عقيدة الصمود في غزة.. كيف يُصنَع الإنسان المقاوم؟
الأردن العربي – الثلاثاء 30/1/2024 م …
بعد أكثر من 100 يوم على الحرب في غزة، ما زال الصبر والاحتساب طعام وشراب الغزاويين المحاصرين في الأرض التي كتب عليهم لأجلها القتال وهو كرهٌ لهم، وبإزار “وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم”، يربط أهل غزة على قلوبهم، متسلّحين بقوة الثبات الذي بلغ صداه العالم أجمع.
درسٌ في العقيدة
ببالغ الرضا والصبر والاحتساب، أوصل الشعب الفلسطيني في غزة رسالة مظلوميته إلى العالم، إذ اكتسحت صورة صبره وثباته كل وسائل التواصل الاجتماعي، واقترنت عبارة “درسٌ في العقيدة” بكثير من المقاطع المصوّرة لرد فعل الفلسطينيين لحظة تدمير طائرات الاحتلال الإسرائيلي منازلهم، أو استشهاد أحد أفراد عائلاتهم، وفي بعض الأحيان، جميع أفرادها.
من أبرز تلك المشاهد التي وصفها رواد مواقع التواصل الاجتماعي بأنها “درس في العقيدة”، حين ردّد المسعف الفلسطيني المفجوع باستشهاد ابنه في أحد مشافي غزة: “ما تعيطش يا زلمة. الله خلقنا والله بياخدنا والله يفعل ما يريد، واحنا الحمد لله صابرين”.
يتبعها مشهد آخر لشاب فلسطيني وصله خبر استشهاد كامل عائلته فرفع يديه إلى السماء قائلاً: “يا رب خذ من أرواحنا حتى ترضى. يا رب خذ من أولادنا حتى ترضى”.
مثل هذين النموذجين يتكرر كل يوم في قطاع غزة، منذ اليوم الأول لمعركة “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ليعبّر عن حالة شعبية فريدة يتحلى بها كل أطياف المجتمع الفلسطيني في غزة.
الحالة المجتمعية الإيمانية لدى أهل غزة
يتحدث الشاب الغزاوي حميد أبو وردة، وهو أحد المشاركين في مشروع “مخيم تاج الوقار” الذي أُطلق في قطاع غزة عام 2008 لتخريج عشرات الآلاف من حفظة القرآن الكريم، عن وجود أكثر من 1300 مركز قرآني في غزة تضم 9000 حلقة قرآنية، تشمل المساجد والمدارس والجامعات والمشافي ومراكز الشرطة والسّجون، إذ اشتهرت غزة بعد هذا المشروع بلقب “مدينة القرآن”.
من هنا، يمكننا أن نستشفَّ علاقة خاصة تربط الغزاويين بالقرآن الكريم، وتمنحهم مقومات الثبات والصبر، وتعينهم على تجاوز ويلات الحرب.
وبالرغم من ظروف النزوح والحرب، فإن عمل مراكز تحفيظ القرآن لم يتوقف، إذ خصّص متطوّعون فلسطينيون في كل مراكز الإيواء خيماً أو غرفاً لتحفيظ وتعليم القرآن لجميع الأعمار والفئات.
ولأن الشعب الفلسطيني في غزة معرضٌ بحكم الاحتلال إلى حروب دائمة وحالات طارئة، لم تكن علاقته بالقرآن الكريم تقتصر على التلاوة والحفظ فقط، بل وجد الغزاويون في التعمق في معاني القرآن الكريم والتأثر بمدلولاته والتناغم مع مقاصده والتزود من أسراره وهالته الإيمانية حاجة ملحة لتربية الاستعداد في نفوس كل فئات المجتمع، من أجل مواجهة مخاطر الحرب والتهيؤ الدائم للتصدي والمقاومة، فكان لمراكز تحفيظ القرآن دور آخر تعبوي ينمّي روحيّة التّضحية والفداء والبذل مشفوعٌ بدور التلاوة والحفظ.
من هنا، نفهم مكنونات القوة التي استُجمعت في طفلة فلسطينية تهجرت مع عائلتها إلى الخيام بعد أن دمر الطيران الإسرائيلي منزلها فوقفت أمام كاميرا قناة “العالم” لتقول: “حضلني على أرضي صامدة لآخر نقطة دم في روحي. أطفال فلسطين ما يتخلوش عنها. أنا دمي فلسطيني”
كذلك، يمكننا أن نفسر العزيمة التي سرت في أنامل زوجة الصحافي الفلسطيني أحمد ماهر خير الدين، فنعت زوجها وأفراد عائلتها عبر حسابها في فيسبوك بعد لحظات من استهداف الطائرات الإسرائيلية منزلهم بالقول:”بابا باسم محمد الكرد، ماما هيام عبد القادر مصطفي، جوزي أحمد ماهر خير الدين، أخوي عبد القادر الكرد، نور الدين الكرد، أحمد الكرد، أختي بسمة الكرد، أختي ياسمين الكرد وولادها عبيدة ومريم ويزن، جوز المصابة مريم الكرد.. عطية عفانه شهيد، عم جوزي أبو عبد الله خير الدين، كلهم بضيافتك يا رب، اللهم آجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيراً منها، يا رب اربط ع قلبي، يا رب اجعلني من الصابرين، ألف رحمة ع روحكم يا حبايب القلب”.
لتجسد بذلك شريحة واسعة من النساء الفلسطينيات في غزة اللواتي أظهرن مراسم الإرادة والصبر في مواسم العزاء والقهر، وأعطين دروساً في العقيدة، وصلت إلى كل العالم وتفاعل معها الناشطون.
فقد علقت إحدى الشابات البريطانيات في مقطع مصور نشرته صفحة “AL Arab in UK” في فيسبوك قائلة: “ما زال الفلسطينيون المسلمون يقولون الحمد لله، الله يفعل ما يريد”
كذلك، انتشر مقطع لشابة أميركية في منصة “Tik Tok” تبكي قائلةً: “هؤلاء هم المؤمنون، ما هذا الأمل الذي لا يقهر لديهم؟!”، وأخرى قالت: “لا ييأسون من الحياة أبداً، الله وحده هو من يخشونه!”.
فإذا كانت العلاقة الخاصة مع القرآن الكريم التي استحوذ عليها أهل غزة هي أحد أهم عوامل الحالة المعنوية الإيمانية التي يواجهون بها اليوم المجازر والإبادة الجماعية التي تمارسها آلة الحرب الإسرائيلية بحقهم، على مرأى ومسمع من العالم، فما هي العوامل الأخرى لهذا الصبر والثبات؟
السرديّة الفلسطينية تتفوق في الميدان
لم تنطفئ السردية الفلسطينية في ذاكرة الشعب الغزاوي منذ آخر معركة خاضتها غزة ضد الاحتلال قبل اندلاع “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، فكان للعمليات الفدائية المستمرة في الضفة الغربية وجنين ونابلس والقدس دور فاعلٌ في تغذية الوعي الشعبي الفلسطيني بفنون السّرديات الفدائية المقاومة، لتتلاحم مختلف القوى الشعبية وحركات المقاومة في تقديم الدعم والتعاطف والتعاضد مع شبان عرين الأسود وعملياتهم الفدائية، التي أربكت الداخل الإسرائيلي، وفجرت الوضع الأمني فيه.
تلك السرديات التي تفوقت واقعيتها على سيناريوهات هوليوود جعلت الشهيد تيسير أبو طعيمة القيادي في كتائب القسام، يستقبل رصاصة الموت وهو ساجد رافضاً الاستسلام، وذلك حين استهدفته طائرة إسرائيلية أثناء تنفيذه عملية ضد قوات الاحتلال.
وشغفاً بتلك السرديات أيضاً، تحولت كلمة “معلش” ذات التنهيدة العابرة للحدود والتي قالها الصحافي وائل دحدوح وهو يستقبل نجله محمود شهيداً، فتحولت إلى أغنية ثورية عنوانها: “معلش.. كلنا فدا فلسطين”.
شهداء الأمس جزء من معركة اليوم
أيضاً كان لتشخيص معاني آيات القرآن الكريم وتجسيد أسراره على أرض الواقع من قبل قيادات المقاومة الفلسطينية الأوائل دور بارز في تربية الحالة الإيمانية في نفوس الجماهير الفلسطينية في غزة خصوصاً، وفي فلسطين المحتلة عموماً، كالشهيد الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي الذي سطّر قبل عشرين عاماً مقولته المشهورة، التي ظلّت حاضرة بزخم في وعي الشعب الفلسطيني: “هل نحن خائفون من الموت؟ إنه الموت.. سواء بالسّكتة القلبية أو بالأباتشي.. أنا أفضل الأباتشي”، وقد قالها قبيل استشهاده بأيام، حيث قصفت طائرات الاحتلال الإسرائيلي سيارته في قطاع غزة، وعُرف على إثرها بالشهيد الذي اختار طريقة موته.
كذلك لم يغيّب الموت عن ذاكرة الشعب الفلسطيني القائد الراحل أحمد جبريل، الذي ترك مشفاه في يوغسلافيا، وحضر إلى بيروت ليلبّي نداء المقاومة عام 1982.
وحين سئل كيف ترك علاجه في المستشفى وقدم إلى بيروت رغم حالته الصحية الحرجة، أجاب قائلاً: “أفضّل ألف مرة أن أستشهد مع رفاقي في معركة الدفاع عن الثورة الفلسطينية، على أن أموت على سريري في مستشفى بعيداً من أرض المعركة”، كما قدّم نجله الشهيد جهاد على درب التحرير والنصر عام 2002.
لم أر أحداً في غزة ينبطح على الأرض
من خلال تلك العوامل الثلاثة نستطيع أن نستنتج ثبات المجتمع الفلسطيني وتماسكه، ونستطيع أن نفسر كل تلك الظواهر العجيبة من الصبر والاحتساب والتي برع أهل غزة في تجلياتها من تحت أنقاض الأبنية المهدمة، ونستطيع أيضاً أن نبرر علامات الاستغراب التي بدت على ملامح مراسل قناة “هابر تورك” التركية، حين أجرى مقارنة بين المجتمع الإسرائيلي والمجتمع الفلسطيني في غزة بعد الحرب قائلاً: “في غزة لا توجد صفارات إنذار والناس يقبعون مباشرة تحت القصف العنيف. براً بحراً جواً تنهمر القنابل، لكني لم أر أحداً في غزة ينبطح على الأرض، حقاً لم أر طفلاً فلسطينياً أو امرأة تنبطح من القصف في غزة. كل ما سمعته هو حسبنا الله ونعم الوكيل وإن كان سيموت يردد: أشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمداً رسول الله”
بينما المجتمع الإسرائيلي، في المقابل، يعاني فيه اليوم أكثر من 300 ألف مريض نفسي، بحسب ما أعلن عنه “رؤساء مراكز الصحة العقلية” في رسالة نقلتها صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، يحذرون فيها من أنّ نظام الصحة العقلية في الكيان على وشك الانهيار التام.
التعليقات مغلقة.