روايات التهجير الفلسطيني: نساء غزة / فيحاء عبد الهادي

فيحاء عبد الهادي ( فلسطين ) – الأربعاء 31/1/2024 م …

رنَّت في أذني عبارة ردّدتها صديقة غزّاوية تقيم في القاهرة، وقلبها وعقلها مع عائلتها في غزة:




«أتمنى أن أكون ساحرة وأطير إلى بيتنا وآخذ كل ما يؤرِّخ لماضينا، كنت محتفظة بأوراق امتحاناتي منذ الثانوية العامة، وصندوق الصور، ومقتنياتنا، وملابس بابا الله يرحمه.. حزينة جداً على مسح الذاكرة اللي بيعملوا عليه».
أعادتني عبارة الصديقة ميرفت إلى الصورة التي ارتسمت في مخيّلتي لما حمله المهجَّرون/ات من بيوتهم العام 1948، حين دُفعوا دَفعاً إلى الرحيل، بناء على شهاداتهم/ن، حيث ترك معظمهم/ن المقتنيات الشخصية، وحمل بعضهم/ن النزر اليسير من المال والمتاع والمصاغ والأثاث؛ لأنهم اعتقدوا أنهم سوف يغادرون بيوتهم لأيام معدودة لن تتجاوز السبعة أيام، ولم يدر في خيالهم يوماً أنهم سوف يغادرونها لمدة سوف تتجاوز السبعين عاماً ونيِّف.
*****
بِمّ فكَّر المهجَّرون/ات من شمال غزة ووسطها يوم تعرَّضوا للقصف الصاروخي، والمدفعي، وإطلاق الرصاص بكثافة على بيوتهم حتى أجبروا على تركها، ويوم تعرّضوا لإطلاق الرصاص من الدبابات على خيامهم، التي أقاموا بها حين نزحوا إلى خان يونس جنوباً لإجبارهم على الرحيل مرّة ثانية، حتى يصلوا إلى أقصى الجنوب في رفح؟
بمَ فكَّر صغارهم، صباياهم وشبابهم، كهولهم وشيوخهم؟
هل فكَّر الصغار بكرة القدم التي تركوها في بيوتهم، بألعابهم وألوانهم، وحيواناتهم الأليفة؟
هل فكَّر الشباب والصبايا بهواتفهم وأجهزتهم الرقمية وألعابهم الإلكترونية، بكتبهم أو بحقائبهم المدرسية والجامعية، بشهادات المدرسة والجامعة، بأبحاث تخرّجهم؟
هل فكَّرت الشابات بشكل خاص؛ بمستلزماتهن الصحية الضرورية، وبذكرياتهن الشخصية؟ هل فكَّر الكهول والشيوخ بهوياتهم الشخصية، وجوازات سفرهم، وأوراقهم الثبوتية بأنواعها؟
هل فكَّرت الأمهات والخالات والعمّات والجدات بالملبس والمشرب، بالمأكل والدواء، ببعض أدوات تجهيز الطعام أثناء رحلة التهجير المرعبة؟ وهل كان هناك وقت كاف لحمل أي شيء من مقتنياتهن القريبة إلى قلوبهن؟ هل فكَّرن بحمل أحد أثوابهن التراثية؟ وهل حملن بعضاً من مصاغهن الذهبي أو الفضي؛ ليكون عوناً اقتصادياً لهن ولعوائلهن حين تشحّ الموارد المادية؟
*****
جاءت شهادات بعض المهجَّرات من الشمال إلى الجنوب لتجيب عن بعض هذه الأسئلة، وتضيف إليها.
منذ لحظة تهجيرها، فكَّرت المرأة الغزّاوية بما تحتاجه عائلتها أولاً، قبل أن تفكر باحتياجاتها، خاصة أن العديد منهن أصبحن المعيلات لعوائلهن.
استعانت بخبراتها المتعددة، وحاولت أن تدبِّر ما تستطيع من أجل الحفاظ على حياة أبنائها أو أشقائها أو أحفادها. أخفت آلامها ما استطاعت، وغالباً ما تناولت وجبة واحدة في اليوم؛ حتى يشبع الأطفال، خاصة مع صعوبة الوقوف بالساعات على الطوابير (طوابير المياه والغاز والسكر والزيت والطحين)، خاصة طابور الخبز «كل البلد طوابير».
نظرت حولها، واستخدمت كل ما يمكن أن يعينها على سدّ بعض احتياجات الأبناء أو الإخوة أو الأحفاد. استخدمت الفانيلات القديمة (صوف)؛ لنسج طواقٍ تقي الأطفال من البرد، واستخدمت قطعاً من الخيش والورق، وأُخرى من بعض الملابس الصيفية؛ كبديل عن الفوط الصحية غالية الثمن، إن وجدت!
استخدم بعض النساء عباءاتهن لعمل مفرش للأكل؛ حتى لا يلسع البرد أجساد أطفالهن، وحين تنعدم وسائل تنظيف البيت كنَّ يبحثن عن مكنسة داخل البيوت المقصوفة، ويستخدمن بنطال بيجامة كممسحة لتنظيف أرض الغرفة التي يعِشن بها.
وبسبب نقص الوقود، وغلاء الأسعار، استخدمن الفحم، والحطب؛ لصنع الخبز ولطهي الطعام، وهما أمران أحلاهما مرّ:
«معاناة حقيقية تقعدي 3-4 ساعات تخبزي على الفحم في غرفة صغيرة، فيها أكثر من عشر أطفال، وتضطرّي تفتحي الشبابيك رغم البرد والصقيع، والنتيجة مرض وكحّة، بس شيء لا مفرّ منه، لازم نخبز علشان ناكل. بعدين اشترينا فرن طينة، خبزنا فيه أربع مرات، ومع غلاء سعر الحطب، وصعوبة الحصول عليه، والشتا والبرد رجعنا للفحم المتعب».
تتصرَّف النساء في كل المواقف؛ تبعاً لإمكانياتهن وما يتوفّر لديهن في البيئة المحيطة:
«الميّة مأساة، الحمام مأساة، كل أسبوعين ويمكن أكثر بيصحِّلنا تحميمة، بنجيب ميّة من المسجد، وبنولِّع حطب على السطح، وبنسخِّن لدرجة قريبة من درجة الغليان، وبنقسم السطل على 3 أطفال أو 2 كبار، وبنبرده».
وحين يصاب الكبار والصغار بالإنفلونزا – وهذا يحدث كثيراً جداً في الطقس شديد البرودة – تمسك النساء ورق دفاتر، تفركه من أجل أن يصبح طرياً، وتستخدمه كمنديل.
وحين تشحّ الموارد بشكل كبير، ومن أجل توفير ثمن طعام أو شراب أو ملابس ضرورية؛ تبيع النساء كل ما هو عزيز وأثير لديها، مثل الهاتف المتحرِّك، والملابس، وبعض الأثاث، وبعض أدوات الزينة، والمصاغ.
*****
كيف يلعب الأطفال في غزة؟ وما ألعابهم؟
يلعب الأطفال الصغار (2-10 سنوات) بعلب الفول، بكراتين وزجاجات فارغة، مضمون اللعبة: استلمنا كوبونات؟ لم نستلم؟ استلمنا مساعدات؟ لم نستلم؟
يلعبون بقماش أبيض يشبه ما يلبسه صانعو النحل، واللون أبيض بأبيض، يقولون: إن القماش يقي من البرد، لكنه يشبه الكفن، ويلبسوه أحياناً للموتى؛ ولذلك سمّاها الأطفال «لعبة الأكفان»؟ يلبسون الكفن، ويلعبون به كلعبة جميلة، متوفّرة ورخيصة:
«الولد شاري اثنين وجاي، وبيلعبوا فيه. أرخص إشي بالبلد، ما في إشي عنّا بشيكل، أرخص إشي بثلاث شواكل، بس الكفن بشيكل. على كل حال الحمد لله، أحسن من غيرنا».
أما الأطفال الأكبر قليلاً (فوق 10 سنوات)، فقد عرض بعضهم/ن الألعاب التي استطاعوا جلبها معهم/ن من غزة للبيع؛ كي يساعدوا عائلاتهم، ويبيع بعضهم/ن ما تصنعه أمهاتهم من شراب مثل الكَركَديه أو الشاي أو القهوة، ومن حلوى مثل العجوة والبسبوسة، ويبيعون حتى الملح؛ كي يساعدوا عائلاتهم أيضاً.
*****
في حادثة دالة وملهمة ومؤثرة: يقف الطفل عمر (14 سنة) – المهجَّر من بيته في حيّ التفاح بغزة إلى حيّ الجنينة في رفح – ساعات وساعات في طابور الغاز، ليجد أمامه رجلاً كبير السن يرتجف من البرد؛ ما دفعه لأن يخلع سترته الدافئة، ويُلبسها للرجل الكبير، ويعود للبيت دون جرة الغاز، ودون السترة الجميلة، مع ابتسامة تعلو وجهه، وإحساس غامر بالسعادة.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.