في العاصمة الأردنية عمان … “خزانة الجاحظ” .. حكاية شغفٍ بالكتاب عابرة للأجيال / جعفر العقيلي




جعفر العقيلي ( الأردن ) –  الأحد 31/12/2023 م …

في وسط البلد بالعاصمة عمّان، وقريباً من المبنى العريق للبريد المركزي ومطعم هاشم الشعبي، تقف “خزانة الجاحظ” بلسانها الممتد على الرصيف لتروي حكاية المكان الذي شهد تحولاتٍ وخططَ توسُّعٍ غيّرت في وجهه كثيراً، وبدّلت ملامحه، بينما ظلت “الخزانة” الثابتَ الوحيد في الصورة.

وتعدّ المكتبة التي اتّخذت من كشكٍ كـ”الكرَفان” مقراً لها، من أقدم مشاريع المكتبات المتنقلة في الأردن، ويمتد تاريخها إلى نهايات زمن الدولة العثمانية وبدايات الانتدابَين الفرنسي والبريطاني على المنطقة، وها هي اليوم الوجهةُ المفضّلة للكتّاب والمثقفين والقرّاء من الشرائح كافة، الذين يبحثون عن ضالّتهم من المراجع والكتب ذائعة الصيت أو الأكثر مبيعاً أو النادرة، فيقدّمها لهم أبناء سادِنها “هشام المعايطة” الذي غيّبه الموت عام 2018، بأسعارٍ زهيدة.

هناك أكثر من رواية يتناقلها الأحفاد حول تأسيس المكتبة وتاريخها، منذ كانت خزانة حديدية مرتبطة بـ”صاع خليل الرحمن” زمنَ الخلافة العثمانية، وهو مشروع كان يقوم على استنساخ المخطوطات ونقلها للمشايخ لتعميم المعرفة وتعليم الناشئة القرآنَ الكريم ولغتهم العربية، وقد تولّاه الجدّ “محمد مطلق المعايطة”، وتالياً ابنه “سلمان”. ويُرجَّح أن البداية كانت سنة 1893، من بلدة الكرك جنوباً، ثم اتسع المشروع ليشمل القدسَ والخليل ومدناً أخرى على امتداد أرض فلسطين والأردن.

وعندما قامت الثورة العربية الكبرى مطلع القرن العشرين، غادر خليل -ابن سلمان المعايطة- الكركَ وتنقّل بين مدن العراق وسوريا، قبل أن يستقر به المقام في القدس سنة 1921 متّخذاً للخزانة الحديدية موقعاً قرب حائط البراق. ثم واصل عمله في الوِراقة إلى جانب طلب العلم، وجمعَ خلال ذلك الكثير من المخطوطات قبل أن يُستشهد عام 1947 في منطقة العيزرية، وفي تلك الأثناء تعرّضت مكتبته للحرق على يد الصهاينة ولم يتبقَّ منها إلّا كتبٌ ومخطوطات كان قد أودعها منزلَه بالقدس.

ويروى أن اسم “الجاحظ” أُطلق على خليل، نظراً إلى جحوظ عينيه، ولخصوصية علاقته بالكتب التي تذكّر بعلاقة الجاحظ بها، وبذلك أصبح اسم المكتبة منذ ذلك الحين: “خزانة الجاحظ”.

ولأن مهنة الوراقة تندرج ضمن المهن العائلية، فقد قُيِّض لهذا المشروع الاستمرار على يد ممدوح هشام المعايطة (1930-1993) الذي ورث المهنة عن أبيه وأجداده وعُرف عنه اقتناء المخطوطات النادرة وكتابة الشعر. وكان ممدوح قد التحق بالجيش العربي، وأصيب بانفجار لغمٍ أرضي في منطقة قلنديا أثناء الدفاع عن القدس عام 1948؛ ما تسبّب في قطع قدمه، فعاد إلى الأردن، ثم سافر إلى بيروت لتلقّي العلاج، وهناك تعرّف على تقنيات الوراقين وطبيعة عمل دُور النشر والمطابع، ففكّر باستئناف مشروع العائلة في عمّان، وكان له ذلك بدءاً من عام 1967.

مرت المكتبة بتحولات عدّة على وقع التطورات العمرانية في المنطقة المحيطة بها، وهو ما عرّضها لـ”التهجير القسري”، والتنقل من مكان لآخر، وفتْح فروع لها ثم إغلاقها، وعندما تعرضت لـ”الجرف” والإزالة بسب قرارٍ من السلطات البلدية أواسطَ السبعينات، التفّ ثلة من المسؤولين والمثقفين الذين واكبوا مسيرتها حولها، وهبّوا لنجدتها، فَمُنِحت حياةً جديدة.

عادت المكتبة إلى المشهد سنة 1982 بعد اختيار مقرّ لها قرب المدرج الروماني وبمحاذاة سبيل الحوريات، وهناك أصبح الكتّاب والمثقفون والقراء يلتقون في المساحة المجاورة لها ليقرأوا ما يختارونه من كتب بالمجان ثم يعيدونها إلى رفوفها.

وعلى غرار ما يحدث في المشاريع العائلية، يدير المكتبةَ اليومَ أبناءُ هشام المعايطة الذين يتناوبون العملَ بها، مقدّمين خدماتٍ فريدة؛ كإعارة الكتب مقابل مبلغ رمزي يجعل من الحصول على المعرفة أمراً ممكناً من دون إرهاق جيب القارئ والإخلال بميزانيته.

ومن مآثر هذه المكتبة التي نُقلت قبل حوالي 15 سنة إلى مقرها الجديد في وسط البلد (شارع الملك فيصل) معتمدةً على نظام “الخزانة الحائطية” و”البسطة” المجاورة، أنّ القائمين عليها زوّدوا عدداً من الجامعات بنوادر الكتب والمخطوطات القديمة، وأنها تتيح بيعَ الكتب وتداولها وتبادلها وحتى استعارتها، فضلاً عن شراء الكتب المستعملة.

وتشتمل المكتبة على مخطوطات يصل عمرها إلى ثلاثة قرون، وكتب نادرة يعود تاريخ طباعتها إلى العهد العثماني وأيام الانتدابَين البريطاني والفرنسي على المنطقة العربية، وكتب طُبعت في مطبعة “بولاق” الأميرية في عهد نابليون، وطبعات لكتبٍ مدرسية صدرت في فلسطين والأردن منذ ثلاثينات القرن العشرين.

وتضمّ المكتبة مصنفات نادرة مثل أطلس العالم الذي طُبع في لندن قبل عقود، وكتب إنجليزية قديمة ونادرة، ومجموعة معتبَرَة من الكتب والمخطوطات العثمانية من بينها معجم من أربعة مجلدات طُبع سنة 1888، وطبعة حجرية أهداها نابليون للمكتبة المصرية، ونسخة من الإنجيل مطبوعة في لندن سنة 1671، وطبعة قديمة من كتاب دياب الإتليدي “إعلام الناس بما حدث للبرامكة مع بني العباس”.

كما يشاهد الزائر على رفوف المكتبة، الأعداد الأولى لمجلات عربية شهيرة مثّلت منابر معرفية وثقافية في زمنها، على غرار “النفائس العصرية” المطبوعة بالقدس سنة 1910.
وإلى جانب عبارة “خير جليس” التي رفعها القائمون عليها شعاراً لها منذ تأسيسها، تتوزع على جدران المكتبة عبارات على غرار “الاستعارة للاستنارة”، و”اقرأ واستبدل ما قرأت”، و”استعر كتابك من عندي”، و”كتابي كتابك”. وهي تجسّد المبادرات التي تبنّتها المكتبة لتحفيز الجمهور على القراءة.

ومن الأحداث المؤلمة التي تعرضت لها المكتبة، اندلاع حريقٍ في مخزنها مطلعَ عام 2018 تسبّبت به قطة آواها القائمون على المكتبة من البرد والمطر، والتهم الحريقُ حوالي 10 آلاف من الكتب، وثلاثةَ آلاف نسخة من المصحف الشريف، بالإضافة إلى كتب طُبعت في “بولاق”، ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، والمطابع الكاثوليكية ببيروت، والمطبعة الحيدرية بباكستان، والمطابع الملَكية العراقية. وسرعان ما تلقّت المكتبة مساعدة مالية أمرَ بها الملك عبدالله الثاني لتتمكن من الوقوف مجدداً ومواصلة أداء رسالتها.

ومن بين من تولّوا إدارة المكتبة، يبرز اسم هشام المعايطة الذي توفّي بحادث سير بُعيد ذلك الحريق بشهر واحد تقريباً. وكان ذا “كاريزما”؛ يترك شَعره على سجيته، ويضع لفافة فوق رأسه كأنما هو قادم من العصور القديمة، منتمياً بذلك إلى شريحة الأبطال الشعبيين الذين نرسم لهم صوراً في المخيلة أثناء طفولتنا. ولم يكن يخفي سعادته بما حقّقه من رصيدٍ معنوي بعلاقاته مع الكتّاب والقراء على السواء، مستشهداً بالألقاب التي كثيراً ما نوديَ بها، بدءاً بـ”الجاحظ” الذي أُطلق على والده قبل أن ينتقل إليه، وليس انتهاءً بـ”حارس عمّان” الذي ناله بجدارة لأنّ المكتبة حرصت على استقبال القراء على مدار الساعة ولم تكن تغلق أبوابها إلّا نادراً.

وها هم أبناء هشام يحملون شعلة المكتبة التي شهدت إعادة تأهيل وتحديث بدعم من جامعة الزيتونة الأردنية عام 2021، ويواصلون توفير الكتب للباحثين وطلبة العلم بأسعار مناسبة أو بالاستبدال أو وفق نظام إعارة ميسَّر، تفهُّماً للأوضاع الاقتصادية التي قد يبدو اقتناء كتاب في ظلها رفاهيةً أو من الكماليات.

 

 

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.