الإصلاح في سورية.. ليس بيريسترويكا غورباتشوف! / د. بسام أبو عبد الله
بسام ابو عبد الله ( سورية ) – الجمعة 19/1/2024 م …
كتبت الأسبوع الماضي في زاويتي الأسبوعية مقالاً بعنوان الإصلاح في سورية بين العاطفة والعقل! وقد جاءتني ردود فعل مختلفة على هذا المقال، تراوحت بين نزعة التفاؤل ونزعة التشاؤم، أي كلا الردين كان عاطفياً، وبعض الردود الأخرى جاءت عقلانية، وكان الهدف من مقالي تسليط الضوء على أن الإصلاح عمل معقد ودقيق، قريب إلى جراحة الأعصاب في المجال الطبي، فالمطلوب ليس إصلاحاً على طريقة آخر رؤساء الاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشوف يؤدي إلى موت المريض، وما زال كثير من المثقفين الروس يحملونه المسؤولية عن انهيار الدولة السوفييتية، بمن فيهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي وصف ما حصل بأنه كارثة جيوسياسية في القرن العشرين، هذا إذا اعتبرنا أن ما أراده غورباتشوف هو الإصلاح، وليس الانقلاب على النظام السياسي إرضاءً للغرب.
مقابل هذه التجربة الفاشلة، نجد أن الصينيين استطاعوا منذ أواخر السبعينيات في عهد دينغ شياو بينغ أن يدركوا أن الإصلاح مطلوب، لكن لغايات وطنية، ومن أجل تقدم الأمة الصينية، وليس إرضاءً للغرب، ولأخذ شهادات حسن سلوك منهم، فالغرب الجماعي كشفه الزمن الحالي لنا، وكشف حجم نفاقهم وكذبهم ودجلهم فيما يتعلق بالإصلاحات التي يطلبونها من الدول، والتي ليست إلا سلماً للتغلغل في المجتمعات، والهيمنة عليها تحت عناوين وشعارات براقة.
ضمن هذا الإطار، وقع البعض للأسف مرة أخرى في فخ اللغة الشعبوية، التي تدغدغ مشاعر الناس، وتقدم لهم ما يجعلهم يعيشون حالة افتراضية، وليست واقعية، ما دفع الكثيرين للفهم بأن الإصلاح في سورية هو نسف للماضي من جذوره، وبناء شيء جديد على طريقة غورباتشوف، وهو فهم خاطئ تماماً، فالإصلاح في سورية كما أفهمه أقرب للطريقة الصينية الناجحة، وليس الغورباتشوفية الفاشلة والمشبوهة، وكي لا يفهمني أحد بشكل خاطئ، لا أقصد هنا تقليد الصينيين وتكرار تجربتهم أبداً، إنما الاستفادة من تجارب الإصلاح كلها مع أخذ ظروفنا المحلية بعين الاعتبار، إضافة للدروس التي علمتنا الحرب إياها، كذلك التجربة في الحكم.
هنا دعوني أوضح مجموعة نقاط أساسية لابد منها كي أحاول إزالة الالتباس الحاصل لدى البعض:
1- ليس كل ما عمل عليه حزب البعث والدولة السورية بمؤسساتها كافة خلال المرحلة الماضية خاطئاً ويجب تجريمه ومحاكمته، كما كتب البعض، ففي هذا الطرح مغالاة وبعد عن الموضوعية، فما كان ممكناً ومطلوباً في السبعينيات والثمانينيات لا يمكن أن يستمر في القرن الحادي والعشرين ليس لأنه كان خاطئاً، لا: بل لأنه لم تتم عملية مراجعة وإصلاح له، وتطويره ليصبح أكثر فائدة للناس.
سأضرب مثالاً للإيضاح: سياسة الاستيعاب الجامعي كانت مطلوبة جداً في بداية السبعينيات لحاجة الدولة آنذاك للمهندسين والأطباء، والاختصاصات الأخرى، وانعكست على كل الأسر السورية، وحتى العربية منها، بالفائدة والمنفعة الشخصية والمجتمعية، فلقد أصبح في كل بيت طبيب ومهندس وصيدلاني ومحامٍ… إلخ، لكن مع استنفاد هذه السياسة لحاجاتها ومتطلباتها، والزيادة السكانية الكبيرة، تحولت الجامعات إلى الاستيعاب لأعداد كبيرة من الطلاب، فأثر الكم في النوع، ولم نعد نجد المخرجات المطلوبة من التعليم، إذ ازداد عدد خريجي الجامعات، وقل عدد الفنيين وأصحاب المهن مثلاً، وهو أمر بدأنا نجده في سوق العمل، كما أرهقت الجامعات بهذه الأعداد، فتدنى مستوى البحث العلمي، والدور الاجتماعي للأساتذة، وغيره الكثير، وما قصدته في هذا المثال أن أي سياسة عامة، أو توجه مجتمعي- اقتصادي لا يخضع للمراجعة، والتصحيح يتحول مع مرور الزمن إلى عبء، يصبح إصلاحه عملية صعبة ومعقدة، لكن لابد منها.
هل كلامي عن سياسة الاستيعاب مثلاً، هو تراجع عن دور الدولة في تأمين فرص التعليم المجاني، أبداً: لا تراجع عن ذلك كما أفهم، لكن ليس معقولاً أن يبقى أحد ما في الجامعة عشرين عاماً، وعلى الدولة أن تعطيه ألف فرصة لينجح، ويستهلك خلال هذه الفترة جهود الجامعة، والمؤسسات، وهو شخص لا يريد النجاح، كي لا نقول إنه فاشل، لأن الجامعة ليست مكاناً لمنح الشهادات فقط، بل مكان للبحث والتطوير وإنتاج الأفكار والمبادرات واستقطاب الكفاءات والمبدعين.
أي إن مفهوم الإصلاح هنا هو تصويب لسياسات كان يفترض أن تطور، ومراجعة وتقييم وتقويم لها، كي تبقى ذات منفعة وفائدة للمجتمع.
2- بالنسبة لسياسات الدعم التي أخذت حيزاً كبيراً من النقاشات في المرحلة الماضية، وما تزال، لابد من أن أوضح أنها بحاجة لإعادة النظر، وتوجيهها لمن يستحق، وهذه العبارة الأخيرة لكثرة ما تكررت كرهها السوريون، لكني سأبسط المسألة عليهم أكثر للإيضاح:
في الفقرة السابقة أشرت إلى مسألة الاستيعاب الجامعي، وسأطرح القضية بصيغة السؤال: هل من ينجح خلال عدد السنوات النظامية في الجامعة يستحق الدعم، مثل الذي يقضي عشرين عاماً فيها؟ أي إن الدعم يجب أن يوجه لمن يستحق هذه نقطة، والأخرى أننا كثيراً ما نخلط بين المساواة والعدالة، فالمساواة هو منح فرص متكافئة للمواطنين، والعدالة تعني إعطاء الأكثر كفاءة ونجاحاً فرصاً أكبر، وهكذا دواليك.
قد تكون الأمثلة الاقتصادية أكثر تعقيداً، لكن ما ذكرته ينطبق على الاقتصاد أيضاً، إذ لا يمكن حصر الامتيازات الاقتصادية، وفرص الاستثمار بأيدٍ قليلة، بل إن دور الدولة هو منح الفرص المتكافئة، والأهم إعادة توزيع الثروة بشكل عادل، ففي الاقتصاد ما يهم هي النتائج والفائدة للمجتمع ودخل الناس، وليس تسمية الهوية الاقتصادية إن كانت اشتراكية أم رأسمالية، فالصينيون مثلاً لم يهتموا بالتسمية، لكنهم ركزوا في الإصلاح الاقتصادي على النتائج، في حين الروس ذهبوا في عهد يلتسين نحو نمط ليبرالي سيطر من خلاله الأوليغارش على كل شيء، وأنتجوا نمطاً متوحشاً دمر القيم والمبادئ وكاد يدمر الدولة الروسية.
لذلك فإن الإصلاح في سورية هو عمل صعب، ومعقد، لأنه يتم في ظروف استثنائية، إذ هناك حاجة أولاً لإصلاح ما أنتجته الحرب من حالات شاذة ومراكز قوى وسلوكيات وغيره، وثانياً للبناء على خبراتنا وتجاربنا الماضية، والانتقال نحو رؤية مستقبلية تعطي أملاً للشباب والمواطنين عامة.
3- لقد فهم البعض من مجمل الحراك الحالي أن هناك تراجعاً عن ثوابت وخطوط حمر وذهاب نحو ليبرالية متوحشة وتخلٍّ عن الاشتراكية وإنهاء لدور حزب البعث، وحلول للمنظمات والنقابات مكانه، وفي هذا الطرح مغالطة كبيرة، وسوء فهم، وسأقول لماذا؟
• إن دور حزب البعث سيبقى، لكن بصيغة جديدة، وعبر مأسسة واضحة تحدد الأدوار والأهداف، والبرامج القابلة للتطبيق والقياس، فالحزب ليس سُلماً للانتهازيين والوصوليين، بل هو تنظيم كبير للمجتمع السوري يفترض به أن ينتج أفكاراً، ومبادرات وحلولاً لمشاكل المجتمع، ويتحول إلى الحامل الاجتماعي لرؤى الرئيس بشار الأسد الإصلاحية ودافعاً قوياً لها، وقاطرة لهذا المشروع، ويتحول إلى حزب قائد في الدولة والمجتمع من دون المادة الثامنة كما قال الرئيس الأسد في 16/1/2024، لكنه حزب قائد من خلال مشاريعه التطويرية في الصحة والتعليم، والنقل العام وصناديق الحماية الاجتماعية، أي إيجاد الحلول لمشاكل المجتمع، وتطبيقها بحيث تعود بالفائدة على المواطنين، أي عودة الحزب لمجتمعه وإيجاد الحلول الممكنة والابتعاد عن بهرجة السلطة وعُقدها، والتخلي عن عقل الاستثناء باتجاه عقل القانون والعدالة.
• أما المنظمات والنقابات فسوف تلعب دورها المجتمعي كمنظمات مطلبية تحقق مصالح المنتسبين لها، وتجلب لهم المكاسب، بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية أو المناطقية أو غيره، وسيكون حزب البعث جزءاً منها كغيره من الأحزاب، لكنه لا يديرها كما كان الأمر سابقاً، لأن ما كان يصلح في الماضي لا يصلح الآن الاستمرار به.
إن ما يجري من عمل وحراك هدفه الحفاظ على المكتسبات الأساسية وتطويرها، وإعادة توزيع للأدوار، وإنتاج أدوار جديدة بما يتناسب مع نقاط قوتنا التي سنحافظ عليها، ونقاط ضعفنا التي يجب مداواتها ومعالجتها كي تتحول من محنة إلى منحة.
التغيير والإصلاح عمل صعب ومعقد، وقد يبدو مخيفاً للبعض، لكن تكاتف الجهود الوطنية والشعبية خلف الرئيس الأسد أكثر من مطلوب لدعم وتفهم ما يجري بعيداً عن التفاؤل المفرط، أو التشاؤم والسوداوية، فالمطلوب الاتزان والحكمة والعمل المضني والشاق، والعقل العلمي- الموضوعي القادر على استيعاب ما يحصل، وأن ننجز للناس أكثر مما نخطب بهم، وهذا هو جوهر الإصلاح الجاري في سورية.
التعليقات مغلقة.