الدوغمائية السياسية والنزق / د. فايز رشيد

 

د. فايز رشيد ( الأردن ) الخميس 3/11/2016 م …

”السياسة: هي فن إدارة شؤون الدولة الداخلية والخارجية, وتُعرّف إجرائيا حسب هارولد لاسويل, بأنها دراسة السلطة التي تحدد من يحصل على المصادر المحدودة متى وكيف, أي دراسة تقسيم الموارد في المجتمع, وتتم عن طريق السلطة (ديفيد إتسون). وعرّفها الشيوعيون بأنها دراسة العلاقات بين الطبقات, وعرّف الواقعيون السياسة بأنها فن الممكن (جورباتشوف), أي دراسة وتغيير الواقع السياسي موضوعيا!”

لا توجد فكرة غير قابلة للنقد, ولا يوجد على ظهر البسيطة كلها من يمتلك الحقيقة المطلقة. كذلك, لا يوجد إنسان, عاملا كان أم رئيسا حاكما من لا يخطئ. لذلك, فإن الدوغمائية هي التعصب لفكرة معينة أو لرأي سياسي ممن يحملها طارحها/طارحوها, إنهم يعتقدون أنها تمثل الحقيقة المطلقة, وهي غير قابلة للنقاش فيها, أو أنها لا تخضع حتى للإتيان بأي دليل ينقضها, إن هذه هي الدوغمائية بعينها! الدوغمائية المنغلقة البصر والبصيرة, أي أنها ليست أكثر من جمود فكري أو عقائدي أو سياسي, ومراوحة في مكان الذات المنغلقة على نفسها ضمن مجال بصري لا يرى إلا في خط مستقيم (وللعلم هذا مرض عضوي, يصاب به البعض في عيونهم.. شافى الله كل المبتلين به). نعم, إنه التشدد سواء في الاعتقاد الديني أو المبدأ الأيديولوجي, أو الموقف السياسي أو أي موضوع غير مفتوح للنقاش أو للشك. للأسف نحن مبتلون في عالمنا العربي, بوفرة من هؤلاء, يظهر ذلك في الكتابات الصحفية, في الكتب الفكرية والسياسية, وفي نقاشات البرامج المختلفة على شاشات الفضائيات العربية, وفي مظاهر وأشكال اجتماعية أخرى. هؤلاء هم المتعصبون, “الملكيون أكثر من الملك ذاته”, في تعصبهم للنظام الذي يؤمنون به, بالرغم من أن ذات النظام يكون قد اعترف بأخطائه علنا وأمام الناس, وسنّ ما هو مفترض من قوانين في بلده لإصلاح تلك الأخطاء. الأهم إن امتلك أحد هؤلاء وسيلة إعلامية, فهو يفصل مقالات الكتاب كلها على مقاسات رأيه, لذلك إن جاءت مقالة تحيد ميليمترا واحدا عما يؤمن به شخصيا, تراه يرى المقالة وكأنها شيطان رجيم هَجَم خصيصا عليه, لا بل يحسبها كابوسا أطلق عليه, وحتما (في عُرفه) من الدوائر الإمبريالية والصهيونية.

يذكِّرني هؤلاء بفترة ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي ودول المنظومة الاشتراكية (هذا الانهيار المؤسف, الذي بكيتُ كثيرا عندما حصل!), والتي تميّزت بالجمود والتراجع في كل المجالات. ولأنني عشتُ لأكثر من اثنتي عشرة سنة من حياتي في ذلك البلد العظيم, كنتُ أتأسف من كل قلبي على ما يجري, واضعا يدي على قلبي من التداعيات المحتملة القادمة, كنتيجة منطقية لما ساد من واقع مجبول بالأخطاء. للأسف كان الشيوعيون في مختلف أنحاء العالم (باستثناء بلدان قليلة) يرفعون كل مظاهر التأييد للبلد والحزب الأم, ومثلما قيل (كانوا يرفعون المظلات في بلدانهم إن أمطرت في موسكو!) بالرغم من فصل الصيف فيها! ماذا كانت النتيجة؟ تعرفونها بالطبع! هذا رغم أن مختلف الشرائع الإنسانية, بدءا من شريعة أورنوما وشريعة حمورابي, وصولا إلى البوذية حضّت على أهمية حسن المعاملة ونصح الآخر. كما الأديان كلها دعت إلى ذلك. في ديننا الإسلامي الحنيف: “الدين النصيحة”. و”انصر أخاك ظالما أو مظلوما, فقال: رجل يا رسول الله, أنصره إذا كان مظلوما, ولكن, إذا كان ظالما كيف أنصره؟ قال الرسول الكريم, بأن تردّه عن ظلمه”. قال الفاروق رضي الله عنه في رسالته إلى عمرو بن العاص (حول قصة ضرب ابن الأخير لابن القبطي, الذي فاز عليه في سباق للخيل), “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟”. الدوغمائيون الأشاوس لا يعرفون, لا يريدون أن يعرفوا! وإن عرفوا لا يفهمون ذلك!

السياسة: هي فن إدارة شؤون الدولة الداخلية والخارجية, وتُعرّف إجرائيا حسب هارولد لاسويل, بأنها دراسة السلطة التي تحدد من يحصل على المصادر المحدودة متى وكيف, أي دراسة تقسيم الموارد في المجتمع, وتتم عن طريق السلطة (ديفيد إتسون). وعرّفها الشيوعيون بأنها دراسة العلاقات بين الطبقات, وعرّف الواقعيون السياسة بأنها فن الممكن (جورباتشوف), أي دراسة وتغيير الواقع السياسي موضوعيا! لكن التعريف الأخير هو خضوع للواقع السياسي وعدم العمل لتغييره, بناء على حسابات القوة والمصلحة. من وجهة نظر كارل ماركس فإن السياسة هي اقتصاد مكثف, لذلك فإن السياسة تفرض ذاتها على مناحي الحياة المختلفة بالمفهوم الواقعي المعاش, وتعني: ضبط التوازنات في مطلق حزب, وفن إدارة الصراعات الأيديولوجية, وفهم تحليل العلاقات الاقتصادية والاجتماعية, والقدرة على ضبط ومعالجة الأزمات السياسية. بالتالي, فهي تحتاج إلى إخضاعها للعلمية بشقيها البحثي والاستنتاجي, كما الجانب المعرفي (الابستمولوجي), ومدى انسجامها مع المعتنق الأيديولوجي, في إطار من الحركة المتواصلة, كل ذلك من أجل خدمة الأهداف التي تسعي إليها مطلق حركة/ حزب /جماعة سياسية. من دون التعامل مع السياسة كعلم متحرك ليس إلى الأمام فقط (لكن يمكنه التراجع أحيانا للحفاظ على الذات) يبقى فهم السياسة ضبابيا. ذلك, نتيجة للهجمات الحتمية المتتالية, التي ستتعرض لها من الوسط المحيط. السياسة هي تمحيص وسبر فكري, تتداخل فيها مفاهيم فلسفية متعددة, كالثابت والمتحرك, الاستراتيجيا والتكتيك, كما الإدراك الجماهيري لها من حيث مدى اقترابها أو ابتعادها عن الهدف/ الحلم الجماهيري المطروح. للأسف دوغمائيو السياسة لم يقرأوا مهارات وإنجازات السياسة, كما إخفاقاتها وفلسفتها بالتأكيد.

انطلاقا مما سبق, فإننا في الساحة العربية نعاني من السياسيين النزقين, وبعضهم يحتل أعلى المراتب في هيئاتهم/أحزابهم/ جماعاتهم, ولأنهم غير مؤمنين بالديمقراطية, ولأنهم غير قادرين على ملء الكراسي التي يحتلونها (والفرق كبير بين أن تكون الكرسي أكبر ممن يجلس عليها, أو أن تكون أصغر من حجمه ـ ليس بالمعنى القياسي المجرّد بالطبع), ترى الواحد من هؤلاء, وإذا سمعَ ما يخالف رأيا له في مجال النقاش الجمعي المطروح, تراه يقفز (يفعط) وكأنه كان تحت زمبرك مضغوط! فهم هؤلاء للسياسة هو تماما كفهم جدتي في اللغة اليابانية, هؤلاء يلحقون أشد الأضرار بجماعاتهم. هؤلاء أيضا, هم التعبير الأبرز للدوغمائية السياسية والنزق. حمانا الله وحماكم من هؤلاء وأمثالهم.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.