معجزة فلسطينية: أين ذهبت رمال الأنفاق؟ حجم رمال الأنفاق يعادل حجم الأهرامات الثلاثة مجتمعة / أحمد بشير العيلة
أحمد بشير العيلة ( فلسطين ) – الثلاثاء 30/1/2024 م …
كانت الفرصة الوحيدة التي زرت فيها بلادي السليبة في 2011، بعدما سُمح لنا نحن النازحين بأن نذهب إلى قطاع غزة درءاً لتداعيات الربيع العربي، لكن الأشهر الخمسة التي قضيتها هناك كانت تعادل عمراً بأكمله، فكان لكل حبة رمل في قطاع غزة حديث معي، حتى أني وجدت نفسي قارئاً جيداً لكل شبرٍ في القطاع جمالياً وتاريخياً واجتماعياً، وأنجزت الكثير من تلك القراءات، لكن أكثر ما أثار انتباهي هو قدرة الفلسطينيين على التفوق على الحياة في نواحي عدة، علمياً وتقنياً واقتصادياً، إلا أن أكثر الظواهر التي أثارت انتباهي حينها هي ظاهرة الأنفاق، وكنت أنوي صراحة أن أكتب كتاباً عن تلك المعجزة الفلسطينية من النواحي الهندسية والفيزيائية والاقتصادية، إلا أن الهاجس الأمني في القطاع والوضع الحساس جداً لأي قادم من بعيد، جعلني أتراجع خوفاً من أي تهمة أنا بمنأى عنها، ناهيك عن الانضباط الشديد في التزويد بالمعلومات، ومع التفوق العسكري الفلسطيني على بطش العدو الصهيوني في المنازلات الأخيرة، جعلني أرجع بذاكرتي للوراء معززاً إياها بحساباتٍ فيزيائية لأدرك من خلالها حجم المعجزة.
كانت مدينة رفح ورشة ضخمة لحفر مئات الأنفاق، إذ تجاوز عددها آنذاك في 2011 ألف نفقٍ، دخلت بعضها بفضول الإعلامي وبرؤية الفيزيائي لأتعرف عليها وعلى أنواعها، بل أني تواصلت مع الأهالي كبار السن لأعرف تاريخها.
معظم المصادر المنشورة تشير إلى أن أول نفقٍ اكتشف كان في 1983 بعدما أُعيد رسم الحدود في عام 1982 بعد معاهدة كامب ديفيد بين مصر والكيان، حيث تم تقسيم رفح إلى جزأين: مصري وفلسطيني. وكانت الأنفاق تبدأ من أقبية منازل مدينة رفح من جهة الحدود، وتنتهي عند منازل مدينة رفح من جهة أخرى. لكن استقصائي الصحفي وهب لي معلومات من الأهالي أن الأنفاق شيدت منذ نهاية الستينيات من القرن الماضي بعد احتلال الصهاينة لقطاع غزة، وقد كانت في البداية أنفاقاً اجتماعية، قليلة العدد وسرية، حرصاً على الأسرة الواحدة أن تلتئم بعد أن بترت أوصالهم السياسة، وظل الأهالي يتبادلون الزيارات بينهم بهذه الطريقة بعيداً عن السلطات التي مرت على قطاع غزة أياً كانت، حتى أن مجموعة من الأشخاص أفطروا معي في رفح في رمضان حين عزمني أستاذ جامعي، وقد جاؤوا بسهولة من أحد الأنفاق، ورجعوا بعد الإفطار، وهو حدث اعتيادي لسكان الجانبين من عقود.
مر بناء الأنفاق بمراحل تطويرية متعددة، فكلما ازدادت الخبرة وتوافرت الإمكانيات ازداد قطر النفق وقويَ تسليحه، وحسُنت مرافقه وخدماته، فالخبرة في إنشاء الأنفاق لم تكن سهلة فطالما ذهبت أرواح بانهيار نفقٍ ما فوق حافريه، وقد يأتي يوم وندون أسماء شهداء الأنفاق تقديراً لعرقهم وجهدهم، أولئك الذين كانوا يحفرون بأيديهم بواسطة فؤوس وجواريف يدوية تماماً، يعبؤون الرمال في قاطرة من الحبال وأنصاف أوعية بلاستيكية تجر للخارج مع كل امتلاءة لها؟
وقد مرت الأنفاق بأشكالٍ عدة منها ذات الفتحات المنحنية البدائية، ومنها متوسطة الإمكانيات المسلحة بالأخشاب خوفاً من الانهيارات، ومنها الأكثر إبداعاً ذات الفتحات العمودية المزودة برافعات هيدروليكية أو ميكانيكية، وسكك حديدية صغيرة تمتد لأكثر من كيلو متر، وفي تلك الفترة تنوعت أنفاق رفح بين الخاصة بالمسافرين الذين تقطع لهم التذاكر للسفر النفقي بشكل شبه رسمي، وأخرى خاصة بالبضائع في شكلٍ فريدٍ وتاريخي لمقاومة الحصار، وكأن المكان مطارٌ للسفر عبر الزمن.
في الوسط والشمال كان هناك إبداعٌ من نوعٍ خاص، أنفاق تحفر طوال الوقت دون أن تدري أين ولماذا، في تحدٍ رهيبٍ لكل وسائل المراقبة الدقيقة جداً من قبل العدو، من طائرات استطلاع لا تتوقف البتة ولا يتوقف صوتها المزعج، ومن كاميرات عالية الدقة مركبة على مناطيد بيضاء محيطة بالحدود تمسح وجوه المارة، ومن مناظير الجنود المحيطين بالقطاع إحاطة الإسوار بالمعصم، لم تكن تلك الأنفاق الشمالية والشرقية تجارية ولا اجتماعية بل كانت عسكرية، وقد بدأت بمغامرة فريدة حين حفر المقاومون الفلسطينيون أنفاقاً تمتد لأكثر من نصف كيلو مترٍ لإنجاز عمليات فدائية خلف خطوط العدو، ولعل أشهرها تفجير موقع محفوظة العسكري الصهيوني. بواسطة نفق قارب طوله على نصف كيلو متر وبعمق 7 أمتار، وقد نجح المقاتلون في زرع متفجرات بوزن طنين متفرقين على 3 تفريعات من النفق أسفل المعسكر الصهيوني بـ80 سنتيمترا؛ ليتم تفجير الموقع وقتل وجرح من فيه. وقد كان ذلك بعيد انتفاضة الأقصى.
أما الملفت؛ والذي يدعو للاندهاش، وبرز على شكل سؤالٍ ألح وما يزال يلح عليّ، أين تذهب كميات الرمل الرهيبة التي تخرج من حفر الأنفاق؟ إن إخفاءها والله لعمل يوازي في عبقريته عملية إنشاء الأنفاق نفسها، ولو عرفنا أن النفق الذي أعد لعملية موقع محفوظة الذي أشرت له أخد شهراً في حفره وفوهته كانت أمام نقطة مراقبة للعدو، وقد أبدع المقاومون في التخفي والتأني الشديد في سحب الرمال.
ساعد المقاتلين في حفر أنفاقهم أن تربة قطاع غزة ذات طبيعة رملية، وهو الأمر الذي سهل حساباتي نوعاً ما وأنا أدرس ظاهرة رمال الأنفاق المفقودة، فكل ما أستطيع فعله إلى الآن إجراء حساباتٍ فيزيائية توصلني إلى ما يدفعنا جميعاً للتفكير في تلك العبقرية الإنشائية الفلسطينية.
إن إخراج الرمل المدكوك يعرضه للتفكك وتداخله مع الهواء بتباعد حبيباته، أي تقل كثافته ويزيد حجمه بمقدارٍ يتراوح بين 20% – 30%، وبمعلومية كثافة التربة الرملية التي تبلغ في المتوسط 1800 كجم/متر مكعب، وبتقدير متوسط القطر النفق (1.5 م) يكون حجم كمية الرمال المستخرجة من 100م طولي للنفق 918 متراً مكعباً، وعندما نعرف أن طول الأنفاق العسكرية فقط الذي أعلنت عنه وسائل الإعلام وهو من 500 إلى 600 كم، أي 550 كم في المتوسط، فإن حجم كمية الرمال المستخرجة من هذه الشبكة يساوي تقريباً 5 مليون متر مكعب، وهو ما يساوي حجم أهرامات الجيزة مجتمعة، والسؤال الآن؛ أين ذهبت هذه الكمية الضخمة من رمال الأنفاق، والتي إن تم تجميعها لكان لنا في غزة أهرامات توازي أهرامات الجيزة في ضخامتها. السؤال لم يُطرح بعد، وسيأتي وقتٌ نكتشف فيه كيف تم التصرف مع كل تلك الكميات الرهيبة، بالفعل إنها العبقريات الفلسطينية.
التعليقات مغلقة.