كانت تلك هي الموعظة، وذلك هو الاعتبار، فماذا عن الرئيس السيسي؟

الحق أن هذا الرجل حظي بخاصية من حيث الشعبية لم يحظ بها أحد من سابقيه في العصرين الملكي والجمهوري، وهي أن شعبيته كانت جارفة قبل أن ينتخب، بل إن الغالبية العظمى من المصريين كانت ترجوه الترشح، فيما كان يبدو ممانعًا في بعض الأحيان، وربما كان الملك فاروق هو من يتشابه مع السيسي في ضخامة الشعبية في لحظة تولي الحكم، أما الباقون من سعد زغلول ومصطفى النحاس وجمال عبد الناصر وأنور السادات حتى حسني مبارك، فلم يحصلوا على الشعبية إلا بعد تولي الموقع أو المنصب بفترة طويلة نسبيًا، فمثلًا لم تصبح شعبية سعد زغلول طاغية إلا بعد نفيه، والنحاس خلف سعد عام 1927، ولكن شعبيته بدأت تظهر بمقاومته للانقلاب الدستوري الأول في العام التالي، ثم اكتملت بمقاومته الأقوى للانقلاب الدستوري الثاني والشامل عام 1930، وذلك حين ألغت حكومة صدقي باشا دستور 1923 بالكامل، أما عبد الناصر فقد تحققت شعبيته على مراحل بدءًا من حادث المنشية عام 1954، فكسر احتكار السلاح عام 1955، ثم تأميم قناة السويس عام 1956، والسادات اكتسب شيئًا من الشعبية بعد إطاحته بـ“مراكز القوى” عام 1971، وحلّقت هذه الشعبية عاليًا بعد حرب 1973، أما مبارك فقد اكتسب نصيبه من الشعبية بعد المؤتمر الاقتصادي الأول والأخير الذي عقده في العام الثاني من حكمه.

وهكذا كان السيسي فريدًا في هذا الباب، فما معنى لجوئه إذن إلى ذلك المنهج الذي ثبت فشله؟ فتارة يدغدغ العواطف بشعارات مبسطة إلى درجة مخيفة، وتارة أخرى تظهر دموعه وهو يقبل رأس أم شهيد أو رأس مصاب، وثالثة يتناول الإفطار مع “أسرة بسيطة” في غيط العنب بالإسكندرية، ورابعة هو مستعد لبيع نفسه من أجل مصر لو كان هذا ممكنًا، وخامسة يركز على المرأة في خطاباته، وسادسة وسابعة، إلخ.

وفق أي مقياس سليم، لم يكن من المتصور بالنسبة للسيسي أن يستخدم هذا الأسلوب في هذه الفترة المبكرة من رئاسته، ولذا فإن التفسير الوحيد هو شعوره بالأزمة التي أوصل نظامه إليها، ولكنه في الوقت ذاته لا يتراجع عن إصراره على عدم وجود وسطاء، بينه وبين الشعب، ومعنى الوسطاء هنا إيجابي، لأن هؤلاء الوسطاء هم الأحزاب القوية والنقابات المستقلة، ومنظمات المجتمع المدني الفاعلة، والمنابر الإعلامية والصحفية المعبرة بأمانة عن كل هؤلاء وغيرهم، ثم إن هؤلاء “الوسطاء” هم من يتحولون بطبيعة الأمور إلى شركاء في صنع السياسات وتنفيذها، حتى من موقع الرقابة والمعارضة اللذين يؤديان إلى الرشادة والتصحيح.

لذا فهو في حاجة إلى شعبوية عبد الناصر لملئ هذا الفراغ، ولكن أسلوب عبد الناصر وإنجازاته غير متوافرة حاليًا، والمتوافر فقط هو منهج الأستاذ مصطفى أمين الذي لم ينفع لا الملك فاروق ولا الرئيس السادات ولا الرئيس مبارك.

_____________

*الفرق بين الشعبية والشعبوية، هو أن الشعبية تأييد تلقائي لأسباب عقلية أو عاطفية رشيدة، أما الشعبوية فهي حالة حشد مصنعة غير عقلانية في الغالب الأعم، حتى إذا كانت قادرة على الاستمرار طويلًا مثلما حدث في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية.

 

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.