حول تجديد الخطاب الديني / ممدوح حبشي
ممدوح حبشي ( مصر ) الخميس 3/11/2016 م …
منذ سقوط حكم الإخوان وظهور مدى خطر الإرهاب على مجمل الحياة السياسية في مصر.. والسلطة بكافة وسائل إعلامها- بما فيها المعارض منها- تطنطن وتطالب ليل نهار بتجديد الخطاب الديني كخطوة أولى للخروج من نفق الإرهاب المظلم الذي دخلته مصر ومازالت لا تعرف له مخرجاً. رئيس الجمهورية يطالب الأزهر بتجديد الخطاب الديني الذي أوصلنا إلى هذا الدرك المظلم. ثم نتابع معركة حامية الوطيس على وسائل الإعلام بين الأزهر ووزارة الأوقاف حول من الذي عليه الاضطلاع بهذه المهمة. ثم يقف الاثنان معاً صفاً واحداً للهجوم على بعض المثقفين من الذين يحاولون الإدلاء بدلوهم في هذا الشأن مثل إسلام البحيري بحجة أن هذه القضية لا يسمح لغير المؤسسات المعتمدة لدى الدولة بالتصدي لها.
يحدث كل هذا منذ أكثر من عام كامل ليزيد من حيرة رجل الشارع العادي حتى يكاد لا يرى الغابة من كثرة ما بها من أشجار. ومانزل عند نقطة الصفر لم نبرحها ولا خطوة واحدة للأمام نحو التحرر من ربقة الفكر الظلامي المسيطر- للأسف- على كافة مناحي حياتنا.
هل يمكن إصلاح الفكر؟
هذا سؤال مبدئي علينا طرحه وتناوله قبل أن نخوض في صلب القضية. إن من يحارب في صفوف داعش والقاعدة، من يفجر ويقتل ويذبح مقتنعًا تماماً بأنه سوف يموت شهيداً فيسكنه الله فسيح جناته.. هل يكن إقناع مثل هؤلاء بأنهم على خطأ مبين؟ أنا شخصياً أعتقد أن هذا شبه مستحيل لأن الواقع هو الذي يغير الوعي وتغيير الواقع الاجتماعي لمثل هؤلاء قد يحتاج إلى أجيال، أي أنها عملية طويلة الأمد… فما العمل؟!
ما الدين؟
كانت ولازالت الأديان عموماً- السماوية منها وغير السماوية- تمثل ثورات في تاريخ البشرية هدفها نقل مجتمعاتها من مرحلة إلى مرحلة أرقى في تطورها الإنساني. هل الإسلام دين العنف والإرهاب والتطرف؟ أم دين السلام والتسامح والوسطية؟ هل المسيحية دين عنف وإرهاب وتطرف؟ أم دين سلام ومحبة وما إلى ذلك؟ هذه الاسئلة نفسها يمكننا- بل علينا- طرحها عن بقية الاديان واسعة الانتشار مثل الهندوسية و البوذية. الإجابة الواقعية والأمينة على هذه الاسئلة ومن واقع التاريخ لابد أن توصلنا إلى حقيقه بسيطة هي أن كل الاديان تتشكل حسب الواقع الاجتماعي الذي انبثقت فيه، أي على عكس ما يدعي المتعصبون- من أي دين- أنها ثابتة لا تتغير ولا تتأثر بمتغيرات التاريخ والجغرافيا. الدراسة الموضوعية للتاريخ تثبت لنا هذه الحقيقة بلا عناد.
· أولاً: لأننا لابد أن نعترف بأن التاريخ لا يعرف شيئاً يسمى الاسلام (وفقط) أو المسيحية (وفقط) انما هو يعرف كيف فهم ومارس البشر هذه العقيدة أو تلك على مر الزمان والمكان. وقد كان هذا الفهم وتلك الممارسة أموراً شديدة التباين على مر التاريخ.
· ثم ثانياً: حتى إذا نظرنا حولنا اليوم إلى خرائط الجغرافيا فلابد لنا أيضاً أن نعترف بالتباين الشاسع بين أسلوب فهم وممارسة الاسلام- مثلاً- في كل من مصر والسعودية وإندونيسيا وإيران وأوروبا على، سبيل المثال لا الحصر، وكذلك المسيحية- مثلاً أيضاً- في كل من مصر وأوروبا وأمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية والفلبين، أيضاً على سبيل المثال لا الحصر.
إن تاريخ العصور الوسطى يعلمنا أن الغالبية العظمى من حروب أوروبا الداخلية كانت باسم الصليب ودفاعاً عن العقيدة بالرغم من أنها كانت بين فرقاء نفس العقيدة، ناهيك عن الحروب الصليبية التي شنتها دول أوروبا ضد البلدان العربية.
كذلك التاريخ الاسلامي فهو أيضاً مليء بالحروب والاغتيالات باسم الدين والدفاع عن العقيدة وبين المسلمين وبعضهم. ونحن في غنى عن السرد هنا فالتاريخ معروف.
إننا ندفن رؤوسنا في الرمال كي لا نرى تلك الحقيقة الساطعة ألا وهي أن الدين- كل دين- ومنذ أن تمت مأسسته على يد قدماء المصريين وقدماء الصينيين قد أضحى وسيلة في يد السياسة، تستغل إيجابياً حيناً وسلبياً أحياناً. هذا هو الدرس الأساسي من تاريخ حضارة البشرية في عصورها القديمة والوسطى.
الحداثة
قسَّم علماء التاريخ مسيرة الحضارة الإنسانية إلى ثلاثة أقسام رئيسية هي العصور القديمة (الأنتيكة) فالعصور الوسطى ثم العصر الحديث. أما العصور القديمة فقد بدأت منذ بزوغ فجر الضمير الانساني وبداية عصر الأسرات في مصر القديمة- أي أن لمصر الصدارة في تلك المرحلة من تاريخ البشرية- وانتهت بنهاية الدولة الرومانية الشرقية أواخر القرن السادس الميلادي. اصطلح كثير من علماء التاريخ على أن يكون هذا التاريخ هو بداية العصور الوسطى، أما نهايتها فقد اتفق جميعهم تقريباً على أن يكون عام ١٤٩٢، عام سقوط غرناطة، عاصمة الخلافة الاسلامية في الأندلس، في يد القشتاليين الكاثوليك. وهو العام نفسه الذي اكتشف فيه كريستوفر كولومبس أمريكا. منذ هذا التاريخ والبشرية تدخل تباعاً إلى العصر الحديث. أي اننا جميعاً شركاء البشرية نعيش منذ ذلك التاريخ في العصر الحديث ولكننا لم ننتقل جميعاً إلى الحداثة بعد.
الحداثة هي ببساطة الانتقال من هياكل العصور الوسطى إلى هياكل العصر الحديث. الانتقال من هياكل المجتمع الاستاتيكية (الثابتة) إلى هياكل المجتمع الديناميكية المتحركة دائمة التغير. الانتقال من سلطة الأرستقراطية إلى سلطة البرجوازية. الانتقال من نمط الإنتاج السائد الإقطاعي إلى نمط الإنتاج السائد الرأسمالي.
إن أهم ما ميز العصور الوسطى عن العصر الحديث هو الفرق في مرجعية السلطة السياسية في كافة المجتمعات. وهذا على مستوى العالم كله، أي لم يكن لهذا الفرق استثناء واحد. كانت السلطة السياسية في العصور الوسطى دائماً منحة من الله، سواءً كان ذلك في أقصى الشرق كالصين واليابان أو في أوروبا أو في الخلافة الاسلامية. في أوروبا كان البابا (رأس الكنيسة وظل الله على الأرض) هو من يضع التاج على رأس الملوك رمزاً لمنح السلطة له من الله. أما في الإمبراطورية العربية فقد كان الخليفة هو أمير المؤمنين وخليفة رسول الله، هذا هو مصدر سلطته السياسية. في كل الحالات كان الحاكم هو من يفرض إرادة الله على الأرض وسلطته السياسية هي توكيل له بذلك.
ثم جاء عصر التنوير الذي توج بالثورة الفرنسية العظمى التي حررت البشرية جمعاء من هياكل العصور الوسطى. الثورة الفرنسية هي التي قلبت القاعدة المعمول بها من “الله مصدر كل السلطات” إلى “الشعب مصدر كل السلطات”، الأمر الذي زاد المسألة تعقيداً. فبعد أن كان الحاكم يأمر في كل القضايا بسلطة مطلقة لا راد لها لأنها كانت تمثل إرادة الله، أضحت عملية ممارسة السلطة بالشعب وللشعب عملية صعبة ومعقدة للغاية مقارنة بالماضي.
من هنا تشكلت هياكل الدولة الحديثة الأساسية لتمكن الشعب من ممارسة سلطته، أي مبدأ الجميع سواسية أمام القانون ومبدأ السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية ومبدأ فصل السلطات عن بعضها ورقابة التشريعية على التنفيذية ومبدأ انتخاب ممثلي الشعب في انتخابات حرة نزيهة لتشكل السلطة التشريعية أعلى السلطات. كذلك ظهرت أيضاً مجموعة من المبادئ الخاصة بالمواطنة وحقوق المواطن وحقوق الإنسان والحريات الشخصية وما إلى ذلك. كلها مسائل لم يكن لها أي وجود ولم تكن أصلاً مطروحة في العصور الوسطى. كل هذه المبادئ والأعراف التي شكلت أسس الدولة المدنية الحديثة وجدت فقط لتترجم النموذج Paradigm الحديث للمجتمع “الشعب هو المصدر الوحيد للسلطات” وبناءً عليه فلا مرجعية للسلطة سوى العقل. من هنا ُتعرَّف الحداثة بأنها الانتقال من عصر يكون فيه رجل الدين هو مصدر السلطة والتشريع الوحيد إلى عصر يكون فيه الشعب عن طريق ممثليه هو المصدر الوحيد للسلطة والتشريع.
منذ بدايتها لم تكن- ولن تكون- هذه المعركة سهلة، فقد استغرقت مئات السنين وكانت مليئة بالانكسارات والهزائم تماماً مثل الانتصارات، و اختلفت اشكالها عن بعضها باختلاف التاريخ والجغرافيا، ولازالت حامية الوطيس حتى يومنا هذا. الانتصار في تلك المعارك لا يعني بالمرة هزيمة للدين- أي دين- وإنما يعني فقط هزيمة لوظيفة رجل الدين كصانع للسياسة أو كممثل لإرادة الله على الأرض.
الحوار والجدل الديني أو الفقهي داخل أية جماعة دينية أو بينها وبين مجتمعها مستمر منذ بدأ وسوف يستمر إلى ما شاء الله، لن يسكته عزل رجال الدين عن ممارسة العمل السياسي باسم الدين. الأمثلة على ذلك لا حصر لها. ففي مجتمعات ذات درجة تطور عالية مثل الولايات المتحدة أو بلدان أوروبا الغربية نجد أنهم بعد أن حسموا قضية فصل السياسة عن رجل الدين بصفته رجل دين مازالت مختلف الأديان موجودة في المجتمع تمارس جميع شعائرها بحرية تامة. بل إن الجدل الفقهي داخلها مازال محتدماً وبها أيضاً مجموعات متطرفة لها تفسيرات للدين شديدة الغرابة.
بالمثل نجد مجتمعات متخلفة من العالم الجنوبي- أو الأطراف كما يسميها سمير أمين- مثل الهند بها نفس الصورة؛ الدولة و السياسة في جانب ورجال الدين بتنويعاتهم يمارسون طقوسهم وشعائرهم في جانب آخر. بل انني أزعم أن بلداناً كالهند إن لم تنجح في الوصول إلى هذه الصيغة الصريحة بعيد استقلالها عن بريطانيا مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية لكانت قد انتهت وفشلت تماماً كدولة متماسكة قوية نظراً لتعدد الأديان فيها وتدني مستوى التعليم وارتفاع معدل الفقر للغالبية العظمى من سكانها. انتصرت الهند في عزل جميع أنواع رجال الدين عن السياسة فنجحت الدولة.
ماذا يعني في مصر اليوم “تجديد الخطاب الديني”؟
المقصود طبعاً من هذا التعبير البريء هو إيصال الناس- الشباب خصوصاً- إلى الفهم “الصحيح” للدين، أي الفهم الذي ينأى بهم عن الفكر التكفيري الداعشي الطالباني… إلخ. أي أن المطلوب في نهاية المطاف هو “تنوير” هؤلاء الشباب لكن ليس بالمعنى الأصلي والحقيقي لفكرة التنوير (تحويل مرجعية السياسة والتشريع من رجال الدين إلى العقل وحده) بل بمعنى مزيف يزعم أن رجال الدين في الأزهر أو الأوقاف هم أصحاب “صحيح الإسلام” وما عداهم ضلال. ما هذا إلا تجديد الخطاب الديني بنفس منطق التكفيريين، هو مجرد تحويل المرجعية من رجال دين إلى رجال دين أخر.
رحم الله النواسي عندما قال: (دع عنك لومي فإن اللوم إغراء… وداوني بالتي كانت هي الداء)
إذا لم يهدف التنوير إلى الخروج من منطق وهياكل وفكر العصور الوسطى فهو ليس تنويراً، ولسوف نستمر في الاستعانة على الرمضاء بالنار إلى ما شاء الله.
أما لماذا نجح التنوير في أوروبا وفشل في بلادنا فهو موضوع مقال مستقل أو حتى أكثر من مقال… أي أنه بالضرورة للحديث بقية.
التعليقات مغلقة.