المقاومة في لبنان تبدع في حرب استنزاف الاحتلال وتفرض عليه قواعد اشتباك جديدة / حسن حردان

حسن حردان ( لبنان ) – الأربعاء 31/1/2024 م …




يؤكد تطور عمليات المقاومة الإسلامية والوطنية في لبنان، كماً ونوعاً وقدرة وفعالية، إبداعها في خوض حرب استنزاف مؤثرة جداً ضد كيان الاحتلال الصهيوني، نصرة للشعب الفلسطيني ومقاومته البطلة في قطاع غزة في مواجهة العدوان الإسرائيلي، وحماية للبنان، مكرّسة معادلات جديدة في ردع العدو الصهيوني، ومفاقمة مأزقه التكتيكي والاستراتيجي، وكشف مدى تزايد عجز وتآكل قوته الردعية أمام المقاومة، التي نجحت تكتيكاتها العسكرية في تكبيل أيدي حكومة الاحتلال، الأكثر تطرفاً وعدوانية في تاريخ الكيان المؤقت، وجعلتها في حالة من الارتباك والتردّد في خياراتها العسكرية، وفرضت عليها اللجوء إلى سيدها، وحامي الكيان، الولايات المتحدة، للبحث عن حلول دبلوماسية تخرجها من هذا المأزق الذي ادخلتها فيه المقاومة.

أولاً: إبداع المقاومة في خوض حرب الاستنزاف
1 ـ القدرة على إدارة معركة عسكرية، أقرب إلى التقليدية، تحت سقف الحرب الواسعة، ووضع الخطط الدقيقة التي ترسم خوض هذه المعركة وتحقيق الغايات الأساسية منها.. هذه المعركة فرضت على المقاومة خوض حرب مواقع مع جيش الاحتلال، لم تعهدها من قبل، لأنها بالأصل قامت وتقوم على خوض حرب المقاومة الشعبية المسلحة التي تعتمد بشكل أساسي تكتيكات حرب العصابات في مواجهة جيش احتلال يمتلك أحدث الأسلحة من دبابات وطائرات ومزوّد بتقنيات التكنولوجيا العسكرية المتقدمة..
2 ـ امتلاك المقاومة العقول، فإلى جانب امتلاك هذه العقول العلم العسكري واستخدام التكنولوجيا، كشفت أيضاً عن تمتعها بالخبرات العسكرية التي حصلت عليها خلال حروبها مع جيش الاحتلال، وفي الحرب ضدّ قوى الإرهاب في سورية، الى جانب معرفة دقيقة بالعدو وقدراته وأماكن تواجد وتموضع قواته، والقدرة على ملاحقته باستمرار في كلّ موقع جديد يستحدثه بدلاً عن المواقع التي تمّ تدميرها، بما فيها منصات التجسّس التي أقامها العدو بعد النجاح في تدمير كلّ منصاته التجسسية مما أعمى عيونه وجعله يعتمد على طائراته المُسيّرة لسدّ هذه الثغرة الكبيرة..
3 ـ المزج بين حرب المواقع وتكتيكات حرب العصابات، إنْ كان لناحية إلزام العدو بسقف المعركة وحدودها، أو لناحية استخدامها بعض أسلحتها النوعية، بحدود المعركة، وحجمها، بشكل متدرّج ويتناسب مع سلوك العدو والقواعد التي حدّدتها هي، بحيث زادت على نحو ملموس من نوعية الأسلحة التي تستخدمها، من صاروخ كورنيت الذي طوّرته، والطائرات المُسيّرة باختلاف أنواعها، ومن ثم صاروخ بركان ذات القدرة التدميرية الكبيرة، وأخيراً صاروخ فلق1 الدقيق الإصابة، حيث أدّت هذه الأسلحة وظيفتها الملحوظة في إصابة أهدافها في شمال فلسطين المحتلة في عمق وصل إلى عشرة كيلومترات من الحدود، وإحداث الخسائر الجسيمة في قواعد جيش الاحتلال وجنوده، وهو ما فاجأ العدو وصدمه وأربك خططه العسكرية في محاولته الخروج من هذه القواعد والتكتيكات التي فرضتها عليه المقاومة…
4 ـ إماطة اللثام عن مدى التطور النوعي في قدرات المقاومة، كماً ونوعاً، وعن كفاءة قدراتها القتالية، التي تتسم بالفعالية، على الرغم من انّ المقاومة لم تستخدم، حتى الآن، أكثر من عشرة بالمئة من قدراتها.. مما يوصل رسالة قوية لقادة العدو بانّ المقاومة تملك من القدرات الكبيرة، المعلومة وغير المعلومة لديهم، وهي جاهزة للذهاب إلى أبعد مدى في المعركة، ولا تهاب التهديدات الاسرائيلية المباشرة وغير المباشرة بشن الحرب الواسعة ضد لبنان وتدميره على غرار ما فعله جيش العدو في قطاع غزة، والمقاومة بما تملك من إمكانيات قادرة أن تفعل المثل في العمق الصهيوني، وليس فقط في شمال فلسطين المحتلة…

ثانياً، تأثير وتفاعلات حرب الاستنزاف على الكيان
1 ـ تدمير مواقع جيش الاحتلال وأجهزة ومنصات تجسسه الإلكترونية المتطورة المكلفة لكيان العدو على طول الحدود مع لبنان وفي عمق عشرة كيلومترات، وكذلك تدمير المواقع والمنصات الجديدة التي عمد إلى اقامتها.. بديلا عن تلك تم تدميرها.
2 ـ إلحاق خسائر كبيرة في صفوف قوات الاحتلال، اعترف الناطق العسكري الصهيوني بجزء ضئيل منها وتكتم على الأعداد الحقيقية لقتلاه وجرحاه تجنباً لتداعياتها على الرأي العام الإسرائيلي المؤيد بأغلبيته، حتى الآن، للحرب على قطاع غزة، وحتى مع لبنان، لكن مستشفيات الاحتلال في شمال فلسطين المحتلة كشفت بياناتها، بتاريخ 20 تشرين الثاني الماضي، عن استقبال مئات الجرحى، مما يؤشر إلى أنّ حجم القتلى الذين سقطوا كبير أيضاً حتى التاريخ المذكور.
3 ـ إجبار أكثر من مئة ألف مستوطن على النزوح من مستوطنات الشمال، مما رتب على كيان الاحتلال أعباء مادية لتوفير إقامات بديلة لهم إلى جانب الخسائر الاقتصادية التي تكبّدوها إنْ كان نتيجة التوقف عن العمل.. او نتيجة الخسائر الاقتصادية بفعل توقف الزراعة والسياحة في الشمال، مما زاد من الكلفة الكبيرة للحرب على قطاع غزة، وفاقم العجز في الموازنة الإسرائيلية.
4 ـ أدى هذا الاستنزاف الذي يعاني منه كيان الاحتلال وجيشه ومستوطنيه، إلى تداعيات تمثلت في ارتفاع مستوى الانتقادات والضغط على الحكومة الصهيونية ومطالبتها بإيجاد حلّ عاجل لأزمة النزوح المستمرة للمستوطنين وتأثير الحرب في الشمال على الاقتصاد الإسرائيلي إلى جانب التحذير من مخاطر التورّط في حرب واسعة مع المقاومة في لبنان.. وفيما يلي عينات من هذه المواقف:
ـ رئيس حزب شاس اليميني ارير درعي قال: «الوضع الأمني في الجنوب والشمال يسلب النوم من عيني، وبدأت الاستعانة بحبوب منومة للنوم»،
ـ زعيم المعارضة يائير لابيد قال: رؤساء المجالس المحلية «بدلاً من إجلائهم أخلينا أنفسنا».
ـ القناة 12 الإسرائيلية قالت: «الإسرائيليون في الشمال ينهارون، والتأثيرات لا تقتصر على الوضع الأمني بل تمتدّ الى الوضعين النفسي والاقتصادي ايضاً، حيث يتحدث المستوطنون عن ضائعة اقتصادية كبيرة»، فيما تحدث الإعلام الإسرائيلي عن قلق المستوطنين من العودة إلى بيوتهم وعن الاتهامات التي يطلقونها ضدّ الحكومة حسبما نقلت عنهم صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية.
ـ أما المعلقون والمحللون الاسرائيليون فقد قالوا: «مئة ألف من سكان الشمال لا يزالون خارج منازلهم ونحن لا نزال في المعادلة نفسها مقابل حرب الله، لا تغيير جوهري في الاستراتيجية على الحدود الشمالية، ونرى انّ فرص التوصل إلى اتفاق عبر الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين تتراجع، وبقي تهديد سكان الشمال على حاله، وبقيت قوات الرضوان عند الحدود.. الوضع لا يُطاق وسكان الشمال لا يرون أفقاً لموعد عودتهم إلى منازلهم، حزب الله نجح في إخلاء المستوطنين من الحدود.. «لا أشجع المستوطنين بالعودة إلى كريات شمونة» (الخالصة) كما قال أحد المعلقين، مضيفاً، أقترح بأن ينصتوا إلى تعليمات الأجهزة الأمنية بعد العودة إلى المدينة إذا لم يكن هناك ضرورة، فنحن رأينا نوعية الأسلحة التي تستخدم ضدنا ولا أنصح أحداً بالعودة».
ـ بدوره قال الجنرال في الاحتياط يتسحاق بريك، «إنّ الجيش غير مؤهّل للقتال في حرب واسعة في الشمال، وانّ قواعده مقابل لبنان ستنهار في حال قام حزب الله بالهجوم.. وحسب تقرير مقاتلي سرية الاحتياط التي خدمت في قواعد الحدود الشمالية قبل ثلاثة أشهر من حرب السيوف الحديدية، ليس فقط انه لم يتغيّر شيء للأفضل، بل العكس، فقد تواصل التدهور بكلّ خطورته حتى اليوم».. وحذر بريك من الذهاب إلى حرب واسعة ضدّ لبنان قائلاً: «تخيّلوا ماذا سيحدث لو هاجمت قوات حزب الله عبر آلاف الجنود من قوة الرضوان تزامناً مع ضربة السابع من أكتوبر 2023.. لو هاجمنا حزب الله فلن تكون قواعدنا وقواتنا قادرة على الوقوف في وجه الحزب الذي سيجتاح الجليل ويدخل الثكنات العسكرية بحرية ترافق آلاف الصواريخ والقذائف والطائرات المُسيّرة على الجبهة الداخلية يومياً، مما سيتسبّب في دمار وخسائر فادحة بالأرواح، وعندها كنا سنستفيق في اليوم التالي على يوم أسود وكنا سننتظر أن تنقذنا أعجوبة…»

ثالثاً: تآكل قوة الردع الصهيونية ومأزق الحكومة الإسرائيلية
انطلاقاً مما تقدّم يمكن القول إنه بعد مرور ثلاثة أشهر ونصف الشهر على بدء المقاومة حرب استنزاف العدو، تبيّن بشكل واضح تزايد عجز وتآكل قوة الردع الصهيونية، حيث ظهر جيش الاحتلال فاقد القدرة على تغيير قواعد الاشتباك التي فرضتها المقاومة في هذه المعركة رغم محاولاته لتغييرها وفرض قواعده للجم وردع المقاومة لكن من دون جدوى.. فيما أكدت المقاومة نجاحها في خوض وإدارة معركة مكلفة للاحتلال، وفق تكتيكاتها الجديدة التي اعتمدتها، وبرهنت على كفاءتها ومدى التطور النوعي في أدائها القتالي، وقدراتها التسليحية النوعية التي ظهرت حتى الآن جزءاً يسيراً منها، وعلى نحو جعل العدو في حالة من الصدمة والارتباك والمأزق المتنامي نتيجة عاملين:
العامل الأول، ارتفاع مستمر في الخسائر البشرية والاقتصادية والمادية، وما تعنيه من تداعيات تفاقم من أزمات الكيان الناتجة عن الكلفة الباهظة للحرب في غزة في ظل الفشل المتواصل لجيش الاحتلال في تحقيق الأهداف التي أعلنت عنها حكومة الحرب الصهيونية.
العامل الثاني، التردّد في الإقدام على شنّ حرب واسعة ضد لبنان لمحاولة الخروج من دائرة النزف التي أدخلته فيها المقاومة، رغم تهديدات المسؤولين الصهاينة للبنان، لأنه يعرف جيداً أنّ الحرب مع المقاومة ليست سهلة ومكلفة جداً للكيان.. صحيح انّ جيش الاحتلال قادر على تدمير لبنان وإلحاق خسائر مهولة به، لكن المقاومة أيضاً باتت تملك القدرة على إحداث تدمير مماثل في العمق الصهيوني، وليس فقط في الشمال، وهي تحوز على الأسلحة التي تمكنها من ذلك.. وفيما المقاومة لديها عمق جغرافي كبير يستطيع أهالي الجنوب والضاحية اللجوء اليه لتجنب القصف الصهيوني.. فإنّ المستوطنين الصهاينة لن يجدوا مكاناً آمناً باعتراف الجنرال الإسرائيلي يتسحاق بريك، ولن كون أمامهم سوى البقاء في الملاجئ أو مغادرة الكيان عبر البحر، اذا تمكنوا من ذلك.. وفي مقابل جاهزية واستعداد المقاومة لخوض هذه الحرب إذا فرضت عليها، فإنّ جيش الاحتلال يعاني من التعب والإنهاك والنزف من الحرب في غزة وهو لا يملك الجاهزية لخوض هذه الحرب الآن.
من هنا لجأت حكومة العدو إلى واشنطن لمساعدتها على إيجاد حلّ دبلوماسي يوقف القتال على جبهة لبنان، لكن المبعوث الأميركي هوكشتاين الذي أرسلته إدارته على عجل إلى لبنان وكيان الاحتلال لتنفيذ هذه المهمة فشل في تحقيق ما تصبو اليه حكومة العدو لأنه سمع من لبنان الرسمي وبصورة غير مباشرة من المقاومة، كلاماً واضحاً ان لا بحث في وقف الحرب قبل وقف النار في غزة.
من هنا فإنّ المقاومة وبسبب القدرات النوعية التي باتت تملكها من صواريخ دقيقة وغيرها، نجحت في تجنيب لبنان، الحرب الواسعة المدمّرة، وفي نفس الوقت انخراطها في معركة نصرة ودعم غزة وتمكين مقاومتها البطلة من تحقيق الانتصار، محققة بذلك هدفين مهمين:
الهدف الأول، تأكيد وحدة المعركة والمواجهة مع الاحتلال وان شعب فلسطين لم يعد يقاتل لوحده، بعد ان باتت تقاتل معه المقاومة في لبنان، وكذلك المقاومة في العراق واليمن الثائر وسورية .. وقد أدى ذلك إلى رفع معنويات الشعب الفلسطيني ومقاوميه الذين صمدوا صموداً اسطورياً أذهل وفاجأ العالم أجمع…
الهدف الثاني، تأكيد أنّ سلاح المقاومة، ولا سيما صواريخها الدقيقة، هي التي تحمي لبنان وتلجم العدوانية الصهيونية. ولو كانت المقاومة لا تملك مثل هذه القدرات النوعية لكان لبنان واجه ما واجهته وتواجه غزة لأنّ المقاومة الفلسطينية ليس لديها هذه القدرات لفرض معادلة مماثلة على العدو الصهيوني الذي أوغل في حرب الإبادة ضدّ أبناء قطاع غزة.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.