الولايات المتحدة والصّين: منافسة في كافة القطاعات / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الإثنين 8/1/2024 م …
تعدّدت الأطراف والهدف واحد
ما انْفَكّت الولايات المتحدة تحاول خنق الصناعات التكنولوجية الصّينية، ومن بينها صناعة الرقائق، غير إن شركات صينية عديدة تمكّنت من الإلتفاف على العقوبات والحَظْر الأمريكِيّيْن وطَوّرَت برامج تصميم الرقائق الدقيقة التي لا تتوفر سوى لدى عدد قليل من الشركات “الغربية” الكبيرة العابرة للقارات، ما زاد من حِدّة الصراع التكنولوجي ( الذي ترمز له صناعة الرقائق المتطورة) بين الولايات المتحدة والصّين، إلى جانب التنافس على التفوق الاقتصادي والعسكري، وركّزت الإستراتيجية الصّينيّة على الإعتماد على الذّات، بهدف الوصول إلى اختراق الإحتكار “الغربي” لتقنيات صناعة الرّقائق الدقيقة، رغم القرار الأمريكي الذي يمنع الشركات الأمريكية ( والأوروبية واليابانية والتايوانية) من توفير التكنولوجيا للشركات الصينية قبل الحصول على ترخيص خاص لأن الولايات المتحدة تعتبر ذلك تهديدًا للأمن القومي الأمريكي، وعلّق متحدّث باسم وزارة الخارجية الصِّينِيّة: “إنها عقلية الحرب الباردة التي تَعْكِسُ نزعة الهَيْمَنَة”.
رغم القُيُود والحصار طورت الشركات الصينية، منذ سنة 2021، مجموعة من التقنيات المعروفة باسم أتمتة التصميم الإلكتروني، وهي أدوات تساعد على تصميم شرائح يمكنها تطوير تقنيات استراتيجية جديدة مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية والطيران الذي تفوق سرعته سرعة الصوت.
أنفقت الحكومة الصينية 143 مليار دولارًا سنة 2023، لتحفيز قطاع الرقائق المحلي، كما تُقدّم منذ أكثر من عشر سنوات العديد من الحوافز للخبراء الصينيين في مجالات العُلُوم والتكنولوجيا الذين يعودون من الخارج، وذلك في إطار السباق بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة والصين من جهة أخرى، من أجل الهيمنة على قطاعات السيارات الكهربائية والروبوتات والكابلات البحرية وتشفير الاتصالات الرقمية، و التكنولوجيا الفائقة ومنها صناعة الرقائق ومجمل الصناعات الإستراتيجية وذات القيمة الزّائدة المرتفعة مثل أشباه الموصلات التي تبلغ قيمة إيراداتها حوالي 600 مليار دولار سنويًا، وتُعتَبَرُ الولايات المتحدة رائدة في هذا المجال لكنها تعتمد على كوريا الجنوبية للحصول على رقائق الذاكرة (لتخزين المعلومات واسترجاعها) وعلى تايوان للحصول على رقائق المنطق (لمعالجة البيانات وتنفيذ التعليمات)، وقدّمت حكومة الولايات المتحدة سنة 2022، حوافز بقيمة حوالي 53 مليار دولار لبرنامج تديره وزارة التجارة ويقدم حوافز مالية للشركات القادرة على زيادة الإنتاج المحلي، ويُمنع المستفيدون من الحوافز من تبادل التقنيات الحساسة مع الصين ودول أخرى “غير حليفة” للولايات المتحدة، ورغم ذلك حققت الصّين تقدّمًا سريعًا وقدمت شركة هواوي الصينية للإتصالات هاتفًا ذكيًا جديدًا يدعم تقنية الجيل الخامس مزودًا بشريحة متطورة خلال شهر آب/أغسطس 2023…
التكنولوجيا وتعميق الفجوة الطّبقية
تُعتَبَر الولايات المتحدة القوة الإمبريالية المُهَيْمِنَة في العالم، ويتمركز بها رأس المال الإحتكاري حيث تحتل سبع شركات أمريكية المراكز الأولى في ترتيب أكبر عشر شركات عابرة للقارات بقيمة تفوق 300 مليار دولارا، واحتلت شركة أمازون المركز الأول بنهاية 2022، تليها شركة “أبل” ثم “غوغل”، وبلغت قيمة أكبر عشر علامات تجارية عالمية 1,55 تريليون دولار، بنهاية سنة 2022، وتستحوذ الولايات المتحدة على المراتب الأولى في قطاعات التجزئة والمصارف وغيرها
يُعْتَبَرُ قطاع التكنولوجيا هو الأعْلَى قيمةً في قائمة أكبر 500 علامة تجارية البالغة بنحو 1,2 تريليون دولارا من أصل ثمانية تريليونات دولار، ويمثل قطاع التكنولوجيا نحو 15% من القيمة الإجمالية للخمسمائة علامة تجارية، وارتفعت قيمة شركة تصنيع السيارات الكهربائية الأمريكية “تسلا”، بنسبة 44% لتصل إلى 66,2 مليار دولار فيما ارتفعت قيمة منافستها شركة “بي واي دي أوتو” الصينية بنسبة 57% في المائة لتصل إلى 10,1 مليار دولار، ليبقى الفارق شاسعًا…
من جهة أخرى كان نصيب الأثرياء المُستثمرين في قطاع التكنولوجيا مرتفعًا ضمن قائمة من حقّقوا أعلى الأرباح سنة 2023، حيث ارتفعت ثروة عشرة أشخاص حول العالم من 765 مليار دولارا إلى 1,23 تريليون دولارا، خلال سنة 2023، وحققوا أرباحا أو مكاسب في سوق المال بنحو 462,6 مليار دولار بفعل ارتفاع أسعار أسهم شركات التكنولوجيا، حيث تسعة من بين العشرة أشخاص الأكثر ربحا خلال العام 2023، من المستثمرين في قطاع التكنولوجيا وواحد فقط من قطاع التّجزئة، وتصَدَّر قائمة الأثرياء الذي حققوا أعْلَى الأرباح “إيلون ماسك”، مالك شركتي تسلا وإكس (تويتر سابقا)، وبلغت ثروته 231 مليار دولارا بعدما حَقَّقَ مكاسب بقية 94 مليار دولارا سنة 2023، وتضم قائمة أثرى الأثرياء الذين حققوا أعظم مكاسب خلال سنة 2023، يليه مارك زوكربيرغ، مؤسس شركة ميتا (فيسبوك سابقا)، وجيف بيزوس، مؤسس “أمازون” عملاق التجارة الإلكترونية، وستيف بالمر، الرئيس التنفيذي السابق لشركة مايكروسوفت والمساهم في شركة ريدموند واشنطن التي تصنع نظام التشغيل ويندوز وألعاب إكس بوكس، و لاري بايج، الذي أسس مع سيرجي برين شركة غوغل (ألفابت)، وأمانسيو أورتيغا، الذي يملك أغلبية أسهم شركة إنديتكس، أكبر شركة لبيع الملابس بالتجزئة في العالم. وشركة Arteixo، وهي الشركة الأم لـ Zara الإسبانية وسبع علامات تجارية أخرى للبيع بالتجزئة، وسون هوانغ، الرئيس التنفيذي لشركة إنفيديا المصنعة لمعالجات الكمبيوتر المستخدمة في الألعاب ومراكز البيانات والسيارات ذاتية القيادة، و بيل غيتس مؤسس شركة مايكروسوفت، و مايكل ديل الرئيس التنفيذي لشركة ديل، وبذلك كان مُعظم من ضَمّتهم قائمة الأثرياء الذين ارتفعت أرباحهم بشكل قياسي سنة 2023، من قطاع التكنولوجيا المتقدّمة حيث تُهيْمن الولايات المتحدة الأمريكية في مجال الإنجازات العِلْمِيّة والإبتكارات التكنولوجية التي يجمعها “وادي السيليكون”، أشهر مركز تكنولوجي عالمي خصوصًا في مجالات البرمجيات والتقنيات المرتبطة بالإنترنت والإلكترونيات ذات الطبيعة الاستهلاكية، ويضم وادي السيليكون في ولاية كاليفورنيا نحو 10% من الوظائف بالولاية وتبلغ حصته 13% من الناتج المحلي الإجمالي للولاية، غير إن منافسة الصّين للولايات المتحدة أصبحت ظاهرة في معظم المجالات ومن بينها قطاع التكنولوجيا حيث أصبح مركز شنغهاي (ثاني أكبر مدينة صينية ) رائدًا في مجال الابتكارات التكنولوجية وما يُسمّى “الذّكاء الإصطناعي” والتكنولوجيا الحيوية والطاقة المتجددة وغيرها، وبشكل عام نجحت الصين في تحفيز التغيرات الحاصلة في البيئة التكنولوجية العالمية، واستغلال المواهب وذوي المهارات والخبرات، ما جعل شركة “هواوي” للإتصالات تصمد أمام الحصار وحظر بيع منتجاتها في أمريكا الشمالية وأوروبا واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا وغيرها من الدّول الحليفة للولايات المتحدة، وتمكّنت “هواوي” من تطوير الجيل الخامس للإتصالات، كما تمكّنت شركة صناعة السيارات الصينية “بي واي دي” التي تأسست سنة 1995 من منافسة شركة تِسْلاَ في مجال صناعة السيارات الكهربائية خلال عقد من الزمن، وفازت بلقب أكبر منتج للسيارات التي تعمل بالبطاريات، وباعت 526 ألف سيارة كهربائية، خلال الربع الأخير من سنة 2023، مقابل 484 ألف سيارة من صنع شركة تِسْلاَ وتمكّنت الشركة الصينية، خلال خمس سنوات، من تحسين جودة البطاريات والسيارات الكهربائية وخفض التكاليف، وطورت شركة “بي واي دي” قدراتها لتُصبح واحدة من أكبر شركات تصنيع البطاريات في العالم، وتزود المنافسين بالبطاريات ومنهم تسلا وتويوتا، وباعت شركة بي واي دي أكثر من ثلاثة ملايين سيارة كهربائية طيلة سنة 2023، بينما باعت منافستها الأمريكية تسلا 1,81 مليون سيارة، ليبلغ الفارق بنسبة 62% طيلة سنة 2023، وتصنع شركة بي واي دي خمسة أنواع من السيارات الكهربائية الأحْدَث والأرخص من سيارات “تسلا” الأمريكية، رغم العراقيل التي وضعتها الولايات المتحدة وأوروبا أمام سيارات الشركة الصينية، ومنها رسوم جمركية إضافية تبلغ 25% من سعر السيارة، وتخطط “بي واي دي” لبناء أول مصنع سيارات أوروبي لها في المجر، وعمومًا تستحوذ شركتا بي واي دي وتسلا على 43% من مبيعات السيارات الكهربائية في العالم، وهما شركتان مُعاديتان للعمل النقابي وتميزتا بالإستغلال الفاحش للعاملين بها، وبالحدّ من الحُرّيات بهدف رفع الإنتاجية وخفض التكاليف…
السيارات الكهربائية
أعلنت شركات صناعة السيارات، قبل عام (بنهاية سنة 2022) اعتزامها استثمار 1,2 تريليون دولارًا بحلول سنة 2030 بهدف نشر استخدام السيارات الكهربائية لتنتقل من سيارة النُّخَب إلى سيارة شعبية، وشهد العام 2023 تحولا في سباق صناعة السيارات حيث ضَخّت حكومات الدّول الغنية مليارات الدّولارات لدَعْم شركات صناعة السيارات الكهربائية، غير إن هذه الشركات الأمريكية والأوروبية واليابانية قَلّصت استثماراتها وتنكّرت لوعودها، مُطالبةً بزيادة الدّعم الحكومي (من المال العام) “لتعويض التكاليف المرتفعة للتحول من السيارات التقليدية إلى السيارات الكهربائية”، بينما ارتفع الطّلب على المركبات الكهربائية في مختلف مناطق العالم، رغم ارتفاع ثمنها ورغم الإفتقار إلى البنية التحتية لشحن البطاريات، ولا يُتَوَقّع أن يتمكّن ذوُو الدّخل المتوسّط من شرائها خلال السنوات القليلة القادمة
ينمو الطلب على السيارات الكهربائية في الصين وأوروبا والولايات المتحدة -أسواق السيارات الكهربائية الرئيسية- بسرعة أعلى من الطلب على السيارات التقليدية، ويُتوقّع أن يتضاعف الإنتاج العالمي من السيارات الكهربائية ثلاث مرات بحلول سنة 2030 ليصل إلى 33,4 مليون مركبة، أي حوالي ثلث إجمالي الإنتاج، ويُتوقّع أن تكون للصين حصة الأَسَد، رغم توقعات ارتفاع إنتاج السيارات التي تعمل بالبطاريات الكهربائية في أمريكا الشمالية، ستة أضعاف ليصل إلى ما يقرب من 7 ملايين مركبة بحلول سنة 2030، أو ما يُعادل 40% من السوق الأمريكية المتوقعة، ولكنه أقل بكثير من الأهداف التي أعلنتها إدارة بايدن.
تُنتج شركة فورد الأمريكية المُعَوْلَمَة نحو خمسين ألف سيارة كهربائية، وتستهدف بيع 150 ألف سيارة كهربائية سنويا بحلول سنة 2030، غير إنها تراجعت عن هذه الأهداف بسبب “انعدام القدرة على تحمل التكاليف” وعجز المستهلكين من ذوي الدخل المتوسط عن شراء سيارة كهربائية، كما اضطرت شركة تيسلا إلى خفض الأسعار للحفاظ على تشغيل خطوط التجميع بأقصى سرعة في الصين والولايات المتحدة.
يُقَدّر خط الفقر في الولايات المتحدة بدخل يبلغ نحو 13 ألف دولارا سنويا لشخص واحد وبنحو 34 ألف دولارا لأسرة مُكوّنة من أربعة أشخاص، ويتراوح سعر السيارة الكهربائية في الولايات المتحدة بين 28475 دولارا و 44 ألف دولارا بنهاية كانون الأول/ديسمبر 2023، ويتمتع المُشترون (حتى 31/12/2023) بإعفاءات ضريبية بقيمة 7500 دولار…
في الصّين التي أصبحت منافسا قويًّا في مجالات التكنولوجيا، أعلنت شركة الهواتف “الذّكية” “شياومي” ( Xiaomi ) الصينية يوم الخميس 28/12/2023 إنها دخلت سوق صناعة السيارات الكهربائية وعرضت أول سيارة بمحرك كهربائي تفوق سرعتها سيارات شركة تيسلا وتورش، وقد يتم طَرْحُها في الأسواق، بعد بضعة أشْهر، وتَهْدِفُ شياومي أن تصبح واحدة من أكبر خمس شركات عالمية لصناعة السيارات خلال السنوات الـ15 أو العشرين المقبلة، وتعمل الشركة حاليا على طرح نظام تشغيل مشترك لمجمل إنتاجها من الهواتف والأجهزة الإلكترونية الأخرى والسيارات الإلكترونية التي تصنعها والتي يمكن لها قطع مسافة تتراوح بين 670 و 800 كيلومترا بشحنة واحدة وهي مجهزة بتقنية متقدمة تسمح له بالتعرف على العوائق في ظل الظروف الصعبة، وتعهدت شركة Xiaomi باستثمار عشر مليارات دولار في السيارات على مدى عقد من الزمن…
الحاج موسى أو موسى الحاج؟
تُعْتَبَرُ الولايات المتحدة العَدُوّ الأول للكادحين وللشُّعوب الواقعة تحت الإستعمار والإضطهاد، لكن لا يمكن اعتبار الصّين صديقًا للكادحين وللشُّعُوب المُضْطَهَدَة، ولذلك فإن الصّراع بين الدّولَتَيْن هو صراع بين قُوَّتَيْن رأسمالِيّتَيْن من أجْل الهيمنة، فإذا ضَعُفت الولايات المتحدة يضعف معها حلف شمال الأطلسي والقوة العسكرية الأمريكية، ربّما مُؤقّتًا أو إلى حين، ولكن ماذا يُرْجَى من القوى الرّأسمالية الصّاعدة، مثل الصّين أو روسيا؟
سوف تكون هزيمة الولايات المتحدة مفيدة لو نُفِذَتْ من قِبَلِ الطبقة العاملة المَحلِّيّة أو الشّعوب التي اعتدت عليها الجيوش الأمريكية والأطلسية، لكن طبيعة الصراع الأمريكي- الصِّيني بصيغته الحالية لا ينفع أو لا يُفِيد الطبقة العاملة في البَلَدَيْن أو في العالم، كما لا يُفيد شُعُوب فلسطين والعراق وسوريا واليمن وكوبا وفنزويلا وغيرها…
التعليقات مغلقة.