الهجرة خلال حقبة الإمبريالية / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الخميس 18/1/2024 م …

قُدِّرَ عدد المهاجرين النّظاميين في العالم بنحو 480 مليون سنة 2019، قبل جائحة كوفيد-19، وانخفض العدد بنهاية سنة 2022 إلى حوالي 282 مليون شخص ( بسبب جائحة كوفيد – 19 وزيادة القُيُود على تنقل البشر من بلدان “الجنوب” إلى “الشمال” ) يعيشون خارج بلدانهم الأصلية، أو ما يُعادل 3,6% من العدد الإجمالي لسكّان العالم، مع الإشارة إلى ارتفاع أعداد المُهاجرين في روسيا، خصوصًا من دول الإتحاد السوفييتي السابق، ومن أوكرانيا، وارتفاع عدد خريجي الجامعات وأصحاب المؤهلات التي تتطلب دراسة جامعية طويلة ومرتفعة التكاليف، مثل الهندسة والطّب والإختصاصات التقنية في مجالات الإتصالات والمعلوماتية و”الذّكاء الإصطناعي” وغيرها من الإختصاصات التي تحتاجها البلدان الفقيرة وتنهبها دول أمريكا الشمالية وأوروبا، بالإضافة إلى المهاجرين غير النّظامِيِّين الذين يُقَدّر عددهم بأكثر من عشرين مليون في مختلف مناطق العالم، ويتعرضون (قبل الوصول) إلى خطر الموت أو الإصابة أو الاعتقال، ثم بعد الوصول إلى صعوبة العثور على عمل مناسب بأجر عادل، وقد تُؤَدِّي المصاعب التي يُلاقيها المهاجرون إلى زيادة في نسبة الفقر والبطالة والعُزْلة والأمراض العقلية…  




يعمل معظم المهاجرين في وظائف ومواقع صعبة – وغالبا ما تكون خطرة وبرواتب منخفضة، في أدنى تصنيفات الإقتصاد الدولي – لدعم أسرهم، ويقوم أكثر من 200 مليون منهم بإرسال تحويلات مالية إلى ذَوِيهم بِبُلدانهم الأصلية، وتشير التقديرات الحالية إلى أن 75% من تدفقات الحوالات تُسْتَخْدَمُ لتلبية الاحتياجات العاجلة، ونسبة 25% لأغراض أخرى، كالإدخار والإستثمار وبعض الإحتياجات طويلة الأمد، وقُدِّرَت تحويلاتهم المالية، سنة 2022 بنحو 794 مليار دولارا، ويعتبر البنك العالمي “إن للتحويلات المالية تأثير عميق على مستويات معيشة الناس في البلدان الفقيرة المُصَدِّرَة للمهاجرين في آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية”، ولا تتجاوز أهداف المهاجرين وذويهم الذين يتلقَّوْن التحويلات المالية، الحد من الفقر وتحسين الصحة والتغذية والتعليم وتحسين الإسكان والصرف الصحي، ومواجهة الحالات الطارئة من خلال الإدخار، ويساهم المهاجرون بنحو 10,7% من الناتج الإجمالي العالمي، كما يساهمون في تمويل الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية والتعليم، بالبلدان الغنية التي يعملون بها…

تُؤَدِّي التحويلات المالية التي يرسلها المهاجرون إلى أوطانهم منخفضة أو متوسّطة الدّخل دورًا كبيرًا في التخفيف من حدة الفقر وتحقيق التنمية الاقتصادية في بلدانهم الأصلية، لأن قيمتها تجاوز الاستثمار الأجنبي المباشر في تلك الدول، فيما يُرسل المُغتربون من الدّول الغنية والذين يعملون في الدّول الفقيرة نحو 150 مليار دولارا تنتقل من “الجنوب” إلى “الشّمال”، زيادة على نهب الشركات العابرة للقارات التي تُحَوّل الثروات الطبيعية والأموال بلا حساب…

يُعتَبَرُ العمال المهاجرون أول المتأثرين بالأزمات الإقتصادية، فيفقدون وظائفهم وسبل رزقهم، ولا يحصل عشرات الملايين من المهاجرين النظاميِّين على أي حقوق في مجالات التأمين على البطالة والتأمين الصّحّي والإجتماعي ( في دُوَيْلات الخليج على سبيل المثال) فضلا عن المهاجرين غير المُسجّلين رسميا وغير الحاصلين على وثائق إقامة رسمية، ولهذه الأسباب وغيرها انخفضت تحويلات العمال المهاجرين إلى البلدان الفقيرة من 794 مليار دولارا سنة 2022 إلى نحو 670 مليار دولارا بنهاية سنة 2023، وفق تقديرات البنك العالمي الذي يعتمد على بيانات المصارف، أي التحويلات الرّسمية، ولا تتضمن التحويلات المُرْسَلَة بطُرُقٍ أخرى، عبر قنوات غير رسمية لا ترصدها الإحصائيات الرسمية، وقدّر صندوق النقد الدّولي قيمة هذه التحويلات بثلاثة أضعاف حجم “المساعدات الإنمائية الخارجية” وتتجاوز التحويلات التي تتلقاها مصر إيرادات قناة السويس، وتتجاوز في سري لانكا قيمة صادرات الشاي، وقيمة عائدات السياحة في المغرب وتونس، غير إن تحويلات المهاجرين تعكس تَبَعِيّة البلدان المُصدِّرة للهجرة، لأن أي أزمة تُصيب الإقتصاد العالمي تُؤَدِّي إلى تشديد القيود على المهاجرين (ضمن القيود على الطبقة العاملة والفقراء في العالم) وانخفاض حجم الأموال المُرسلة إلى أسرهم، وهو ما يُفسِّر انخفاض التحويلات من سنة إلى أخرى… 

لم تتلقَّ البلدان العربية سوى حوالي 64 مليار دولارا من تحويلات المهاجرين منها (عبر القنوات الرسمية) سنة 2022، بينما تلقّت الهند سنة 2022، أكبر قدر من تحويلات المُهاجرين بنحو 125 مليار دولار تليها المكسيك بحوالي 67 مليار دولار والصين بنحو 50 مليار دولار والفلبين بنحو 40 مليار دولار وباكستان بنحو ثلاثين مليار دولارا ومصر بحوالي 25 مليار دولار، وتُشكل تدفقات التحويلات نسبةً كبيرة من إجمالي الناتج المحلي للعديد من البلدان، وأهمها طاجيكستان التي تبلغ التحويلات بها نحو 51% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يُساعدها على الحد من عجز الحساب الجاري والموازنة العامة، وتبلغ النسبة حوالي 44% في تونغا ونحو 36% في لبنان و 34% في ساموا و 31% في قيرغيزستان، وبشكل عام، فاقت قيمة هذه التحويلات 20% من إجمالي الناتج المحلي في حوالي عشرين بلد، منها طاجيكستان ولبنان ونيبال وهندوراس وغامبيا، وفق مواقع البنك العالمي وصندوق النقد الدّولي اللذين يتوقعان ضعف النشاط الاقتصادي العالمي سنة 2024، وتراجع نمو التحويلات إلى البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل بنحو 3,1% بسبب احتمال تراجع “أسواق العمل” في العديد من البلدان مرتفعة الدخل، وكذلك بسبب التضخم وتقلب أسعار صرف العملات، فضلا عن ارتفاع تكاليف التحويل التي تتراوح بين 6,2% و 12,1% لإرسال 200 دولارا عبر القنوات الرسمية، ومن المُفارقات، أدت زيادة الرقابة الصّارِمَة على الحدود إلى تقليص الهجرة النّظامية في أوروبا وأمريكا وارتفاع حجم العُمّال غير النّظاميين في قطاعات المطاعم والفنادق والبناء ورعاية المُسنِّين والأطفال والمَرْضى والمُعوّقين، وإلى زيادة تدفقات التحويلات إلى بلدان العبور ( المكسيك وغواتيمالا والمغرب العربي وتركيا…) حيث يتلقى المهاجرون الذين لم يتمكّنوا من عُبُور الحُدُود أموالا من أقربائهم في أمريكا الشمالية أو أوروبا، ولهذه الأموال تأثير إيجابي على اقتصادات بلدان العُبُور، خلافًا لما يُرَوّجه إعلام بعض البلدان مثل تونس أو تركيا، كما يرتفع حجم تدفقات تحويلات المهاجرين في فترات الأزمة والكوارث، ما يُمَكِّنُ أقاربَهُم المتضررين من تلبية الإحتياجات الضرورية (السّكن والغذاء والدّواء…) ولئن انكمش اقتصاد الدّول الرأسمالية المتقدمة، ل جائحة كوفيد-19 سنة 2020، بنسبة 3% فإن تحويلات العُمّال المهاجرين لم تنخفض سوى بنسبة 1,1% ما زاد من دَوْر الهجرة في اقتصاد البلدان المُصَدِّرَة للمهاجرين… 

يتعرض المهاجرون إلى التمييز والعُنصرية التي تتجسّد في صعوبة الحصول على عمل أو على التعليم أو الرعاية الصحية أو السكن، ويتعرض المهاجرون إلى الإستغلال المُفْرِط (أكثر من أفراد الطبقة العاملة المحلية) من قِبَلِ أصحاب العمل أو الوسطاء أو المجرمين، ويشمل العمل القسري أو العبودية أو الاتجار بالبشر، ويتعرضون كذلك إلى عدم المساواة في الحقوق التي يتمتع بها المواطنون الأصليون كالحق في العمل أو التعليم أو الرعاية الصحية أو السكن أو الإقامة الدائمة، وصعوبة الوصول إلى هذه الحقوق والخدمات الأساسية...

الهجرة في حقبة العَوْلَمَة الرّأسمالية

يندرج الإستغلال الفاحش للمهاجرين العابرين لحدود الدّول والقارّات ضمن منظومة العلاقات بين الدول الإمبريالية ( “المَرْكز”) والدّول الواقعة تحت الهيمنة (المُحيط أو دول الأطراف) وعلى سبيل المثال، فقد فَرَضَت وثيقة الإتحاد الأوروبي بعنوان “الميثاق الأوروبي للهجرة واللجوء بين إفريقيا والاتحاد الأوروبي” ( الرّبع الأخير من سنة 2020) “الهجرة المُختارة” (تختار الدّول الأوروبية نوع المهاجرين وتُرَكِّز على ذوي الإختصاصات والخبرات والمهارات ) وتتمثل في هجرة الكفاءات الإفريقية نحو أوروبا واستنزاف رأس المال المعنوي والمواهب والطاقات البشرية ( إلى جانب الموارد الطبيعية) لتتحول إفريقيا (ومن ضمنها المغرب العربي) إلى وكالة لتصدير الكفاءات للمساهمة في ازدهار الإقتصاد الأوروبي وتعميق الفجوة بين بلدان المركز الإمبريالي ودول المُحيط.

لا تقتصر العولمة على إزالة الحواجز أمام رأس المال، بل تعدّت الجوانب المالية والإقتصادية ( جعل رأس المال الوطني وكيلا لرأس المال الأجنبي) إلى الهيمنة الثقافية والقانونية وإلغاء القوانين المَحَلِّيّة، ونَشْر ثقافة الإستهلاك، بدل اقتصاد الكَفَاف، وفَرْض اتفاقيات ما تُسمَّى ” التجارة” الحرة والتّدخل المباشر في اقتصاديات الدول، بواسطة الإتفاقيات الثنائية أو من خلال صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي، للقضاء على القطاع العام ووقف التوظيف الحكومي (باستثناء قطاع الأمن والجيش) للقضاء على الفئات الوُسطى ما يُوَسِّع الهُوّة بين الأغنياء والفُقراء داخل كل بلد وعلى مستوى العالم، ويتم تنفيذ هذا المُخَطّط خدمةً لمصالح الشركات متعددة الجنسيات، واستغلال الدول الغنية الموارد المادية (المحروقات والمناجم والأرض) والبشرية للبلدان الواقعة تحت الهيمنة، باستخدام أَحْدَثِ إنجازات البحث العلمي والتّقني، مما يؤدي إلى استنزاف بلدان “الأطراف”، لتتسع الهوة بين ما اصطلح على تسميته “الشّمال” الذي يستحوذ على حوالي 85% من الناتج الإجمالي العالمي والتجارة الدّوالية، والمدخرات، بدعم من المؤسسات المالية الدّولية، ومن بينها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية وغيرها…

أدّى النّهب وتكثيف استغلال الموارد الطبيعية والبشرية وتجميد التوظيف وانحدار الفئات الوُسْطى إلى أسفل دَرَجات السُّلَّم الإجتماعي بالدّول الواقعة تحت الهيمنة، بالتوازي مع تشديد شروط تنقّل البَشَر من بلدان “الأطراف” إلى بلدان “المركز”، فضلا عن الحروب العدوانية وتفتيت الدّول لتيْسير عمليات الهيمنة والنهب، إلى تكثيف حركات النزوح (الإنتقال من منطقة إلى أخرى داخل نفس بلد) والهجرة إلى البلدان المجاورة في ما يقارب 85% منها، ولا يتجه إلى أوروبا أو أمريكا الشمالية سوى حوالي 15% من المُهاجرين، وعلى سبيل المثال لا تستقبل مجمل دول أوروبا – التي لا يكف إعلامها وزُعماؤها السياسيون على التّشكِّي من كثرة اللاجئين والمهاجرين – سوى أقل من 10% من مجموع لاجئي العالم، أي أقل من إيران التي تستضيف أكثر من مليونَيْ أفغاني أو باكستان… 

إن توسيع مجال الرأسمالية المُعَوْلَمَة ( الإمبريالية) هو السبب الرئيسي في انتقال العاملين عبر الحدود، أملاً في الحصول على عمل وربما على وثيقة إقامة قانونية، غير أن الهم الوحيد لرأس المال هو تعظيم الأرباح من خلال الإستغلال المُكثّف للعمال الأجانب ( وجزء هام من المَحَلِّيِّين) بأُجُور منخفضة وشروط عمل سيئة…

هجرة الكفاءات العربية

تستغل الدّول الرأسمالية المتطورة وشركاتها الأزمات الاقتصادية والبطالة وضُعف الميزانيات المخصصة للبحث العلمي، وغياب الحريات في البلدان الفقيرة، لاستقطاب خريجي الجامعات من ذوي الإختصاصات التي تحتاجها هذه البلدان وشركاتها، وتُمثّل هجرة الكفاءات أو “هجرة العقول” خسارة فادحة للبلدان الفقيرة التي خصّصت ميزانيات هامة للإنفاق على التعليم وتُشكّل أحد أشكال النّهب، وتُمثل تخريبًا لبرامج التنمية الاقتصادية والبحث العلمي، وفق منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو )، واعترت منظمة الهجرة الدّولية هجرة الخبرات بمثابة دَعْمٍ قَسْرِي من قِبَل الدول الفقيرة للدّول الغنية، وقَدّرت تكلفة الطبيب غير الإختصاصي بنحو ستّين ألف دولارا في البلدان الفقيرة التي لا تستفيد من خبرات أطبائها الذين يهاجرون إلى أمريكا الشمالية أو أوروبا أو أستراليا، فيما تضطر الدّول الإفريقية إلى تشغيل مائة ألف اختصاصي أوروبي (مهندسين أو أطباء أو تقنِيّين في مجالات الإتصالات والطاقة…)   بتكلفة أربعة مليارات دولار سنوياً، وفق البنك العالمي…

قُدِّرَ عدد المُهاجرين العرب خلال السنوات الخمسين الماضية بنحو ثلاثين مليون مهاجر أي قرابة 10% من سكان البلدان العربية، أما الجانب الأكثر خطورة فيتمثل في استنزاف الخريجين الذين أنفقت الدّول والشعوب على تعليمهم، حيث قُدِّرَ عدد الأطباء والمهندسين والعلماء العرب الذين تخرجوا في بلدانهم ويمارسون مهنتهم في أوروبا والولايات المتحدة سنة 1976 بحوالي 24 ألف طبيب و 17 ألف مهندس و 75 ألف باحث وتقني وخبير  بالعلوم الطبيعية، وزادت هجرة الكفاءات خلال العُقُود الخمسة الماضية، حيث هاجر من الوطن العربي ما بين 25% إلى 50% من الخريجين وذوي الكفاءات العربية وتستقطب ثلاث دول انغلوفونية (الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا ) أكثر من 75% من الكفاءات العربية المهاجرة وتتساهل في منحهم جنسيتها وقدّرت منظمة العمل العربية إن 50% من الأطباء و23% من المهندسين و15% من العلماء من مجموع الكفاءات العربية المتخرجة خلال السنوات الخمسين الأخيرة، هاجروا إلى أوروبا وأميركا وكندا ولا يعود نحو 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج إلى بلدانهم، ويشكل الأطباء العرب العاملون في بريطانيا حوالي 34% من مجموع الأطباء العاملين بها، أي إن الدّول الفقيرة تُرَبِّي الأجيال وتُنفق المليارات على المدارس والجامعات، لصالح اقتصاد الدول الإمبريالية التي تقوم بتوظيف كفاءات العرب والبلدان الفقيرة لتطوير اقتصادها وأسلحتها وابتكاراتها العلمية، وقَدّرت منظمة العمل العربية – سنة 2006 – خسائر الدول العربية من جراء هجرة الخِرِّيجين وذوي الخبرات والكفاءات بحوالي 200 مليار دولار، منذ بداية القرن الواحد والعشرين، بمعدّل عشرين مليار دولارا سنويا، ما يُشكّل خسارة فادحة، خصوصًا في مجالات الاقتصاد والتخطيط، عمومًا والتعليم والبحث العلمي والصحة، وتُساهم هذه الهجرة في إعادة لإنتاج التخلف، بحرمان المُجتمعات الواقعة تحت الهيمنة الإمبريالية من كفاءاتها العلمية والفكرية وحرمانها من الاستفادة من خبرات ومؤهلات هذه الكفاءات في مجال التنمية الاقتصادية والاجدتماعية التي من شأنها المساهمة في تطوير هذه المجتمعات على جميع المستويات الإقتصادية والعلمية، وبالمُقابل تُؤَدِّي “هجرة العقول” إلى زيادة اعتماد الدّول “النّامية” على الخُبَرَاء أو المدربين أو العُلماء الأجانب، برواتب خيالية…

الهجرة غير النظامية

أدت التدابير الزّجرية التي اتخذتها الدّول الرأسمالية المتطورة، وأدّى تكثيف النّهب الإمبريالي لثروات البلدان الواقعة تحت الهيمنة إلى تهميش ملايين المواطنين القادرين على العمل في بلدان ما يُسمّى “الجنوب”، وإلى بحث عشرات الملايين من العاملين عن فُرص عمل خارج الحدود، رغم الخُطُورة التي تمثلها الرحلة من إفريقيا وآسيا إلى أوروبا أو من أمريكا الجنوبية إلى أمريكا الشمالية، وكلما زادت التدابير الحمائية التقييدية زادت ثروة المُهرّبين والمُحتالين، حيث يدفع المهاجر المال مقابل تجاوز الحدود نحو أوروبا أو أمريكا الشمالية إحضاره إلى بلد آخر، وزادت كذلك فرص الإستغلال المُفرط وإساءة معاملة العمال المهاجرين وتقويض حقوقهم وحقوق الطبقة العاملة بشكل عام… 

يتجه المهاجرون بصورة غير نظامية من شمال ووسط إفريقيا إلى قارّة أوروبا، ومن أمريكا الجنوبية إلى الولايات المتّحدة وكندا، ومن قارّة آسيا إلى أستراليا ونيوزلندا، وقدّرت منظَّمةُ الهجرةِ الدَّوليّة  عددَ المهاجرين غيرِ القانونيّين في دول الاتحاد الأوروبي  سنة 2014 بنحوِ 1,5 مليونٍ شخصٍ، مُعْظمُهم من قارّتَي إفريقيا وآسيا، وتوقّعت ىنذاك ارتفاع عدد المهاجرين غير النّظاميين بسبب الأزمة الاقتصاديّة العالميّة ونُدْرةُ فُرَصِ العمل في بلدانهم والحروبُ – التي تُشعلها وترعاها الدّول الإمبريالية وشركاتها – والكوارثُ الطبيعيّةُ، ويُهاجر معظمهم في ظروفٍ صعبةٍ وخَطيرة، خصوصا في البحر على متن قَوارِبَ صغيرةٍ مُتداعية ومُزدحمة، تحمل أعدَادًا كبيرة، ما يُؤَدِّي إلى العديد من الحوادث القاتلة، إما بسبب العواصف أو بسبب سوء حال القوارب وبسبب الإكتظاظ…

قدّرت المنظمة الدّولية للهجرة عدد ضحايا الهجرة غير النظامية بين الشواطئ العربية وأوروبا، بالبحر الأبيض المتوسط، سنة 2022، بنحو أربعة آلاف قتيل، إضافة إلى حوالي ألف مفقود، وأكّدت المنظمة إن الأرقام التي تنشرها أقل من الواقع بكثير، وتُقدّر بعض المنظمات الإنسانية عدد القتلى بأكثر من ستة آلاف سنة 2023، وقدّرت وكالة الحدود الأوروبية عدد من ولوا أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط بأكثر من خمسين ألف خلال النصف الأول من سنة 2023، وعدد الواصلين عبر طرق غرب البلقان بأكثر من 30 ألف، فيما أعلنت منظمة “كامينادو فرونتيرس” الإسبانية يوم الثلاثاء 06 كانون الثاني/يناير 2024 وفاة ما لا يقل عن 6618 مهاجرًا سنة 2023 أثناء محاولتهم الوصول إلى إسبانيا، بمعدل 18 ضحية كل يوم، ما يُشكل زيادة بنسبة 177% مقارنةً بسنة 2022، وتوجد من بين ضحايا سنة 2023 نحو 363 امرأة و384 طفلا…

تعتمد المنظمات التي تنشر هذه الأرقام على البيانات الرسمية وعلى شهادات النّاجين من الغرق، غير إن عدد الضحايا والمفقودين يبقى مجهولا، وهو أعلى بكثير من التقديرات المُعْلَنَة، وجميعهم ضحايا الفقر والحُرُوب ونهب الثروات وضحايا سياسات البرجوازيات الكُمْبْرادُورِيّة الحاكمة في البلدان الفقيرة…

خاتمة

نشَر إيمانويل نيس كتابًا قيمًّا منتصف سنة 2023 بعنوان  “الهجرة باعتبارها امبريالية اقتصادية: كيف يُؤَدِّي تنقُّل العمالة الدّولية إلى تقويض التنمية الإقتصادية في البلدان الفقيرة”

Migration as Economic Imperialism: How International Labour Mobility Undermines Economic Development in Poor Countries  – Immanuel Ness  – 2023

يُحلّل الكاتب أحد جوانب العلاقات غير المتكافئة بين الدّول الإمبريالية الغنية والدّول الفقيرة الخاضعة للإستعمار الجديد (غير المباشر أو الإمبريالية)، ودَرَسَ بإسْهاب موضوع العلاقة بين الهجرة والتنمية، وكيف شجّعت الدول الغنية ووكالات التنمية الدولية والشركات العابرة للقارات هجرة العمالة من الجنوب إلى الشمال، طيلة عُقُود، لإعادة إعمار الدّول التي دَمّرتها الحرب العالمية الثانية، ولدعم نُمُوّ اقتصادات الدّول الإمبريالية، تم وصف التحويلات المالية التي يرسلها المهاجرون إلى أوطانهم باعتبارها أكثر الوسائل الواعدة للتنمية الوطنية في البلدان الفقيرة وغير النامية.

وتُمَثِّلُ هجرة العمالة المؤقتة استنزافًا للقوى العاملة وإحدى أشكال الإستغلال الفاحش من خلال الرواتب المنخفضة والتّهميش والعمل غير المُستقر بعقود هشّة (أو بدون عُقُود) ولأجل قصير وبدوام جزئي، وتُجسّد أحد أشكال الهيمنة الإقتصادية للإمبريالية، وتوسع فجوة عدم المساواة الاقتصادية بين المجتمعات الفقيرة والغنية… أما التحويلات المالية إلى أُسَر المُهاجرين في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، فقد أثبتت التّجربة إنها ليست مَصْدَرًا للنّمو في البلدان الفقيرة، بل تزيد من الإعتماد على تصدير العمال المهاجرين، ومن مظاهر ونتائج التنمية غير المتكافئة، لأن هذه التحويلات المالية تساعد في دفع تكاليف التعليم أو الإسكان أو الرعاية الصحية للأسر، ولكنها لا تحقق التنمية.

يُشكّل الاعتماد على العمالة المهاجرة جزءًا من عملية تعظيم أرباح الرأسمالية العالمية وتفقير العُمّال، ما يُعَمِّقُ الفجوة الطّبقية داخليا والفجوة بين بلدان “الجنوب” و”الشمال” على المستوى الدّولي، في ظل هيمنة النيوليبرالية على الإقتصاد العالمي التي أدّت إلى تقدّم أحزاب اليمين في انتخابات الدّول الإمبريالية ونجحت هذه الأحزاب في تسليط الأضواء على المهاجرين، وتحميلهم عبء نتائج الأزمة، وتوجيه الاستياء ضدّهم بدل الثورة ضد تكثيف الإستغلال الرأسمالي كركيزة للنظام الاقتصادي السائد الذي استغل ممَثِّلُوه في الحكومات ومجالس النواب ضُعف النقابات وأحزاب اليسار في الدول الرأسمالية المتقدمة لسن قوانين لتجريم العمالة المهاجرة المؤقتة، وحرمانها من خدمات التّأمين والصحة والسّكن مع التّهديد المُستمر بالتّرحيل… 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.