في خضم مئوية وعد بلفور.. ما المطلوب؟ / د. فايز رشيد
د. فايز رشيد ( الأردن ) الخميس 3/11/2016 م …
بالأمس، مرّت الذكرى الـ 99 لوعد بلفور الكارثي. وفي اليوم ذاته من العام المقبل 2017، سنكون أمام ذكراه المئوية.
وبعيدا عن الشجب والندب، وبعيدا عن إيراد الأسباب التي حدت بالدولة، التي لم تكن تغيب الشمس عن ممتلكاتها آنذاك، وهي كثيرة، وبعيدا عن كل أحداث الماضي إلا للإثبات وباختصار عمق الإطار الأوروبي العريض للوعد البريطاني، فإننا اليوم أمام حقيقة زرع الكيان الصهيوني في أرضنا العربية، ليكون رأس الحربة لالتقاء المصالح والاهداف الامبريالية والصهيونية في فلسطين وفي المنطقة العربية برمتها.
هذه الالتقاء المصلحي، بدّل من أشكال استهدافاته في فلسطين والمنطقة، وفقا لمتغيرات خريطة السياسات الدولية، اعتمادا على عوامل الصراع في المراحل المختلفة. اكتفى الكيان في بداية إنشائه بالجزء الاكبر من فلسطين، وفي عام 1967 احتل الجزء الآخر منها، إضافة إلى أراض عربية، ضمّها إلى دولته، وبدأ استيطان الضفة الغربية، ولم يزل، ولن يتوقف، كما في هضبة الجولان أيضا، التي يعتبرها إسرائيلية. ومع الاستعداد التدريجي الرسمي الفلسطيني والعربي للقبول بفكرة وجود الدولة الإسرائيلية، كمكون من مكونات المنطقة، تفتقت ذهنية المشترك في المصالح الصهيونية مع الشكل الإمبريالي الأمريكي الجديد، في أشكال الهيمنة الاقتصادية الإسرائيلية على المنطقة، وفقا لتصورات مشروع «الشرق الأوسط الكبير/ الجديد»، في ظل بقاء شعار «أرض «إسرائيل الكبرى» شعارا حيّا وقائما في أوساط اليمين الصهيوني- الإسرائيلي الأكثر تطرفا، كشعار قابل للتحقيق. لعل من المفيد التذكير بكتاب «اعترافات قاتل اقتصادي» لجون بيركنز، الذي يبين فيه عمليات تحويل الأموال من البنك الدولي، ومن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، (USAID) ومن منظمات (مساعداتٍ) أجنبية أخرى، لتصبَّ أخيراً في خزائن الشركات الضخمة وجيوب قلةٍ من الأسر الغنية، التي تتحكم بموارد الأرض الطبيعية. وسبيلهم إلى ذلك تقاريرُ مالية محتالة، وانتخاباتٌ مُزوَّرة، وابتزاز، وغواية جنس، وجرائم قتل. إنهم يمارسون لعبةً قديمةً قِدَمَ الإمبراطوريات، ولكنها لعبةٌ اتخذت في هذا الزمن العولمي أبعاداً جديدة رهيبة، هذا أولا.
ثانيا، أيضا، كان ذلك، في ظل وبدء تحقيق الشعار الأمريكي الجديد «الفوضى الخلاقة»، إثر انتهاء الحرب الباردة، وما جرى من تغييرات في استراتيجية السياسة الامريكية، اعتمادا على ما اتاحه الوضع الدولي من ظروف جديدة، اعتبرها الساسة والاستراتيجيون الامريكيون بمثابة الفرصة العالمية لصياغة نظام عالمي، يتمثل في ضمان التفوق والانفراد الامريكي باحتكار القوة والهيمنة السياسية العالمية، كما الحروب الاستباقية، الأمر، الذي حدا بالولايات المتحدة إلى اعتماد هذا الشعار السياسي دوليا، وعلى الأخص في المنطقة العربية. من جهة ثالثة، زادت وتائر تنسيق وتنفيذ خطط المصالح المشتركة بين إسرائيل وحليفتها الاستراتيجية، إن في تفتيت دول الوطن العربي، أو إغراقها بالصراعات المذهبية والطائفية والإثتية المسلحة، على طريق إزالة كامل العقبات الاستراتيجية عسكريا وسياسيا واقتصاديا أمام وجود واستقرار الوضع الإسرائيلي، الذي أصبح قادرا على المضي بمخططاته، بدون وجود أدنى العراقيل. المتغير الأخير في الخريطة الدولية، بدء البروز التدريجي لروسيا كقوة عالمية نامية، ومؤثرة في الساحة الدولية، ودخولها المباشر إلى المنطقة عسكريا وسياسيا. يوازي ذلك حرص صهيو – إسرائيلي على امتلاك أفضل العلاقات مع القوة العالمية النامية، أو على الأقل تحييدها فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني العربي – الصهيوني، وبالشكل الذي يستمر وتُحفظ فيه مصالح إسرائيل في المنطقة.
وبالنسبة لمئوية الوعد والنشاطات المطلوبة، والخطط الفلسطينية والجماهيرية العربية لإحياء الذكرى، فهي نشاطات جد مطلوبة، ويتوجب ألا ينصّب النشاط نحو كشف التآمر البريطاني مع الحركة الصهيونية وإصدارها الوعد فقط، بل يتوجب أخذ الصورة بكاملها، مع التأكيد على الاستمرار في عملية كشف تضليل الأساطير النظرية (المسوغّات) الصهيونية لغزو فلسطين، والمحاولات التي كانت/وما تزال لتصوير الشعب الفلسطيني، قبل موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين، كجماعات متفرقة من البدو الرّحل، إضافة إلى كشف حقيقة المنطلقات الأيديولوجية للسياسات الإسرائيلية سابقا والآن ولاحقا، وتداعياتها على تصورات البعض الوهمية بإمكانية جنوح الكيان لـ»السلام» مع الشعب الفلسطيني، سواء فيما بُدعى بحل الدولتين، أو الدولة ثنائية «القومية»، أو الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة باختصار، الوجود الإسرائيلي قائم على نفي وجود الشعب الفلسطيني من الأساس، كما نفي حقوقه الوطنية، ضمن اختزال الحقوق في حكم ذاتي مجرّد تماما من أي شكل من أشكال السيادة. أيضا، التأكيد على المنطلقات العقائدية للفكر الصهيوني في العنف والقتل وارتكاب المذابح. بالضرورة ايضا، لا يمكن لمطلق دولة عربية التصور، بأنها أصبحت بمنأى استراتيجي عن الخطر الصهيو – إسرائيلي عليها، حتي لو وقعّت اتفاقيات «سلام» مع إسرائيل. من هذه النقطة بالذات تنبع أهمية وحدة العامليْن الوطني والقومي في كل قضايا المنطقة، خاصة فيما يتعلق بالصراع مع هذا العدو. أيضا، لا يمكن التطرق لمئوية وعد بلفور، بدون إلقاء الضوء على السياقات التي كانت قبل صدور الوعد، ذلك للرد على التفسيرات الخاطئة لبعض الباحثين والمؤرخين وطروحاتهم حول حقيقة إصدار الوعد. لا ننكر أن بلفور انتمى للتيار الصهيو ـ مسيحي في المسيحية (وهناك كتب كثيرة تبحث في هذا التيار وتفاصيله، خاصة في أمريكا وكندا)، لكن منطلقاته استندت إلى الالتقاء المصلحي لبلده مع الأهداف الصهيونية لعموم المنطقة العربية.
قبل بلفور، كان نابليون بونابارت أول من اقترح إقامة دولة (حكم ذاتي) لليهود في فلسطين تحت الولاية الفرنسية. كان يريد استخدام اليهود لخدمة المصالح الفرنسية في المنطقة. في عام 1862 نشر الزعيم الصهيوني موشيه هيس كتابه «روما والقدس» وفيه تحدث عن رعاية فرنسية لدولة اليهود في فلسطين. في عام 1830 اتفق اللورد بالمرستون وزير الخارجية البريطاني مع اللورد شافستري على تكثيف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، لخدمة المصالح البريطانية والأوروبية الاستعمارية في المنطقة. في عام 1838 تم افتتاح أول قنصلية بريطانية في القدس. ساعد القنصل ديكسون منذ بداية عام 1839 اليهود على شراء الأراضي في فلسطين وإقامة المستعمرات. بريطانيا كما كل الدول الاستعمارية هدفت إلى استعمال اليهود ودولتهم الموعودة لخدمة مصالحها ومصالح حليفاتها في المنطقة العربية، والتخلص من موجات الهجرة اليهودية إليها من دول أوروبا الشرقية، (في بريطانيا تشكلت اللجنة الملكية للحد من هجرة الغرباء ـ يقصدون: هجرة اليهود، واستُدعيَ هرتزل للإدلاء بشهادته أمام اللجنة. قدمت الحكومة مشروع قرار لمجلس العموم في عام 1904 لوقف الهجرة، واضطرت إلى سحبه تحت ضغوط المعارضة، ثم عادت وقدمته مرة أخرى عام 1905 ونجح. كما هدفت بريطانيا إلى تأمين خطوط مواصلاتها إلى الهند. كان قرار الحركة الصهيونية في مؤتمر بازل عام 1897. شكّلَ قرار وزير الخارجية البريطاني بلفور استكمالا للتآمر في تنفيذ المخطط الصهيوني من خلال مؤتمر كامبل – بنرمان الذي امتدت جلساته المتباعدة من عام 1905 ـ عام 1907، بين الدول الاستعمارية، بريطانيا، فرنسا، بلجيكا، هولندا، إسبانيا وإيطاليا.
الصهيونية كمفهوم ديني، جرت مزاولتها من قبل المتصوفين اليهود على مر الأجيال، نتيجة لارتباطها بالأمل الكبير في اليهودية، القائم على عودة المسيح في نهاية الزمان، وكانت هذه تعرف بـ»الصهيونية الدينية». عملت الحركة الصهيونية منذ إنشائها كـ»صهيونية سياسية» مع وجود هرتزل، الذي بالمعنى العملي هو من أوجد النظرية ومنهجها في كتابه «الدولة اليهودية» الصادر عام 1896، وشرع في تطبيقها. وقد بدأت في تعريف نفسها كـ»عقيدة سياسية» و»عقيدة قومية»، ثم بدأ ظهور مصطلحات جديدة مثل «الشعب اليهودي»، و»الأمة اليهودية». إن إضفاء الطابع السياسي والقومي على الصهيونية، لم يكن بمعزل عن تطورات أوروبا آنذاك، وانتقالها من مرحلة الإقطاع إلى الرأسمالية، وبدء ظهور مرحلة القوميات، لذا فما دام قد جرى طرح اليهودية كـ»قومية»، كان لا بد من وطن قومي لها، وما دامت لم تمتلك وطنا عبر التاريخ، كما لم يكن لها وطن آنذاك، فبالضرورة من أجل ذلك لا بد أن تحتل وطنا وتقتلع شعبه من أرضه، وبذلك تحولت فعليا إلى «عقيدة استعماري.»
للعلم، بعد عِلم الكيان بنيّة السلطة الفلسطينية مقاضاة بريطانيا في عام 2017 على إصدارها وعد بلفور، خرج علينا عوفير غندلمان، المتحدث باسم نتنياهو بتصريح نقله عن رئيسه، قال فيه: «بعد نحو 4000 عام من التاريخ اليهودي على هذه الأرض، وقرابة مئة عام على إعلان بلفور، و68 عاما على إقامة دولة إسرائيل، هنالك من لا يزال ينكر صلتنا الوطيدة بأرضنا». المقصود القول، علينا أيضا، مجابهة خطة الكيان الهادفة إلى إفشال النشاطات الفلسطينية والعربية في مئوية الوعد.
التعليقات مغلقة.