فلسطين في لوحات الرسام عمر بدور: الايمان بقوة العلاقة بين الفن والحدث الواقعي

الأردن العربي –  الأحد 21/1/2024 م …




أربعة عقود مضت على بداية رحلته مع عالم الرسم، وكان أول معرض أقامه الرسام عمر بدور عام 1982 تحت عنوان «صبرا وشاتيلا « في نفس السنة التي شهدت المجزرة في هذين المخيمين، والتي راح ضحيتها العشرات من الفلسطينيين المدنيين، نساء ورجال وأطفال، بعد أن تعرضوا لعملية إبادة جماعية بشعة أثناء غزو قوات الاحتلال الإسرائيلية لبيروت.

المحاكاة تحد لقدرات الرسام

بقيت فلسطين محور جميع ما ينتجه من لوحات، أولا لأن جذور عائلته تنتمي إلى فلسطين، وثانيا لأنه يحمل في داخله إيمانا بقوة العلاقة التي تجمع الفن مع الواقع، فالفنان كلما كان على صلة وثيقة مع الحياة الواقعية وما تشهده من أحداث، كلما أصبحت لديه مادة خصبة ينطلق منها لاستلهام أفكار وموضوعات، وقضية فلسطين تتجسد فيها معان درامية وإنسانية وتاريخية مركبة، ولا أشك في أنها تعد في مقدمة الموضوعات التي تستثير مخيلة الفنان الأصيل، وتضعه أمام تحد كبير لقدراته، لأن ما تفرزه من تفاصيل يومية، ممثلة بالتحديات الوجودية التي يتعرض لها الإنسان الفلسطيني وهو يواجه قوات الاحتلال، تفرض عليه أن يرتقي بأدواته إلى الدرجة التي يصبح فيها عمله الفني بمستوى جسامة ودرامية الحدث الواقعي، ومتجاوزا له من الناحية الفنية، وإلاّ ستصبح المقارنة لدى المتلقي لصالح الواقع على حساب العمل الفني.
الكثير من الأعمال الفنية أخفقت في تناول القضية الفلسطينية، ليس في نطاق الرسم فقط، لأنها تعاملت معها بصيغ تتكئ على المحاكاة المباشرة، بمعنى أنها انطلقت مما هو معلوم ومرئي لدى المتلقي ولم تخرج عنه، بذلك هي لم تأت بشيء جديد من حيث الرؤية والمعالجة الأسلوبية، بينما تقتضي التجربة الفنية عند تعاملها مع القضايا اليومية مثل قضية فلسطين أن تتخلص من هيمنة سلطة الواقع، وذلك عبر احتكام الفنان إلى ما تمتلكه سلطة التخييل من إمكانات هائلة لاستيعاب وتجاوز الواقع في آن. والرسام عمر بدور كان مدركا لحساسية هذه العلاقة، في مجمل ما قدمه من لوحات كانت فلسطين محورها.

التوازن في التجربة الفنية

أربعون عاما من العمل على موضوعة واحدة بلا شك تمثل تجربة تستحق القراءة، لأنها تحمل في داخلها تحديا كبيرا للفنان، تجعله دائم الحرص على أن لا يكرر تجاربه السابقة، وفي الوقت نفسه البقاء ضمن حدود التزامه الوطني والأخلاقي في أن يكون مخلصا لموضوعة فلسطين ولا يبتعد عنها. وعندما يتمكن الرسام مثل عمر بدور في أن يحقق هذا التوازن في تجربته، ولا يقع في أسر التكرار والمباشرة، فهذا يعني مستوى النضج الذي يحمله في قراءة الواقع فنيا، وارتقاء أدواته التقنية في إعادة صياغة الحدث الواقعي دون الوقوع في دائرة الانفعالات العاطفية المباشرة، التي عادة ما تملك سطوتها وقوتها في ما هو يومي من حياة الفلسطينيين وهم يواجهون قوات الاحتلال.
إذا ما نظرنا إلى ما قدمه عمر بدور من لوحات خلال مسيرته الطويلة والحافلة، فإننا سنجد في مغامرته قد أنتج ذاكرة فنية أرَّخت النضال الفلسطيني على مدى العقود الأربعة الماضية، والتي كان شاهدا على أحداثها اليومية بحكم عمله بالصحافة، عبر ما ينشره من لوحات تحمل قدرا عاليا من النقد المعبأ بالسخرية في الجرائد والمجلات والمواقع الإلكترونية، ويمكن قراءة تاريخ القضية الفلسطينية عبر نتاجه الفني، لأنه كان حاضرا وشاهدا على كل الأحداث التي مرت على الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة، من خلال متابعته اليومية لما يجري من مواجهات وأحداث، ومن ثم إحالتها إلى لوحات تتسم بقوة دلالاتها التعبيرية، فكان بنتاجه الفني صوت الفلسطينيين الذين يقارعون المحتل في الداخل، وصوتهم الذي يصدح في الخارج.
وإزاء التعتيم الإعلامي الذي تفرضه المؤسسات الصحافية والإعلامية الغربية على عدالة القضية الفلسطينية، وانحيازها التام لصالح السردية الإسرائيلية، تتأكد الأهمية الكبيرة والمؤثرة التي يمارسها الرسام عمر بدور لإيصال الحقيقة المغيبة عن الشعوب، وخاصة في الدول الغربية.

الرسم يواكب الحدث في غزة

في الحرب الأخيرة التي ما زالت تدور رحاها في غزة منذ أن انطلقت في 7 أكتوبر 2023 تظافرت فعاليات مختلفة ومنها الرسم، في كشف جرائم الاحتلال، وتعرية التاريخ المزيف الذي عمل الإعلام الغربي على اشاعته حول الفلسطينيين، عندما الصق بهم تهمة الإرهاب والتوحش، في مقابل إظهار الصهاينة على أنهم أصحاب حق في أرض فلسطين، وبقدر أهمية وقداسة المعركة التي يقودها المقاتلون الفلسطينيون على الأرض في غزة، فإن وسائط الإعلام غير الرسمية، التي يمثلها المدونون والناشطون على الميديا، لعبت دورا كبيرا في إيصال الحقائق، ووضعت المؤسسات الإعلامية الغربية في موقف محرج لا تحسد عليه أمام شعوبها، وكان لرسامي الكاريكاتير عربا وأجانب في هذه الحرب الإعلامية مساهمة فعالة، منهم الرسام عمر بدور، فقد عمدوا عبر رابطة رسامي الكاريكاتير الدولية التي يجتمعون تحت مظلتها، على مواكبة ما يجري من أحداث في غزة يوما بيوم، منذ انطلاق المعركة في يومها الأول ضد قوات الاحتلال، فكانوا يدونون الحرب برؤية نقدية ساخرة عبر لوحاتهم، راصدين فيها انحياز المجتمع الدولي لقوات الاحتلال، وكاشفين الجرائم التي ترتكب بحق الأطفال والمدنيين الفلسطينيين. وقد تعرض العديد من هؤلاء الرسامين، خاصة الغربيين منهم، إلى المضايقات والتهديد بالقتل والطرد من الصحف التي يعملون فيها.

أين الرسام العربي

إن تجربة عمر بدور مع بقية زملائه من رسامي الكاريكاتير في التفاعل مع القضية الفلسطينية، أعادت إلى الواجهة أهمية الفن في المعركة، باعتبارها سلاحا فعالا ومؤثرا، ومن غير الوارد التقليل من أهميته واستبعاده، لكن ما يؤسف له، أن عدد الرسامين العرب الذين استجابوا مع ما يجري اليوم في غزة، لا يتناسب مع حجم المعركة وخطورتها وأهميتها للنضال الفلسطيني، مقارنة مع عدد الرسامين الأجانب، الذين كان موقفهم على قدر كبير من المساندة للفلسطينيين، وهذا ما يمكن ملاحظته إذا ما دخلنا على مواقع التواصل الاجتماعي ومتابعة صفحات عدد كبير من الرسامين الذين ينتمون لجنسيات مختلفة، من البرتغال والبرازيل وإسبانيا وكوبا وأمريكا.
السيرة الذاتية للرسام عمر بدور تشير إلى أنه مواليد عام 1963. يحمل شهادة بكالوريوس في العلوم الأدبية والإسلامية. دبلوم غرافيك ديزاين، ودبلوم في الخط العربي. عضو رابطة الفنانين التشكيليين /الأردن، وعضو جمعية المرسم الجوال /الأردن وعضو جمعية الفن التشكيلي /الأردن. يعمل في مجال التصميم والإخراج الصحافي منذ 30 عاماً ورسام كاريكاتير وكاتب وقاص. شارك في العديد من المؤتمرات الفنية والمعارض التي تُعنى بالقضية الفلسطينية، ويعود إليه الفضل في تأسيس فكرة معرض فلسطين الدولي «حكاية ولون» الذي تنقل في عدد من البلدان منها، تركيا والبوسنة والهرسك والسودان وكندا وفلسطين والأردن.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.